Skip to main content

Full text of "روايات بلزاك"

See other formats


بيلوائعي 


لللساة الإشاقة 


العريخ عا مطاق 


ترججت: الهمدس . 


منشورات وزارة الثقافة 
في الجمهورية العربية السورية 
دمشق ‏ 53و 


سلزائلعف 


0 
الملياةذ الإضانية 


ترعصنا لهمترس 3 


منشورات وزارة الثقافة ل 
فى المشيورية القرية السورية 
78 م 


الإنمات لنب : ناكمو 


البحث عن المطلق 


زروانتات تحلجتذاك 
م 11 0 


العنوان الاأصلى للكتاب: 


لخم ام 8 


للش ا 001110115 ذض[آ 
8501-0 شآ اط 118021810 ضا 
١55‏ 211105 


الملهاة الانسانئية - ©5أ03اناط 208016ه0© 13 /ر بلزاك ؛ 
ترجمة ميشيل خوري . - دمشق: وزارة الثقافة, م55 . - 
؟"ا'ص؛ 5لاسم . - (روايات بلزاك؛ )١5‏ 


المحتوى : البحث عن المطلق 


4478-١‏ قابيال نم *-العنوان الأول *- العنوان الثاتي 
#- العنوان الموازي ه- بلزاك ‏ 5- خوري /- السلسلة 
مكتية الأسد 


الايداع القانوني : ع -١٠الر ١‏ / هكؤةا 


البحث عن المطلق 


الرهداء 


إلى السيدة جوزفين «دومرك» دلانوا(١)‏ 
سيدتي: 

فليقدر الله لهذا المؤلف حياة أطول عمراً من حياتي. 

إن العرفان بالجميل الذي أمحضه لك والذي أرجى أن يعادل حناتك شيه 
الأمومي بالنسية لى. سيسةمر عند ذلك إلى مابعد النهاية المحدّدة لعواطفنا. 

هذا الامتياز السامي بأن نم بحياة مؤلقاتناء الوجود القلبي. يكفي؛ إن 
وجد اليقين في هذا الصدد: ليخقف جميع المتاعب التي يعانيها أولئك الذين 
يدقعهم طموحهم للفوزن بهذا الامتياز 

إنني أردد إذا: « فلتكن كلك مشيئة الله » 


دى يلزاك. 


)١(‏ جوزفين دلانوا (17/87 - 15 140) هي ابنة دانيال دومرك؛ الرجل الغني الذي كان متعهداً 
لتموين البحرية الملكيةء ثم تموين الجيش قي عهد الثورة, وبدء عهد الامبراطورية: وكان والد 
بلزاك برنار فرانسوا بلزاك يعمل عند دومرك الذي توفي في العام 18١7‏ عن ثمانية وسبعين 
عاماً , لكن الصداقة التي ريطت بين عائلتي دومرك ويلزاك استمرت فقد استدعى ابن دومرك» 
افخوست وه معو أنظيياً وصاحب مصسرف وإلد بلزاك إلى العمل معه قي باريس. أما 
جوزفين وهي أخت أوغوست وزوجة أحد المموتّين أيضاأ فقد كانت بدورها صديقة كريمة ووفية 
لعائلة بلزاك وخاصة لأونوره الذى كانت تخصنه بنصائحهاء ويمالهاء وكان يسميها «أمه 
الثانية» وقد قدّم لهذه الدائنة التموذجية في العام ١14717‏ مخطوطة «غاميارا» اعترافاً بحنانها. 
آما ابنة السيدة دلانوا . كميل دي مونتى؛ وقد كانت صديقة للور سورقيل أت بلزاك فإن 
التشابه يينها وبين جوزفين كلايس إحدى شخصيات رواية «البحث عن المطلق» ملفث النظر 


ةسمه 


يوجد في دوي(). بيت على شارع باريس, حافظ في شكله؛ وترتيباته 
الداخلية..وتفاصيله, أكثر من أي بيت آخرء على طابع الأبنية الفلمندية القديمة, 
المتلائمة ببساطة مع التقاليد الأبوية لتفك البلاد الطيبة, 
لكن قبل وصقه: يجب لمصلحة الكتاب. بيان ضرورة هذه التحضيرات 
الارشادية التي يحتج عليها يعض الجهلة والجشعين: الذين يفتشون عن 
الانفعالات دون أن يتعرضوا! للمبادىء الخلاقة لهاء ويريدون الزهرة دون البذرة, 
والوأد دون أشهر الحمل! لكن هل يمكن اعتبار الفن أكثر قوة من الطبيعة؟. 
إن إحداث الحياة البشرية, سواء العامة منها أو الخاصة» ترتبط ارتباطاً 
وثيقاً يالهندسة المعمارية» يحيث أن معظم الملاحظين يتمكنون من إعادة تمثيل 
الأمم أى الأفراد بجميع حقائق عاداتهم يدءاً مما تركوه من آثار عامة أو من 
فحص ذخائرهم الأهلية؛ فعلم الآثار بالنسبة للطبيعة الاجتماعية بمنزلة التشريح 
المقارن بالنسبة للطبيعة المتعضية. إن قطعة فسيفساء تكشف عن مجتمع 
كامل كما يكشف هيكل إيكتيوزور(") عما يتضمنه خَلّق كامل. فمن جهة وأخرى 
كل شيء يستنتج, وكل شيء يترابط؛ والسبب يوجه لتخمين النتيجة كما أن 
النتيجة تسمح بالصعود إلى السبب( ويذلك يتمكن العالم أن يعيد إلى الحياة 
حتى النواتىء المعيبة في العصور القديمة, من هنا جاعت الفائدة الكبيرة التي 
يوحي بها وصف معماري عندما لاتشوه فذلكة الكاتب العناصرء واكن لا يمكن 
لأي كان أن يربط هذا الوضف بالماضي بإسقاطات قاسية:؛ فالماضي بالتسبة 
للإنسان يرتبط بشكل فريد بالمستقبل: أليس الحديث إليه عما جرى هو تقريباً 
كالحديث إليه عما سيجري؟ أخيراً فمن النادر ألا يُذكرٌ رسم الأمكنة التي تجري 
فيها الحياة لكل واحد أين خابت أمائيه أى أين أزهرت آماله؛ ومقارنة بين 


)١(‏ دوي 1ا00113آ: يلدة في مقاطعة الشمال إلى الجنوب من مدينة ليل منطقة الفلاتدر. 
(؟) إيكتيوزور: (أو السمك الزاحف) كائن انتقالي بين الأسماك والزواحف وقد ظهر في الدور 
الجوراسي. 

(؟) يبدى في هذه المبادىء تأثير العالم كوقيه على بلزاك. 


بهت 


إلى رسم الحياة الفلاندرية: عتدما تظهره جِيّداً المتممات الأخرى. لماذا؟ ريما 
لأنه من يين جميع الكينونات المختلفة, هى الأحسن في إنهاء ترئدات الانسان. 
لكن لا يمكن أن ينفصم عن جميع الاحتفالات. وعلى جميع الروابط العائلية, 
وعن اليسر الوفير الذي يشهد على استمرار الرفاه. وعلى استراحة تشبه 
الغبطة؛ لكنه يعبر خاصة عن سعادة حسيّة بسذاجة تخنق الفبطة فيها الرغبة 
مع أنها تتداركها دائماً. 

أي كان الثمن الذي يمكن للانسان المتحمس أن يعلقه على صخب 
العواطف: فإنه لايرى أبداً بدون انفعال صور تلك الطبيعة الاجتماعية التي 
تنتظم فيها ضضربات القلب جيّداً بحيث أن الأناس السطحيين يتهمونها بالبرودة؛ 
فالجمهور يفضل عامة القوة غير العادية التي تطفح على القوة المنتظمة 
المستمرة؛ فليس لدى الجمهور الوقت أو الصبر ليتحقق من القدرة الواسعة التي 
تحتجب خلف مظهر متناسق؛ وهكذا فلأجل التأثير في هذا الجمهور الذي 
يجرقه تيار الحياةء فإن الهوى حتّى الصادر عن فتان كبير لا مقن له من الذهاب 
إلى أبعد من الهدف؛ وهذا مافعله ميشيل آنجء وبيانكا كايلو, والآنسة دي 
لاقاليير» ويتهوقن وياغانيني(), 

إن مهرة المخططين الحسبة فقط هم الذين يفكرون يعدم تجاوز الهدقف 
ولا يقدرون إلا إمكانية القعل الموسمية بإنجاز كامل يخلع على كل عمل هذا 
الهدوء العميق الذي يأسر بجاذييته الرجال الكبار. 
(1) يقرن بلزاك هنا اسم سيدتين انطلقتا في الهوى «إلى آبعد من الهدفء مع كبان الفنانين 
العالمين فبياتكى كايلو: نبيلة من البندقية» في القرن السادس عشرء هجرت كل شيء وهي لم 
تتعد الخامسة عشر من العمر لتتبع حبيبها وتصبح فيما بعد زوجة فرانسوا دي مديسي دوق 
توسكان الكبيرء واويز دى لافاليير )17٠١١  ١744(‏ محظية لويس الرابع عشر التي دحلت 
دير الكرمل في .١7174‏ شهرة الغرام هذه قرنت مع شهرة ميشيل آنج (ه/21١‏ - )١5514‏ 
الرسام والنحات الإيطالي المشهور ويتهوقن  ١117/١(‏ /14517) الموهسيقي الألماني العالمي 


وياغانيني ٠  17/45(‏ 184) الموسيقي الايطالي الذي كان بلزاك شديد الاعجاب يه بحيث ورد 
ذكره في العديد من رواياته. 


لات 


وااحال أن الحياة المعتمدة من هذا الشعب المقتصد بشكل رئيسء؛ توفر 

شروط الهناء الذي تحلم به الجماهير في حياة مواطنية وبورجوازية. 

ا إن الماديّة الأكثر لطفاً تسم جميع التقاليد القلمندية, وبينما لاتظهر في 
وسائل الرقد الانكليزية إلا الألوان الجافة ذات المسحة القاسية: فإن المنزل 
العائلي القديم في الفلاندر ييهج العين بألوان ذات طلاوة, ويطيبة حقيقية؛ وهو 
يستتبع عملاً بدون تعب؛ والغليون فيه يشير إلى تطبيق سار لتكاسل ممتع على 
طريقة أهل نابولي» ومن ثم فهذا المنزل شاهد على عاطقة وديعة للفن بشرطه 
الأكثر ضرورة وهى الصبرء وبالعنصر الذي يجعل إبداعاته أكثر ديمومة وفو 
الوجدان. إن الطبع الفلمندي يتجلى في هاتين الكلمتين: الصبر والوجدان؛ ويبدو 
أنهما يستيعدان التفردات الفنية في الشعرء ويجعلان تقاليد تلك البلاد مسطحة 
كسهولها العريضة وياردة كسمائها المضبة. بيد أن لاشيء من هذاء فالحضارة 
قد أظهرت هناك قدرتها فعدلت كل شيء حتى تأثيرات المناخ. إن من يلاحظ 
بانتياه منتجات مختلف بلدان الكرة الأرضية؛ تعتريه الدهشة أولاً من مشاهدة 
الألوان الشقر والرمادية المميزة بصورة خاصة لمحاصيل المناطق المعتدلة, بيثما 
تتميز محاصيل المناطق الحارة بالألوان الصارخة: وتمتثل التقاليد بالضرورة 
لهذا القانون الطبيعي: فمناطق الفلاندر التي كانت في الماضي سمراء بصورة 
رئيسة ومحكومة بألوان رتيبة» وجدت الوسائل لتطرح البريق في جوها القاتم 
بالتعاقبات السياسية التي اخضعتها على التوالي للبورغينيين» والاسبانيين» 
والفرنسيين, والتي آختهم مع الألمان والهولانديين. فمن اسباتية أخذوا ترف 
الأرجواتيات: والأطالس اللماعة؛ والنجود ذات المظهر الفخم؛ والريشء والآلات 
الموسيقية ذات الأوتار. والأشكال االطيفة؛ ومن البندقية. بدلوا بلوحاتهم 
ومخرماتهم تلك الزجاجيات العجيبة التي تلتمع فيها الخمور وتبدى أطيب مذاقاً؛ 
ومن النمسة احتقظوا بتلك الديلوماسية الوقور التي تحسب لكل شيء حسابه؛ 
وقد منحتها تجارتها مع جزر الهند ابتكارات الصين الاسطورية وعجائب 


50 


اليابان. مع ذلك وبالرغم من أناة مقاطعات الفلاندر في جمع كل شيء؛ وعدم رد 
أي شيء؛ وتحمل مالايتحمل, فإنها بقيت تعتبر المستودعات العامة لأوروبة حتى 
الفترة التي وحد بها اكتشاف التبغ بدخانه القسمات المتفرقة لمظهرها الوطني؛ 
ومنذ ذلك الحين وبالرغم من تجزئة الأراضي أثبت الشعب الفلمندي وجوده 
بالغليون والبيرة. 

يعد أن تمثلت, بالاقتصاد الثابت في إدارتهاء ثروات وأفكار معلميها أى 
جيرانهاء فإن هذه البلاد الباهتة بطبيعتها والمحرومة من الشاعرية؛ كونت لها 
حياة مبتكرة وتقاليد متميّزة» دون أن تبدى ماطخة بالمذلة؛ فالقن فيها تجرد من 
كل مثالية ليهتم بالشكل فقط؛ وهكذا لايطلب من هذا الوطن لا الشعر المطاوع, 
ولاقريحة الملهاة, ولا المشهد المسرحيء ولا دفقات الملاحم أى الأناشيد الحماسية, 
ولا العبقرية الموسيقية؛ لكنها خصبة بالمكتشفات, والمناقشات المتحذلقة التي 
تتطلب ااوقت والسهرء وكل مافيها يتسم بسمة الانتفاع الزمنيء والانسان 
ينحصر تطلعه بالواقع. ويتجه ذهنه بدقة شديدة لتأمين حاجات الحياة بحيث أن 
ما من عمل يتطلق إلى مابعد العالم الواقعي. إن الفكرة الوحيدة المتصورة عن 
المستقبل لدى هذا الشعب هي نوع من الاقتصاد السياسيء وقوته الثورية ترد 
من اارغبة الأهلية في الشعور بأن مرفقيه طليقان وهى إلى مائدته قي حرية تامة 
تحت أفاريز البيوت الحجرية في الحارات. إن الشعور بالرفاهية وروح الاستقلال 
التي توحي بها الثورة قد وأدا في وقت مبكّر عن أي مكان آخر هذه الحاجة 
للخرية التي بدأت تتمخض عنها أوروية فيما بعد وهكذا فقد أكسبت المثابرة في 
الرأي والتربية المتصلبة الفلمنديين ماجعلهم في السابق رجالاً رهيبين في الدفاع 
عن حقوقهم؛ فما من شيء إذاً لدى هذا الشعب يتشكل وفق أتصاف الحلول أو 
كيفما اتفقء لا المنازل؛ ولا الأثاثء ولا السدود؛ ولا الثقافة» ولا الثورة, لذلك فإنه 
يحرص على الاستئثار بما أتقن صنعه: فحياكة المخرمات والنتاج الزراعي 
المتأني» والصناعة الأكثر تأتياً وخاصة الأنسجة المتينة وراثية لديه كما ثرواته 
المالية» ولى صورت المثابرة بأنقى أشكالها البشرية لتجلت على حقيقتها في هيئة 


عقت 


عمدة مدينة من البلاد الواطئة. مستعدء كما حدث ذلك مراراً» للموت بشرف 
ودون مباهاة: قداءَ لمصالح تحالف مدينته التجاري؛ لكن الشاعريات العذبة 0 
الحياة الأبوية تتجلى طبيعياً في لوحة عن أحد البيوتات الأخيرة التي ماتزا 
محتفظة بطابعها التقليدي في دوي في الزمن الذي تدور. فيه أحداث قصتنا . 

إن دوي للأسفء من بين جميع مدن مقاطعة الشمالء تلك الأكشش تعرضاً 
لالحداثة: فالرغبة في الايتكار قد انتشرت بسرعة كبيرة فيهاء وحبٌ النهوض 
الاجتماعي قد تعمم. وهكذا أخذت الأبنية القديمة تختفي مع مرور الزمن؛ 
والتقاليد العتيقة تمحيء ومسحة ياريس وأزيارها وطرائقها تسيطرء وأ 
لدى أهل دوي من الحياة القلمندية القديمة إلا كرمٍ الضيافة: والرقة الاسباتية: 
وغنى هولاندة وتظافتها؛ وقد قامت قصور الحجر الأبيض مكان بيوت الآجر؛ 
ورفاهية الأشكال الهولاندية قد تراجعت أمام أناقة الحداثات القرقسية المتغيرة. 

يقع المنزل الذي وقعت فيه أحداث هذه الرواية في وسط شارع باريس 
تقريباً؛ وهى يحمل في دويء منذ نحى مئتي سنة اسم بيت كلايس؛ فال قان 
كلايس!!) كانوا سابقاً من أشهر عائلات الحرفيين التي استثمرت لعدة أجيال 
في البلاد الواطئة تحتفظ بتفوق تجاريء فقد تعاقب آل كلايس على رئاسة 
اتحاد النساجين القوي في مدينة غان يرثونها ابنا عن أب. عند ثورة هذه المدينة 
الكبرى ضد شارل كنت الذي أزاد إلغاء الامتيازات» حامت الشبهات بشدة حول 
أغنى آل كلايس الذي أحس بقرب وقوع الفاجعة فأرسل سراً» وهى الملزم 
يمشاركة رفاقه مصيرهم.: إلى قرنسة وتحت حمايتها زوجته وأولاده. وثروته, 
قبل أن تغزى جحافل الامبراطور المدينة» وكانت توقّعات نقيب النساجين 
صحيحة. فقد استثني من اتفاقية التسليمء مع العديد من البورجوازيين 
الآخرين: وأعدم كمتمرد خارج عن القاتون؛ بينما هى في الواقع مدافع عن 
(1) يستمد بلزاك من التاريخ بعض الحقائق مع حرية التصرف؛ ففي ثورة غان في العام 
١٠‏ وجد 0 ء المدينة المسمى لوران كلايس الذي إنتخب بين تسعة آخرين من قبل 


للمؤلق. 


عات 


استقلال مدينة غان؛ وقد أعطى موت كلايس ورفاقه ثمرهء فهذه العقوبات غير 
المجدية قد كلفت ملك اسبانية خسارة القسم الأعظم من أملاكه في البلاد 
الواطئة. 

إن دم الشهداءء؛ من بين جميع البذون التي تؤتمن عليها الأراضي: هو 
الذي يعطي أسرع الحصاد والجني؛ وعندما عاقب فيليب الثاني الثورة حتى 
جيلها الثاني مد سلطته الاستبدادية حتى دوي؛ لكن آل كلايس حافظوا على 
ملكياتهم الكبيرة وذلك بمصاهرتهم عائلة مولينا العريقة في النبل؛ والتي أصبح 
فرعها الأساسيء الفقير أصلاًء بدرجة من الغنى تمكن فيها من شراء كونتية 
نورى, التي لم يكن يملكها إلآ اسمياً في مملكة لثون(!". 

في مطلع القرن التاسع عشر ويعد تتابعات لاتهمنا لائحتها بشيء: تمثلت 
عائلة كلايس في الفرع المستقر في دوي بشخص بلتزار كلايس موليناء كونت 
نورىء الذي طلب أن يسمى ببساطة بلتزار كلايس؛ ومن الثروة الهائلة التي 
جمعها أسلافه؛ الذين كانوا يشغلون نحى ألف نول نسيجء لم يبق لبلتزار إلا 
أرض في منطقة دوي تدر عليه خمسة عشر ألف ليرة دخلاً سنوياً» والبيت 
الكائن في شارع باريس الذي يساوي أثاثه ثروة. أما تركات مملكة لون فقد 
كانت موضع نزاع ودعوى بين آل مولينا في الفلاندر وفرع تلك العائلة الباقي 
في اسيانية؛ وقد استولى آل مولينا في لون على الأراضي وتلقبوا بلقب كونت 
نورى بالرغم من أنه حق لآل كلايس وحدهم, لكن تفاخرالبورجوازية البلجيكية 
كانت أكبر من العجرفة الكاستلانية؛ وهكذا فعندما نظم السجل المدني. تخلى 
بلتزار كلايس عن أسمال نبله الاسباني للاحتفاظ بشهرته الغانتيّة'), فالشعور 
الوطني يتجلى بقوة لدى العائلات المنفية حتى في الأيام الأخيرة من القرن 
الثامن عشرء وقد بقي آل كلايس محافظين على تقاليدهم وعاداتهم وطرائقهم 


)١(‏ منطقة في شمال غرب اسبائية غزاها ملوك استوريا في القرن العاشر وأسسوا فيها 


مملكة باسم مملكة لثون: وضضمت في العام ١٠‏ مقاطعات لتون وزموراً وبسلامتك. 
(؟) غانتي نسية إلى مدينة غان 6810010 


-طآ1ط4- 


في ااحياة, فهم لايتصاهرون إلا مع العائلات البورجوازية الأكشر نقاوة: ولابدّ 
من أن يكون في عائلة من ترشّح خطيبة لأحد أبنائهم بعض العمد ومساعدي 
العمد لقبولها في غغائلتهم لذلك كانوا يختارون نساعهم من عائلات بروج أو غان 
أى لييج» أى حتى من هولاتدهء من أجل تخليد تقاليد البيت العائلي. 
في نهاية القرن الماضي اقتصر مجتمعهم المحدود على سبع أو ثمان 
عائلات من النبلاء البرلمانيين الذين تنسجم طيائعهم وأثوابهم الفضفاضة 
ورصانتهم القضائية المختلطة بالحزم الاسباتي مع عاداتهم؛ فالاستقامة الثابتة, 
وأمانة آل كلايس التي لا شائية فيها؛ ولياقتهم الدائمة تجعل منهم خرافة 
متاصلة كعيد غايان! يعبّر عنها بهذا الاسم «بيت كلايس». إِنَّ روح الفلانر 
القديمة تظهر جلية في ذلك البيت الذي يقدم لهواة التحف القديمة البورجوازية, 
- نموذج البيوتات المتواضعة التي كانت لهواة التحف القديمة البورجوازية: نموذج 
البيوتات المتواضعة التي كانت تشيّدها البورجوازية الغنية في العصر الوسيط 
إن الزينة الرئيسة في الواجهة هي باب ذى مصراعين من السنديان المرصع 
بالمسامير المنتظمة في مخمسات,. وفي مركزه عمل آل كلايس افتخاراً منهم: 
على تقش مكوكين مقرونين. بنيت فتحة ذلك الياب بحجر رملي» وهي محاطة 
بعقد مستدق الرأس وينتهي بكوة صغيرة يعلوها صليب» وفي داخلها تمثال 
للقديسة جنفييف) تفتل بمغزلها؛ وبالرغم من أن الزمن قد خلع عتقه على 
الأشغال الدقيقة في ذلك الباب وتلك الكوة؛ فإن حرص أهل المنزل على العناية 
الفائقة يها تسمح للمارين بأن يتمتعوا بأدق تفاصيلهاء وهكذا فالإطار المؤلف 
من عميدات متراصفة يحتفظ بلونه الأشهب القاتم ويلتمع حتى ليخال أنه 





)١(‏ عيد غايان: عيد شعبي في دوي يعتقذ أنه ذكرى رفع الحصار عن تلك المدينة قي العام 
ويحتفل به يوم الأحد الأقرب للخامس من شهسر تموزء وماتزال 
التظاهرات القولكلورية تتم في تلك المديتة خلال هذا العيد ولدة اسيبوع يسمى 
«أسبوع غايان» 2 
(؟) القديسة جنفييف تعتبر شفيعة باريس وهي تصور بشكل راعية تفتل بمغزلها وأمامها 
0 


5 


ممسوح بالبرنيق. على جانبي الباب في الطابق الأرضي نافذتان مشابهتان 
لنوافذ المنزل الأخرى ينتهي الإطار المبني بالحجر الأبيض تحت المستند بربعيات 
غنية بالزخرفة: ومن الأعلى بقوسين متماثلين تفصل بينها ركيزة صليب تقسم 
الحاجز الزجاجي إلى أربعة أقسام غير متساوية؛ إذ أن العارضبة الموضوعة على 
ازتفاع محدد لتشكل صليباًء تعطي للقسمين السفليين من النافذة بعداً يقرب من 
ضعف الأقسام العليا المدورة تحت العقد, إِنّ القوس المضاعف نى تزيينات مؤلفة 
من ثلاثة صفوف من الآجر يتقدم كل منها على الآخر؛ كما تبرز كل آجرة أو 
تنحسر عن الأخرى بالتناوب بمقدار يوصة تقريباً بحيث ترسم نقشاً مشيكاً. 
أما الألواح الزجاجية فصغيرة ويشكل معينات وهي منزّلة في أَطْر حديدية دقيقة 
جداً ومدهونة باللون الأحمر. كانت الجدران المبتية من آجر محشى بملاط 
أبيض؛ مدعومة من مسافة إلى أخرى, وفي اازوايا بصفوف من حجر؛ وتخترق 
الطابق الأول خمس نوافذء أما الطابق الثاني فقد اقتصر على ثلاث: بينما 
استمد مخزن الغلال الثور من فتحة واسعة مستديرة ات خمسة أجزاء يحيط 
بها المجر الرملي وتقع وسط الجبهية المثلثة التي يرسمها الجملون كأنها.وردة 
في بوابة كاتدرائية؛ وفي القمة يرتفع؛ بمثابة دلآلة ريح» مغزل محاط بالكتان. إن 
ضلعي المظث الكبير الذي يشكّل جدار الجملون مقطعة عمودياً بنوع من 
الدرجدات حتى رأس الطابق الأول حسيث عن يمين وشمال المنزل تسيل مياه 
الأمطار مدفوعة من شدق حيوان عجيبء في أسقل اابيث قاعدة من حجر رملي 
تشبه الدرّجة. أخيراً يوجد على جانبي البابء بين النافذتين» وعلى الشارع, 
بويب قلآب مسلّح بعصائب كبيرة من حديدء يدآف منه إلى الأقبية, وهى آخر 
بقية من التقاليد القديمة. 
كانت هذه الواجهة منذ إنشائهاء تنظّف مرتين سنوياً, فإن بدا نقص في 
الملاط في مكان ماء سد الثقب ااناتج عنه سريعاً: أما النواقذ والدعامات, 
والأحجار فينفض عنها الغبار كما ينفض في باريس عن آثمن أنوا ع الرخام؛ 
وهكذا فواجهة هذا المنزل لاتظهر أي أثر للتداعي. وبالرغم من الألوان القاتمة 


- 4# 


الناتجة عن قددم الآجرء فإنه محفوظ جيداً كحفظ لوحة قديمة» أى كتاب أثري 
يحرص عليهما هاويهما ويحافظ دائماً على جدتهماء لولا التعرّض تحت قبّة 
جونا لهذه الغازات التي تهددنا حتى نحن بالذات بأضرارها؛ وسماء القلائدر 
المكفهرة ومناخها الرطب والظلال ااناتجة عن ضيق عرض الشارع تنزع غالبا 
عن هذا البناء الرونق الذي يستمده من شدة العناية بنظافته: التي تجعله, مع 
ذلك: باهتاً وكئيباً أمام العين؛ فالنفس الشاعرية تتمتي لى تشاهد بعض 
الأعشاب تنمى في جوانب الكوة: أى بعض الطحالب تظهر في الفواصل بين 
المجارة اأرملية» بل لاشتهت لى تتشقق هذه الصفوف من الآجرء ولى تبني 
بعض السنونوات أعشاشها تحت إقواس النوافذ وفي النخاريب المثلثة الحمراء 
التي تزينها. هكذا يعطي الإتقان والمظهر النظيف لهذه الواجهة نصف المكشوطة 
بالدعك منظراً مغلقاً بوقار جاف وتقدير محتشم يُبعد بكل تأكيد؛ الروماتسي عن 
الرغبة في السكن في مواجهته. عندما يسحب زائر سلسلة الجرس الحديدية 
المجدولة التي تتدلى من إطار الباب» تهرع خادمة من الداخل لتفتح صفاقاً 
مجهزاً بمشبك صغيرء يفلت سريعاً من اليد هذا الصفاق محمولاً بثقله, ويسقط 
مجدّدا تحت عقد رواق واسع مبلّط محدثاً في أعماق البيت صوتاً خفيضاً وثقيلاً 
كما لو أن الباب مصنوع من البرونز. هذا الرواق مزوق بالرخام النضر دائماً» 
والمفروش بطبقة من رمل ناعمء يقود إلى فناء داخلي مريع واسع مبلط ببلاطات 
عريضة مبرنقة وذات لون مخضر. إلى اليسار يوجد مخزن البياضات, والمطابخ 
وقاعة المستخدمين؛ وإلى اليمين المحطبة؛ ومخزن القفحم الحجري والأكناف 
العامة حيث الأيواب والنواقذ والجدران مزخرفة برسوم مصونة بتظافة رائعة, 
والضوء المتسرب من بين الجدران الأربعة الحمراء المخططة بشبكات ييضاء 
يعكس ظلالاً وردية تخلع على الوجوه والتفاصيل الدقيقة جاذبية غامضة 
ومظاهر عجيبة. 
إن بيتاً ثانياً مشابهاً تماماً للبناء المواجه للشارع؛ وهو يسمى في 
الفلاندر الحي الخلفي يقوم في نهاية ذلك الفناء وهو مخصص لسكن العائلة 


قات 


فقط. ففي الطابق الأرضيء تخصص الغرفة الأولى كصالة صغيرة وهي منورة 
بنافذتين من جهة الفناءء ونافذتين أخريين تطلأن على حديقة تساوي في عرضها 
عرض البيت بينما ينقتح بابان مزججان متوازيان فيؤدي أحدهما إلى الحديقة, 
والآخر إلى القناء» وتطل على باب الشارع: بحيث يتمكن الغريب؛ من المدخلء 
أن يحيط بنظرة على كامل المسكن: ورؤية حتى الأبسطة الخضراء في نهاية 
الحديقة. 

إن المسكن الأمامي مخصص للاستقبالات. وطابقه الثاني يضم شققاً 
لاستقيال الضيوف الأجانب وهو يحوي بالتاكيد روائع فنية وذخائر ثمينة 
متجمعة. اكن مامن شيء يساوي في نظر آل كلايسء ولا في رأي الخبير المدقق 
تلك الكنوز التي تزين القاعة التي كانت تقضي فيها العائلة معظم وقتهاء منذ 
قرنين» فكلايس الأكبر الذي مات دفاعاً عن حريات غان؛ ذلك الحرفي الذي لم 
يذكر عنه الكثيرء والذي غفل المؤرّخ عن القول بأنه كان يملك نحو اربعين ألف 
مارك من الفضة كسبها من نسج الأشرعة الضرورية لأسطول البندقية الجبار. 
إن كلايس هذا كانتت تريطه صداقة بأحد الفنانين الذين اشتهروا بالحقر على 
الخشب في بروج وهى قون هويزيوء()» وقد استعان الفنان مرات عديدة بمحفظة 
صديقه الحرفي» ويعد أن أصبح غنياً. قبل ثورة غان ببعض الوقت؛ حبفر سراً 
لصديقه: على كتل من خشب الإبنوس مشاهد رئيسة من حياة آرتفلد") هذا 
الصانع للبيرة الذي أصبح ملكاً على الفلاندر. هذه المشاهد تمثلت في ستين 
لوحاً جدارياً رسم فيها نحو آلف واربعمتة شخص رئيسء تعتبر التحفة الرئيسة 
لفون هويزيوم: ويقال أن الضابط المكلّف بحراسة البورجوازيين ومنهم كلايس 
)١(‏ يعتمد يلزاك «مرة أخرى» على التاريخ محرقاً فمن الفنانين المشهورين ياسم فون 
هويزيوم وجد جان هويزيوم الذي ولد في امستردام العام ”14 وتوفي قي العام ١45‏ كما 
وجد فنان آخر باسم جوست فون هويزيوم (1/15-15514) وله لوحات عن المعارك البحرية 
كما أن للأول ست لوحات تمثل أزهاراً وشماراً ومناظر طبيعية في اللوفر لكن الإثنين لم يكوتا 
(5) جاك آرتفلد نبيل من غان اتتخب عميداً لصناع البيرة وأعلن ملكأ على ان في ١١1١‏ 
وقد عرفت المدينة في عهده ازدهاراً كبيراً 


حوكت 


الذين هدّد شارل كنت بإعدامهم عند دخوله مدينتهم, قد عرض على كلايس أن 
يسهل له هريه إذا منحه تحفة فون هويزيوم: لكن النساج كان قد أرسلها إلى 
فقرنسة. هذه القاعة اكتست جدرانها بكاملها بألواح فون هويزيوم الذي حضر 
بنفسه فوضع لها أطراً مدهونة باللازورد الممتزج بخيوط ذهبية؛ وهي تعتبر 
العمل الأكثر روعة واتقاناً لهذا المعلم بحيث أن أيّة قطعة منها في الوقت 
الحاضر تساوي وزنها ذهباً؛ وفوق جدار المدفأة لوحة لتيتيان') تمثل فون 
كلايس مرتدياً ثوب رئيس محكمة «اليارشون:(1) وهي تزيد من اعتزان هذه 
العائلة برجلها الكبير. 

إن المدفأة كانت مبثية من الحجر أولاً وذات برقع عال جداًء ثم أعيد 
بناؤها في القرن الآخير من الرخام الأبيض» وقد وضعت فوقها ساعة جدارية 
كبيرة وشمعدانان كل منهما يخمسة فروع ملتفة, ولاتنم عن ذوق مرهفء لكنها 
من الفضة المصمتة. 

تزين النوافذ الأربعة ستائر كبيرة من الدمقس الأحمر ذي الأهار 
السوداء المبطن بحرير أبيضء كما أن الأثاث؛: وقد جدد على طران لويس الرابع 
عشر.: مكسى باثقماش نقفسه؛ وتتالف الأرضية: وهي حديثة طبعاً من صفائح 
خشب مؤطرة بعصائب من السنديان؛ والسقف مشكّل من أطر عديدة فى 
داخلها أقنعة غريبة. حفرها فون هويزيومء وقد التزمت وحافظت على الوان 
سنديان هولانده الداكنة. 

فى الزوايا الأريع من هذه القاعة, ترتفع أعمدة مجزوعة تعلوها 
شمهدانات مماثة لتلك القائمة فوق المدفأة؛ ومنضدة مستديرة تشغل وسط تلك 


)١(‏ ثيتيان (تيزيانو فسيليو) رسام ايطالي )١875  1546-(‏ ذى شهرة عالمية رسم للبابوات 
(؟) بارشون: قضاة مدينة غان: وقد ورد ذكرهم أيضاً في رواية «المعلم كورنليوس» لبلّاك 
التي يصور فيها ثيابهم» يآنها من مخمل أسود يلتمع بأبهة والثوب عريض الكمين ويدون 
طوق. 

إن لوحة لتيتيان تظهر هذه الثياب ولكنها على فارس من فرسان رهبان مالطة. 


5 


القاعة؛ وصقت مناضد لعب متناظرة قرب الجدران؛ وعلى منضدتين مزخرفتين 
ومذهبثين. سطحهما من رهام أبيضء وجدت في العصر الذي بدأت فيه روايتناء 
كرتان من زجاج مليئتان بلماء» صببح فيه قوق سرير من الرمل والقواقع؛ 
أسماك حمراء؛ أوذهبية, 00 

كانت هذه القاعة براقة قة وقاتمة تمة فالسقف يمتص الضوء بالضرورة دون أن 
يعكس منه شيئاً؛ وإذا كان لو يرد غذير من ناحية الحديقة ليبرق على نقوش 
الإبينوهسء فإن نوافذ الفناء لا تأتي إلا بقليل من الضوء يكاد لا يبدى بريقه على 
الخيوط المذهبة المطبوعة على الجوانب المقايلة. 

هذه القاعة الشديدة الروعة؛ كانت تملؤها إذاً في أحد الأيام الجميلة, 
ولعظم الوقت الألوان الناعمة ذات المسحة الشهباء الكثيبة التي تخلعها الشمس 
على قمم الغابات في الخريف. لذلك فمن غير المفيد أن نستمر في وصف بيت 
كلايس؛ في أقسامه الأخرى التي كانت تحدث بها حتماً مشاهد عديدة تتعلق 
بروايتنا؛ ويكفي الآن أننا قد تعرفنا على ترتيباته الرئيسة. 

في العام كوي الآباء الأعيره من شمن ابي وف بود الف بعك 
. صلاة العصرء كانت امرأة تجلس على أريكتها آمام إحدى النوافذ المطلة على 
لدي كانت أشعة الشمس تسقط منحرفة على المنزل» فتلفه بشكل وشاح 
وتخترق القاعة اتنتهي بانعكاسات غريبة على الخشبيات التي تغطي الجدران 
من ناحية الفناء؛ وتلف تلك المرأة بغلاف قرمزي يتعكس عن ستارة الدمقس 
المنشورة على طول الذافذة» لوتسني لرستام مهما بلغ ضعقه؛ أن يرسم تلك المرأة 
في لك اللحظة, لأعطى بالتأكيد لوحة نافرة برأس مليء بالألم والكآبة؛ فوضع 
الجسم والرجلين المتهالكتين إلى الأمام تبرز وهن تلك المرأة التي غاب عنها 
الشعور بكيانها الحسي وهي تركّز قواها في فكرة ثابتة تملكتها. كانت تستشف 
الإشراق في المستقبل؛ كما يستشف غالباً شعاع من الشمسء يخترق الغيوم 
ويرسم في الأفق شريطاً فتيرا, 

كانت يدا تلك المرأة المرتدتين عن ذراعي الأريكة ت تتدلى إلى الخارج 


بو 0 البحث عن المطلق م-» 


ورأسها الذي بدا ثقيلاً جداً يستند إلى المتكأء وثوب من البركال القطني الواسع 
جداً يحول دون الحكم على تناسق تقاطيع جسمها؛ وقد احتجب صدارها تحت 
طيات منديل تصالب طرفاه على صدرها وعقدا بلا مبالاة؛ وحتى لى لم ييرز 
النور وجهها الذي يبدو أنها تفضل إظهاره عن بقية كيانهاء فإن من غير الممكن 
إلا الافتمام به حصراً فتعبيره الذي يثير أكثر الأطفال لا مبالاةء هو ذهول 
مستمر ويارد بالرغم من بعض العبرات الحارقة. مامن شيء أكثر هولاً من رؤية 
ألم بالغ لا يطفح إلا في فترات نادرة متقطعة, ويلتصق بذاك الوجه كلابة تجمدت 
حول فوهة بركانء حتى ليخال أنها أم تحتضر»ء وقد تركت أطفالها في لجّة من 
الشقاء دون أن تستطيع تأمين أية حماية بشرية لهم. 

إن سحنة تلك المرأة» وهي في نحو الأريعين من العمرء لكنها أقل يعداً 
عن الجمال الذي لم تكن تمتلكه في شبابهاء لاتظهر أياً من مزايا المرأة 
القلمندية؛ فشعرها أسود كثيف يتدلى خصلات على كتفيها وحول وجنتيهاء 
وجبهتها كثيرة التحدبء وضيّقة عند الصدغينء مائلة إلى الإصفرارء لكن عينين 
سوداوين تبرقان تحتها وكأتها ترميان الشرر؛ ووجههاء الاسباني كلياً؛ المائل 
الى السمرة, والشاحب اللون؛ الذي غزته الجدريء يستلقت النظر باكتمال شكله 
البيضوي الذي تحتقظ استدارته بالرغم من تغيّر قسماتهء برقة وقار أنيق» يبدو 
أحياناً بتمامه عندما تجهد الروح في أن ترد إليه صفاءه الأولي. إن السمة 
الأكثر تميزاً في ذلك الوجه الرجولي هي أنف محني كأته متقار نسرء ويبدى 
كثير التحدب في الوسط حتى ليخال أنه مشوه داخلياًء لكن تكمن فيه رقة يتعذر 
وصفها.ء قحاجز المنخرين من النعومة بحيث تسمح شقافتيه للضوء بأن يخلع 
عليه الاحمرار بشدة؛ ومع أن الشفتين العريضتين, الكثيرتي التغفضن:ء تثّمان عن 
أنَقَةَ تكشف عن نبل محتدهاء فإّنهما تتسمان بطيبة طبيعية» وتوحيان بالتهذيب. 
يمكن الجدل حول جمال هذا الوجه الذي يبدى قوياً وانثوياً في آن معاً, لكنه 
يستلفت الانتباه؛ لقد بقيت هذه المرأة الصغيرة القامة. المقوبسة الظهرء والعرجاء 
مدة طويلة عزباء. بحيث رُعم إنكار الروح الانثوية لديهاء لولا وجود بعض 


لبموذ- 


الرجال الذين تأثروا بشدة بالنشاط المتحمس المحتدم في رأسهاء ويمعالم حنان 
لايوصفء بحيث تأثروا بفتنة متناقضة مع كثير من العيوبء ويبدى أنها تدين 
بالكثير لجدها دوق كازا ريال(١).‏ أحد كبراء اسبائية, 

في تلك الفترة تفجرت في رأسها الجاذبية التي تناولت سابقاً يشكل طاغ 
الأرواح المغرمة بالشعرء ويلغت من الشدة مالم تبلغه في أي لحظة من حياتها 
الماضية, كقد شغلت إن صمح القولء الغراغ معبّرة عن إرادة ساحرة وطاغية على 
الرجال: لكنها: بدون تأثير على الأقدار. عندما حولت عينيها عن الوعاء الذي 
تتطلع فيه إلى الأسماك دون أن تراهاء رفعتها بحركة يائسة كأنها تتضرع إلى' 
السماء إذ يبدى أن ماتعانيه من آلام لايمكن البوح به إلا إلى الله. لم يكن يعكّر 
الصمت إلا الجداجدء وبعض الزيزان التي تتبعث أصواتها من الحديقة الصغيرة 
حيث تسود حرارة لافحة, ورتين أصم للفضيات والصحون والكراسي التي 
تحرك في الغرفة المجاورة للقاعة حيث يبدو أن خادماً يرتب المائدة للعشاء. عند 
ذلك أصاخت المرأة المكروية بسمعهاء ويبدى أثها استعادت هدويها فتناوات 
منديلها ومسحت دموعهاء وجريت أن تبتسم؛ وأن تتخلّص من تعبير الألم 
المحفور على جميع قسماتها بحيث يمكن الظن أنها في تلك الحالة من اللاميالاة 
التي توأدها حياة خالية من الهموم؛ وسواء أكانت عادة العيش في ذلك المنزل 
الذي تنستر فيه عاهاتها قد يسرت لها إدراك بعض النتائج الطبيعية التي يتعدر ' 
إدراكها على الآخرين؛ والتي يسعى إليها بحرارة الاشخاص ذوو العواطف 
المفرطة؛ أى أن الطبيعة قد عوضتها عن العيوب الجسيمة بمنحها أحاسيس أكثر 
دقّة من تلك التي يتمتع بها الاشخاص الأسوياء أى الأفضل بنية في الظاهر. 
فقد أحست هذه المرأة بخطوات رجل في الرواق القائم فوق المطابخ والأماكن 
المخصصة لخدمات المنزل» والذي يصل بين المبنى الأمامي والمبنى الخلفي؛ ثم 
ازداد وقع الخطوات تميزاً؛ وسريعاً؛ ودون امتلاك تلك القدرة التي يعرف يها 
كائن انفعاليء كتلك المرأة» كيف يلغي غالباً المسافات ليتحد بالأنا الآخرء فإن 


شؤات 


غريباً يمكنه أن يستمع بسهولة إلى وقع خطوات ذلك الرجل على السلم الذي 
ينزل بواسطته من الرواق إلى القاعة؛ وعلى وقع هذه الخطوات» فإن الكائن 
مهما بلغ عدم انتياهه تتلاحق عليه الأفكار, إن من غير الممكن أن نستمع إليها 
ببرود. إن مسعى مفاجئاً أى متقطعاً يرعب؛ وعندما ينهض رجل ويصرخ 
مستغيثاً من النار» فان رجليه تتحدثان بسرعة أكبر من صوته؛ وإن كان الأمر 
كذلك؛, فيجب ألا يحدث المسعى المعاكس اتفعالات أقل شدة؛ فالبطء الشديد 
والخطوات المتثاقلة لذلك الرجل؛ كانت ستقلق دون شك الأشخاص الطائشين: 
لكن الملاحظ أى الأشخاص العصبيين سيعانون من إحساس قريب من الرعب 
عند ونع خطوات هذه الأقدام التي تبدى الحياة غائبة عنها؛ والتي تقرع الأرضية 
كأنها ثقلان من .حديد يقرعانها بالتناوب؛ فلكانكم تخبرون فيها الخطوة الثقيلة 
وغير الوائقة لعجوز أو السير الجليل لمفكٌّر يجن العوالم معه. عتدما نزل هذا 
الرجل عن الدرجة الأخيرةء وهى يضقط برجليه على البلاط بحركة مليئة بالتردد» 
فإنه بقي للحظة على المنبسط الواسع الذي ينتهي إليه الممر المؤدي إلى قاعة 
المستخدمين, وحيث يمكن أيضاً الدخول إلى القاعة يباب خفي ضمن الخشب 
المغطّي للجدران» وهو مماثل لباب آخر مواز له يؤدي إلى غرفة الطعام. 

في تلك اللحظة انتابت المرأة الجالسة على الأريكة رعشة خفيفة مماثلة 
للرعشة التي يحدثها تماس كهربائي؛ لكنها ترافقت بأعذب ابتسامة افترت عنها 
شفتاهاء وأبرقت أسارير وجهها المتوقّم لسعادة منتظرة كوجه مادونا إيطالية 
جميلة. لقد وجدت فجأة القوة لأن تيعد مخاوفها إلى أعماق روحها؛ ثم أدارت 
رأسها نحى مأطورات الباب الذي كاد ينفتح في زاوية القاعة, والذي دفع في 
الواقع بفظاظة أحسست معها المخلوقة المسكينة وكأنّها تلقت صدمة. 

ظهر بلتزار كلايس فجأة؛ وتقدم بضمع خطوات دون أن يتطلع إلى تلك 
المرأةء أى إن تطلع إليها لم يُرّهاء ويقي منتصباً في وسط القاعة وهى يسند 
رأسه المنحني قليلاً بيده اليمنى. 

كان عذاب هائل» ثم تتمكن تلك المرأة من الاعتياد عليه بالرغم من تكراره 


لس 


غالباً كل يوم؛ قد شدّد الخناق على قلبها؛ فبدد ايتسامتهاء وغضين جبينها 
الأسمر بين الحاجبين ونحوى ذلك الخطّ الذي تحفره التعابير الغالبة للعواطف 
المفرطة؛ وامتلأت ميناها بالدموع فجأة وهي تتطلع إلى بلتزار» قمن المستحيل 
عدم التاكر يعمق لرئيس عائلة كلايس هذا؛ إن لاشك أنه في شبابه كان يشيه 
الشهيد السامي الذي هدد شارل كنت بأن يجدد آرتفلد؛ لكنه في هذه اللحظة 
بدا وكأن عمره فوق الستين بالرغم من أنه في حوالي الخمسين:» وهذه 
الشيخوخة المبكّرة قد شوّهت هذا التشابه النبيل. فقامته الطويلة قد انحنت 
قليلاًء سواء من أعماله التي تجبره على الإنحناءء؛ أى لأن السلسلة الظهرية قد 
تقببت تحت ثقل رأسه. كان ذا صدر عريضء وجذع مربعء لكن الأقسام السفلية 
من جسمه كانت هزيلة بالرغم من متانتها وعصبيتها. هذا التنافر في عضوية 
تامة بالتاكيد حيرت سابقاً الفكر الذي جهد لتفسير أسباب هذا الشكل الغريب 
بتفرّد مافي الوجودء وكان شعره الغزير الأشقر المهمل يتهدّل على كتفيه وفق 
الطريقة الألمانية ولكن في فوضى تتناسق مع الغراية العامة لشخصيته: أما 
جبينه العريض فيبدي الحدبات التي جعلها غال(') مستقراً للعوالم الشعرية, 
وعيناه بزرقة فاتحة غنية تشع منهما حيوية مفاجئة تلاحظ لدى كبان الباحثين 
عن الأسباب الخفية؛ وأنفه وهى تام دون شك؛ قد تطاول؛ وبدا منخراه يتوسعان 
تدريجياً أكثر فأكثر بتوتر لا إرادي في العضلات الشمية: ووجنتاه المزغيتان 
تبرزان بشكل ظاهرء وخداه اللذان اعتراهما الذبول يبدوآن غائرين» وفمه 
الظاهر الفتنة ينحصر بين الأنف وذقن قصيرة تبدى مرتفعة فجأة: مع أن شكل 
وجهه يبدى متطاولاً أكثر منه بيضوياًء وهكذا فإن النظام العلمي الذي ينسب لكل 
وجه بشري تشابهاً مع سحنة حيوان يجد برهاناً إضافياً في وجه يلتزار كلايس 
الذي يمكن مقارنته برأس حصان7). إن جلده يبدى ملتصقاً بعظامه كأن لهباً 


)١(‏ غال (قرائز جوزيف) ١754(‏ - 1678) طبيب الماني, مبتكر فراسة الدماغ. 
(؟) يتهج بلزاك منهج لافاتر )١18١1١- ١751(‏ مبتكر علم القراسة في المقارنة مايين سحن 
الحيواتنات وملامح الإنسان. 


اما 


سرياً قد جقفه دون انقطاع؛ ومن ثم» وفي بعض لحظات:؛ عندما يتطلع في 
الفراغ, كانما يفتش فيه عن تحقيق أحلامه؛ يبدى وكأنه ينفث من منخريه لهب 
يفترس روحه. 

إن العواطف العميقة التي تحرك الرجال الكبار تتجلى في هذا الوجه 
الشاحب الذي خدّدته النجاعيد؛ وعلى هذا الجبين المتغضن كجبين ملك عجو:(١)‏ 
تملؤه الهمومء وفي هاتين العينين البراقتين اللتين يزداد ألقهما خاصة بالعقة 
التي يفرضها طفيان الأفكار والبؤرة الداخلية لذكاء واسع. هاتان المينان 
الغائرتان بعمق في محجريها تظهران وكأنهما تعبتان فقط من ليالي السهر 
والارتكاسات الرهيبة لرجاء يلقى الخيبة دائماًء ويتجدد دائماً. ينكشف التعصب 
الفيور الذي يوحي به الفن أى العلم عند هذا الرجلء بالشرود الثابت والمتفرد 
الذي يشهد عليه وضعه وتصرفه المتوافقان مع التشوه العجيب في سحنته, 
فيداه العريضتان المكسوتان بالشعر وسختان: وأظافره الطويلة تنتهي في 
أطرافها يخطوط سوداء قاتمة» وحذاؤه تنقصه الأشرطة أى غير تظيف, والمعلم 
السيد في منزله يمكن أن يعطي عن نقسه هذه الشهادة الغريبة في عدم 
النظافة: فينطاله من الجوخ الأسود الملىء بالبقعء وسترته المفككة الأزرار» 
وربطة عنقه المائلة, ومعطفه المخضّر المفدّق دائماً تكمل هذه المجموعة الغريبة مئ 
الأشياء الصغيرة والكبيرة التي تكشف عند الآخرين بؤساً تتود عنه هذه 
النقائصء؛ لكنه عند بلتزار كلايس لامبالاة العبقرية. غالباً ما تحدث النقيصة 
والعبقرية آثاراً متشايهة تخدع الرجل العادي؛ أليست العبقرية إفراطاً ثابتاً 
يلتهم الوقت والمال والجسم ويؤدي إلى المشفى بسرعة أكبر من سرعة الأهواء 
السيّكة؟ بل إن الرجال قد يظهرون احتراماً أكبر للنقائص منهم العبقرية؛ لأن 
هذه الاخيرة لاتحوز على ثقتهم ويبدو أن مكاسب الأعمال السرية للعالم بعيدة 
لدرجة يخشى فيه النظام الاجتماعي من ااتعامل معه في حياته؛ وهى يفضل أن 
يفي ما عليه دون أن يغفر له بؤبسه أ بلاياه. 


ا 


لى أن بلتزار كلايسء رغم نسيانه للحاضرء يتخلى عن هذه التأملات 
الغامضة:؛ لى أن رغبة عذبة واجتماعية تنعش هذا الوجه المفكّرء لى أن عينيه 
الثابتتين تفقدان بريقهما الجامد لتلونا عاطقة:؛ لى أنه ينظر حوله ويعود إلى 
الحياة الحقيقية والعادية» لكان من الصعب ألا يلقى جمال هذا الوجه الفاتن, 
وما يبدى فيه من مسحة لطفء التقدير اللاإرادي. هكذا فإن كل من يراه يأسف 
لآن هذا الرجل ليس في هذا العالم؛ وهى يقول: «لاشك أنه كان جميلاً في 
شبابه!» خط شائع» إذ أن بلتزار كلايس ماكان أبداً شاعرياً كما هو الآن. إن 
لافاتر كان يتمنى بالتاكيد دراسة هذا الرأس المليء بالأناة. والاستقامة 
الفلمندية والأخلاقية الساذجة, حيث كل شيء يبدى فسيحاً وكبيراً. حيث الهوى 
يبدى هادئاً لأنه قوي. يجب أن يكون طبع هذا الرجل رائقاً. وكلمته مقدسة, 
ْ وصداقته ثابتة: ووفاؤه كاملا؛ لكن الإرادة التي تستخدم هذه المزايا لمصلحة 
الوطنء أو العالم؛ أى العائلة. قد شاء لها القدر أن تنحرف بعيداً. إن هذا 
المواطن الذي يتوقع منه السهر على سعادة بيت زوجيء ويدير شؤون ثروة, 
ويوجه أبناءه نحى مستقبل زاهرء يعيش خارج واجباته» وخارج انفعالاته, 
مسمّراً لعبقرية تملكته. 
إنه يبدى مع الكاهن وكأن كلام الله يملأ قلبه؛ والفنان يحييه كأاحد 
جهابذة الفن» أما المتحمس فيخاله صاحب رؤى من الكنيسة السويدتبورجية(') 
في تلك اللحظة بدت الثياب المقطّعة, والفريبة والرئّة التي يلبسها هذا الرجل 
تتعارض خاصة مع التطلعات اللطيفة التي توجهها إليه المرأة باعجاب متالم. إن 
الأشخاص المشوهين ذوي الذوق أو الروح الطيية يعتنون بزينتهم بانتباه فائق, 
أى أنهم يلتزمون بالبساطة معتبرين أن جاذبيتهم معنوية أى أنهم يعرفون كيف 
يخفون عدم التناسق في أجسامهم بنوع من الأناقة تلهي النظر وتشغل الفكر. 
لاتقتصر عاطفة هذه المرأة على طيية الروح وإنما هي تحب بلتزار كلايس يتلك 


)١(‏ سويدنيورج: (1184- :)١9//1‏ تيوسوقي وصاحب رؤى سويديء له مؤلفات يشرح فيها 
مذهبه في اتصال الأفكارء وله أتبااع عديدون في انكلترة والولايات المتحدة 


ات 


الغريزة الإنثوية التي تعطي شعوراً مسبقاً بذكاء الملائكة؛ وقد تربّت في وسط 
أشهر العائلات في بلجيكة: فاكتسبت إضافة إلى ماتملكه من ذوق ذوقاً, 
وتوجهت يالرغبة في أن تعجب باستمرار الرجل الذي أحبته؛ فأتقنت العناية 
بملابسها دون أن تتأشر أناقتها بالتشوهين الخلقيين المصاية يهما؛ فصدارها 
لاينقص إلا عند الكتفين: باعتبار أن أحدهما أثفن من الآخر بشكل ملحوظ. ‏ . 

كانت تنظر من احدى النافذتين إلى القناء الداخلي ثم من الأخرى إلى 
الحديقة» وكأنها تريد أن ترى فيما إذا كانت وحيدة مع بلتزار» وقالت له يصوت 
عذبء وهي تلقى عليه نظرة ملأى بالامتثال الذي يميّز الفلمنديات: إذ أن الحب 
بينهما قد طرد منذ زمن بعيد أنفة الوجاهة الاسبانية: «أتكون مشغولاً كثيراً 
يابلتزار؟ فها هى الأحد الثالث والثلاثون الذي لم تحضر فيه القداس أو صلاة 
العصر». 

لم يجب كلايس: وخفضت زوجته رأسهاء وضمت يديها وانتظرت فهي 
تعرف أن هذا الصمت لايعبر لاعن احتقار ولا عن كرهء وإنما عن انشغال طاغ, 
قبلتزار هى أحد هذه الكائنات الذين يحتفظون لمدة طويلة في صميم نقوسهم 
برقّة الصباء وهى يجد أن من الإجرام أن يبدي أيّة فكرة جارحة للمرأة المثقلة 
يمصيبتها الجسمية: فهى وحده؛ بين الرجال على الأرجحء من يعرف أن كلمة أو 
نظلرة يمكن أن تحذف سنوات من السعادة: وستكون قاسية بمقدار شدة تباينها 
مع عذوية ثابتة؛ لآأن طبيعتنا تحملنا على الشعور بمزيد من الألم في تفاوت 
الهناء يفوق مانشعر به من اذة قي متعة تندرج ضمن الشقاء. 1 

بعد لحظات بدا بلتزار وكأنه يستفيقء وتطلع يعمق حوله وقال: «صلاة 
العصر؟ آه؛ الأولاد في صلاة العصر»؛: ومشى عدة خطوات ليلقي نظرة على 
الحديةة التي تكتسي جميع جنباتها ببساط رائع من أزهار الخزامي؛ لكنه توقف 


فجأة, وكأنه اصيادم بجدار وصاح: «لماذا لاتتحد خلال زمن محدد؟!١)‏ 


)١(‏ هكذا تدخل الكيمياء في الرؤية» وقد كان موضوع اتحاد الأجسام إلى جانب الاحتراق 
يشقل بال علماء ذلك العصر. 
غات 


«هل أصيب بلوثة؟» قالت امرأته في نفسها وقد تملكها ذعر عميق. 

لأجل بيان أهمية المشهد الذي أدى إلى ذلك الوضع من الضروري أن 
نلقي نظرة على الحياة العائلية لبلتزار كلايس وحفيدة الدوق كازا - ريال. 

في العام 1, كان بلتزار كلايس دى نورىء وهى آنذاك في الثانية 
والعشرين من عمرهء ممن نطلق عليهم في فرنسة اسم الرجل الوسيم, فقد أنهى 
دراسته في باريس حيث اكتسب آرقى أساليب التصرّقف في المجتمع لمعاشرته: 
السيدة إغمون, والكونت دي هورن: والأمير أرمبرغ: وسفير اسيانية, 
وهلفسيوس(), والفرنسيين من أصل بلجيكيء أى الأاشخاص الواقدين من تلك 
اابلادء وااذين يعتبرون من ناحية ولادتهم أى من ناحية ثروتهم من كبار سادة 
ذلك الزمن المعبرين عن عادات مجتمعهم: وقد وجد كلايس الشاب في باريس 
عدداً من الأقارب والأصدقاء الذين أطلقوه في هذا المجتمع الرفيع في اللحظة 
التي كان فيها هذا المجتمع يتداعى: ولكن وكمعظم الشباب» كان أكثر انجذاباً 
للعلم والمجد منه للغرورء وهكذا فقد اختلط كثيراً بالعلماء. ويصورة خاصة 
لاقوازييه» الذي اشتهر آنذاك ولفت الاتتباه العام بثروته الواسعة كممول ملتزم 
ضرائب أكثر منه كعالم ذي اكتشافات كيميائية؛ لكن الكيميائي الكبير بعد ذلك 
غطى على ملتزم الضرائب الصفيرء وقد استهوى العلم الذي يتابعه لاقوازييه 
بلتزار فأصبح أحد مريديه المتحمسين؛ اكنه كان شاباً فاتناً كزميله هلفسيوس, 
وعلّمته نساء باريس سريعاً كيف يقطّر حصراً الظرف والحبّ وبالرغم من أنه 
انصرف إلى الدراسة بحماس حتى أن لاقوازييه قد خصيه ببعض التقريظ؛ لكنه 
هجر معلمه ليستمع إلى معلمات الذوق اللواتي يتلقى على أيديهن الشباب 
الدروس الأخيرة في آداب السلوك؛ ويتدريون على ممارسات المجتمع المخملي 
الذي يشكّل في أوربة عائلة واحدة. 

لم يدم حلم النجاح المسكر إلا قليلاًء وبعد أن استمتع يلتزار بالحياة 


)١(‏ هملفسيوس :)1719/١ 711١6(‏ متعهد ضرائب وفيلسوف له كتاب «الروح » ويعيّر عن 
الحسوية المطلقة. 


هلا 


الباريسية؛ انصرف تعباً من حياة جوفاء لاتتلاءعم لامع روحه المتوثبة ولامع قلبه 
المفرم لقد بدت له الحياة البيتية بعذويتها وهدوئها؛ التي يتذكرها لمجرد ذكر 
اسم الفلاندر؛ أكثر ملائمة لطبعه وطموحات قلبه؛ إن لم تتمكن مذهبات أي 
صالون باريسي أن تمحو أنغام الردهة الداكنة ولا الحديقة الصغيرة التي قضى 
بينهما أسعد أيام فتوته؛ ومن يرغب البقاء في باريسء يجب أن ينسى البيت 
والوطن؛ فباريس مدينة الأجناس المختلفة أو مدينة الرجال الذين اقترنوا بالعالم 
يعانقونه دون انقطا ع بذرا ع العلم أو الفن أو السلطة. 

عاد فتى القلاندر إذاً إلى دوي» كما عادت حمامة لافونتين إلى عشهاء 
وبكى فرحاً بدخوله المدينة في ذكرى اليوم الذي تجول فيها غايان. غايان هذا 
المسعد الوهمي لكل المدينة, وهذا الفائز بالذكريات القلمتدية. 

كان بيت كلايس خالياً بعد وفاة الأب والأم اللذين شغلاه فترة من الزمن, 
وشعر الشاب يعد انقضاء فترة حزنه الأولىء بالحاجة إلى الزواج ليتمم الوجود 
السعيد الذي أوصت بيه جميع الأديان» وأراد أن يتبع النهج المعتاد للبيت 
العائئي, بذهابه كأسلافه؛ التفتيش عن زوجة سواء في غان» أى بروجء أو آنقر, 
لكن مامن واحدة ممن صادفهن أعجبته؛ فقد كان له على الأرجح حول الزواج 
بعض الآراء الخاصة: وهى المتهم منذ مطلع شبايه بعدم السير وفق الطريق 
الاعتيادي؛ وفي يوم سمع من يتحدث عند أحد أقريائه في غان عن آنسة من 
بروكسل غدت موضوع مناقشات مثيرةء فقد وجد بعض الحاضرين أن جمال 
الآنسة دى تمنينك يمحي نتيجة تشوهاتها الخلقية؛ بينما رأى يعضهم الآخر 
أنّها كاملة رم هذه العيوب؛ أما ابن عم بلتزار كلايس العجون فقد قال لمدعويه, 
بأنهاء بغضى النظر عن الجمال والقبحء ذات روح تدفعه ل أنه مازال أهلاً للزواج 
ليقترن بهاء وقص كيف أنها تخلت عن ميراث والدها لتؤمن لأخيها الشاب 
زواجاً يليق باسمه مضحيّة بسعادتها وبأمل كل حياتها في سبيل سعادة هذا 
الأخ, إن لا أحد يؤمن أن الآنسة دى تمنينك ستتزوج بعد تقدمها في العمر. 
وبعد أن غدت بدون ثروة:؛ بينما لم يتقدم إليها أحد وهي شابة ذات ميراث. 


عه 


بعد عدة أيام كان بلتزار كلايس يسعى إلى الآنسة دي تمنينك, وهي في 
الخامسة والعشرين من العمر؛ وقد تدله بها بحماس. ظنَّت جوزفين دي تمنينك 
أنها عرضة لنزوة ورفضت أن تستمع إلى كلايس»:لكن الهوى كثير الموصلية, 
وبالفسبة لفتاة مسكينة ذات عاهة وعرجاء. فإن الحب الملهم لرجل شاب حسن 
التكوين يحتمل إغواءات كبيرة بحيث وافقت على أن تقبل تودده لها. ألا يلزمنا 
كتاب كامل لنصف جيداً حب شابّة خاضعة بتواضع لرأي يعتبرها قبيحة» بينما 
تشعر في نقسها بجاذبية لاتقاوم تحدثها العواطف الحقيقية؟ إِنّه غيرة شرسة 
على طيف السعادة» وتردد قاس في الانتقام من أيّة منافسة تسرق نظرة؛ أخيراً 
إِنّْه تأثيرات ومخاوف من معظم اانساء تدمّرها مجرد الإشارة إليهن. إن الشكء 
الشديد المأساوية في الحب؛ هو سر هذا التطيل المدقق بشكل رئيس الذي تجد 
فيه بعض النفوس الشاعرية المفقودة, لكن غير المنسية, لتشوشاتها الأولى: هذه 
الاثارات السامية في صميم القلب التي لا يمكن للوجه أن يخفيهاء وهذه الخشية 
من عدم تقهم الآخرينء وهذه المسرات غير المحدودة لوجود الحب؛ وهذه 
الترددات في الروح التي تنطوي على تفسهاء وهذه الإسقاطات المفناطيسية 
التي تدفع إليها كلمة» والتي تتبدد عند سماع نغم صوت يمتدٌ كامتداد العاطفة 
التي تكشف عن مشايرة لم يعرف قدرها؛ وهذه النظرات الهلعة التي تحجب 
جرأة رهيبة: وهذه الرغبات المفاجئة في التحدّث والحركة المكبوحة بعنقها 
بالذات. وهذه البلاغة الحميمة الناتجة عن عبارات بدون معنىء لكنها مقولة 
بصوت متآثر؛ وهذه التأثيرات الغامضة لهذا الخفر البدائي في الروح وهذا 
الكتمان السماوي الذي ينعكس شهامة في الظل ويهدي ذوقاً رهيفاً إلى 
تضحيات غامضة؛ أخيراً كل مفاتن الحب الفتي ومواقف الضعف التي تحدثها 
فدرته.. كانت الآنسة جوزفين دى تمنينك مغناجاً في سمو نفسهاء وقد جعلها 
الشعور بعيؤيها الجسمية الظاهرة بمثل صعوبة أجمل الفتيات» فالخشية من أن 
تفقد الإعجاب يوماً أيقظ كبرياءهاء وحطّم ثقتهاء ومنحها الجرأة على أن تحتفظ 
في أعماق تفسها بالمباهج الأولى التي ترقب النساء الأخريات أن تعلنها 


ا 


بطرائقهن» ويجعلن منها وسيلة مباهاة وزهوء وكلّما زاد الحب في دقعها للتعلّق 
ببلتزار» كلما قلت جرأتها في أن تعبر له عن عواطفها؛ ألا تغدى الحركة أو 
النظرة أى الجواب أو الطلب مزايدات مزرية بالنسبة لها؟ بينما هي في نظر 
المرأة الجميلة ملاطفات للرجل. إِنْ المرأة الفاتنة يمكن أن تكون كما تشتهي 
وترغب فالمجتمع يغفر لها دائماً أيّة حماقة أى أي تلبك: بينما نظرة واحدة توقف 
التعبير الأكثر سحراً على شفتي امرأة دميمة» وترمي الوجل في عينيهاء وتزيد 
من سماجة حركاتهاء وتربك تصرفاتها. ألا تعلم أنّها هي وحدها التي يحرم 
عليها: 31 ترتكن الأخطاءة وكل يرفهن فيها'القذزه على التصسع: ومن من أحد 
يوفر لها فرصة ذلك. ألا تخمد ضرورة محافظتها في كل لحظة على الكمال 
قدرتها وتمش ارس ها» إن هذه إلراة لاتمبتتيم العيقن لاقي تجو من 
تسامح ملائكي, ' وأين هي القلوب التي يتذ يتفتح التسامح فيها دون أن يصطبغ ذلك 
بشفقة جارحة مرة؟. هذه الأفكار التي عودتها عليها مجاملتها الرهيبة للمجتمع: 
وهذه المراعاة الأكثر قسوة من الإهانات فاقمت البلايا بالتحقق منهاء وأرهقت 
الآنسة تمنينك, وسببت لها مضايقة ثابتة أبعدت إلى أعماق روحها الانطباعات 
الأكثر عذوية وكست بالبرود تصرفها وكلامها ونظرتها. إنها متيمة خفيّة لاتجرقٌ 
على الإفضاح آى التجمل إلا في العزلة. فهي تعيسة في وضع النهار؛ فاتنة لى 
يتيسر لها أن تقضي حياتها في عدت عتمة الليلء وغالباً ماتكره التزيّنء الذي يمكن 
أن يستر بعض عيويهاء لتستمتع بهذا الحب مجازفة بفقده؛ فعيناها كاسيانية 
تفتتن عندما تلاحظ أن بلتزار يجدها جميلة وهي على طبيعتها, غير أنْ الريبة 
أفسدت عليها اللحظات النادرة التي كانت تجازف خلالها يأن تستمتع 
بالسعادة. لقد تساءلت سريعاً عما إذا كان كلايس لا يبغي الزواج بها إلا ليكون 
له في منزؤله أمة» وعن احتمال وجود عيوب سرية فيه تجعله يقتنع بالزواج من 
فتاة بائسة مشوهة, هذا القلق المستمر كان يثقل يفداحة ثمنه على الساعات 
التي تعتقد فيها باستمرارية وإخلاص حب ينتقم لها من العالم. كانت تثير 
مناقشات حسياسة عندما تتعرض بامبالغة لدمامتهاء لتتغلفل إلى أعماق وجدان 


لبت 


حبيبهاء وكانت قنتزع عند ذاك من بلتزار حقائق قليلة التملّق» لكنها كانت تهوى 
الارتباك الذي يقع فيه, عندما تستدرجه ليقول أن ما يحب في المرأة هى قبل كل 
شيء الروح الطيبة» وهذه التضحية التي تجعل جميع أيام الحياة سعيدة بشكل 
ثابت» وأن أجمل نساء الأرضء بعد عدة ستوات من الزواج تغدى بالنسبة لازوج 
مثل أقبحهن. فجأة أحس بلتزار بفظاظة هذه المقترحات واكتشف كل ما في قلبه 
من طيبة في رقّة التحولات التي عرف كيف يبديها للآئسة تمنينك التي كانت 
كاملة بالنسبة له. فالتضحية التي قدتكون لدى المرأة قمة الحبّ لا تنقص هذه 
الفتاة؛ إذ أنها وقد قنطت من أن تكون محبويبة على الدوام» أغراها منظور 
الصراع الذي يجب أن تتغلب فيه العاطفة على الجمال؛ ثم وجدت أنْ من الكبر 
أن تهب نفسها دون أن تؤمن بالحب؛ أخيراً فإن السعادة مهما كانت مدتها 
قصيرة ستكلقها غالياً جداً إن امتنعت عن تذوقها. هذه الشكوك؛ وهذه 
الصراعات بإشاعتها الجاذبية وغير المتوقع في هوى هذه المخلوقة السامية, 
أوحت إلى بلتزار بحب شبه فرويسي. 

تم الزواج في بدء سنة ه74١‏ وعاد الزوجان إلى دوي ليقضوا ايام 
اقترانهما الأولى في بيت كلايس الأبويء الذي أغنت الآنسة دي تمنينك كنوزه 
ببعض اللوحات الجميلة لموريلى وقلاسكز('), ويالاميس أمّهاء ويالهدايا الوائعة 
التي آرسلها لها أخوهاء الذي أصبح دوق كازا ‏ ريال. 

قلّة من التساء كنْ بمثل سعادة السيدة كلايس؛ وقد دامت سعادتها 
خمسة عشر عاماً دون أن تعكرها أيّة غيمة؛ وكنور ساطع انبثت في أدق 
تفاصيل وجودها. إن لدى معظم الرجال تفاوت في الطباع يحدث تنافراً 
مستمراً. ويذلك يحرمون بيوتهم من ذاك الانسجام؛ وهى هدف مثالي لكل عائلة؛ 
ذلك أن معظم الرجال ملوثون بالصغائر, والصغائر تولّد الإزعاجات» فأحدهم 
مستقيم ونشط لكنه قاس وخشنء وآخر طيب لكنه عنيد؛ هذا يحب امرأته لكن 
تكيّل الشكوك إرادته وذاك؛ وقد انشغل بالطموحء يتصرف مع العواطلف وكأنها 
دين» فإذا ازدهى بالحصول على الثروة فإنه قد حرم من متعة جميع الأيام. 


)١(‏ موريلى ١"107(‏ - 1547)ء قلاسكز (.109 - 1370): من الفنانين الاسباتيين 
حت 


أخيراً فإن رجال الوسط الاجتماعي غير كاملين دون أن يتوجب لومهم 
بالضرورة» ورجال الفكر متغيرون كتغير مقاييس الضغط الجوي والعبقري منهم 
هى الطيبء وهكذا فالسعادة الحقيقية هي بين طرفي السلم المعنوي: الغبي 
الساذج أو رجل الإبداع هما القادران على تحقيقهاء الأول بضعقه والآخر 
بقوته, بهذه المساواة في الطبع والعذوية الدائمة التي يرق فيها ما أخشوشن من 
أمور الحياة؛ لدى الأول لامبالاة وقصور ذاتي ولدى الثاني تسامح واستمرار 
فكر سامء هو المعبر عنه, بتماثل في المبدأ, كما في التطبيقء الأول والشاني 
بسيطان بريئان إنما لدى هذا العمق ولدى ذاك الفراغ؛ وهكذا فالتساء البارعات 
مهيآت تقريباً لتقبل الغبي وكأنه الأمل المرتجى كالعبقري. 

كان بلتزار يتميز إذا بسموه حتى في أتفه أمور الحياة؛ وقد راق له أن 
يرى قي الحبّ الزوجي تحقة رائعة؛ أراد أن يبسبط فيها كل معاني الجمال 
كجميع الرجال أصحاب الغايات الكبيرة, فكانت روحه تعدل دون انقطاع هدأة 
السعادة وطبعه التييل يوجه انتباهه إلى معالم الرقّة والتلطّفء وهكذا فبالرغم 
من اتياعه للممادىء الفلسفية السائدة في القرن الثامن عشر فقد آوى إليه حتى 
العام ١-14١ء‏ رغم تعرّضه لمخاطر القوانين الثورية كاهناً كاثوليكياً. كي يرضي 
التعصب الاسباني للكاثوليكيه الرومانية الذي رضعته زوجته مع حليب أمها. ثم 
بعد أن أطلقت حرية العبادة قي فرنسة, كان يرافق امرأته كلّ يوم أحد إلى 
القداس؛ وهكذا فإن مودته لم تتخل عن أشكال الهوى المتيّم, ولم يظهر أبدأً في 
منزله تلك القوة الحامية. بالرغم من محبة التساء لهاء لأن زوجته تراها تشبه 
اأشفقة. أخيراً ويحس تصرف بارع قي الذكاء كان يعاملها كند له ويسمح 
لنفسه بأن تبدر عنه بعض مظاهر ااحرد التي يبديها الرجل تجاه المرأة الجميلة 
ليرضي فيها تعاليها. كانت بسمة السعادة تتجلّى دائماً على شفتيه؛ وكلامه 
تماؤه العذوية دوماً» لقد أحبّ جوزفينه لذاتها وله بهذه الحماسة التي يقتضيها 
التقريظ المستمر لمزايا ومفاتن المرأة. أما الإخلاص وهى غالبا نتيجة مبداً 
اجتماعي أو تدين أو غاية لدى الأزواج» فهى لديه على مايبدوء لا إرادي ومترافق 


دا عن 


دوماً بملاطفات ربيع الحبّ العذبة؛ والواجب في الزواج هو الفرض الوحيد الذي 
يبدى مجهولاً لدى هذين الكائنين المتحابيّن بالتساوي؛ إن رأى بلتزار كلايس في 
الآنسة دي تمنينك تحقيقاً كاملاً وثابتاً لجميع آماله؛ والقلب لديه قد أفعم حباً 
دون كدر والرجل يرتع في السعادة؛ فالدم الاسباني قي عروق حفيدة آل كازا - 
ريال لم يكذب أصالته وقد منحها سر هذا العلم الذي يعرف كيف ينوع الملذات 
إلى مالانهاية: ليس هذا فقط؛ إنما منحت تضحية لاحدود لها هي ابداع جنسها 
كما تحول الجمال كلّه فيها إلى جاذبية لقد أصبح الحب فيها عصبية عمياء 
يسرها فيه أن تنطلق إلى الموت بإيماءة من رأس الحبيب؛ فرقة بلتزار أثارت 
فيها أنبل ما تحس به المرأة من عواطف وأوحت إليها بحاجة ملحة لتعطي أكثر 
مما تتلقى. هذا التبادل المشترك لسعادة تتناوب متدفقة أطلقت مبداً حياتها من 
كوامن نفسها بشكل ظاهر, قانتشر حب متزايد في عباراتها ونظراتها 
وتصرفاتها؛ وأغنى العرفان بالجميل» من جهة وأخرى؛: حياة القلب وزادها 
تنوعاً. كما أن اليقين بأن كلاً منهما هو كلّ شيء بالنسية للآخر قد أبعد 
الصغائر بارتقائه بأتفه ملحقات الوجودء وأيضاً ألا تشعر المرأة المتشوهة التي 
يجدها زوجها تامة, أو المرأة العرجاء التي يجدها الرجل غير ذلك؛ أو المرأة 
المتقدمة في العمر التي تبدى شابة, أنهن أسعد المخلوقات في العالم 
النسائي؟.... ألا يمكن للهوى الإنساني أن يذهب إلى الأبعد()؛ أليست عزرة. 
المرأة في أن تجعل عيويها موضع تبجيل؟ إن نسيان المشية غير السويّة لعرجاء 
هى افتتان لحظةء لكن حبها لأنها تعرج هو تقديس لعلتّها . ريما وجب أن ينتعش 
يوماً في الكتاب المقدس للنساء هذه الحكمة: «طويبى للمشوهات لأن لهن ملكوت 
الحب». حقّاً يجب أن ينظر إلى الجمال كنقمة على المرأة؛ فهذه النعمة العابرة 
تتدخل كثيراً بما توحيه من عاطفة؛ فكان الجميلة تحب لجمالهاء كما يُسعى 
للزواج بالوريثة الثرية لغتاها. لكن الحبّ الذي تثيره أى تظهره امرأة حرمت من 
المزايا الهشة التي يتهافت عليها أبناء آدم؛ هى الحب الحقيقيء والهوى الغامض 


)١(‏ بذلك يكون حب كلايس الزوجي يمثل المطلق قي مجال الهوى. 
00-5 


حقاً وعناق الأرواح الحادء والعاطفة التي لا تعرف يوماً خيبة الأمل. إن لهذه 
المرأة مفاتن مجهولة من عالم المراقبة الذي تتفلّت منه. إنها جميلة بالشكل. 
الصاتب وتتهيا لها العرَّة بحيث تنسى عللها التي لاتحول أبداً دون نجاحها. 

هكذا فإن أشهر قصص الحبّ في التاريخ قد استوحيت جميعها تقريباً 
من نساء وأى فيهن العوام يعض التشوهات: كليوباترة(!). جان نابولي» ديان 
بواتيه, الآنسة دى لاقالييرء السيدة دى بومبادور. أخيراً فإن معظم النساء 
اللواتي خلّدهن الحب لم يخلون من تشوه أو عجزء بينما معظم النساء اللواتي 
اشتهرن بجمال تام رأين حبهن ينتهي إلى الخيبة. هذه الغرابة الظاهرية يجب 
أن يكون لها سبب! أهو اهتمام الرجل بالعاطفة أكثر منه بالمتعة؟ أم أن الجاذبية 
الجسمية للمرأة الجميلة ذات حدود بينما ااجازيية المعنوية يشكل رئيس لامرأة 
ذات جمال متواضع لانهاية لها؛؟ آأليس هذا مايستنتج من حكايات ألف ليلة 
وليلة؟ لى أن زوجة هنري الثامن كانت دميمة لتحدت الفأس وتغلّيت على تقلبات 
املك(" 

بغرابة لها عذرها عند فتاة ذات أصل اسبانيء كانت السيدة كلايس 
جاهلة؛ اقتصرت ثقافتها على القراءة والكتابة: لكنها حتى العشرين من عمرهاء 
عندما أخرجها أهلها من الدير» لم تكن متعطشة إلى مسراته؛ فلم تتعلم إلا 
مبادىء التزين التافهة: إِنّما كانت مستخزية من جهلها بحيث لم تجرق على 
الدخول في محادثة؛ مما دفع إلى الظن يأنها محدودة التفكير. غير أن هذه 


)١(‏ كليوياترة (55- *٠‏ ق م) ملكة مصرء أحبها قيصرء ثم انطونيى. لم يعجب أنفها 


اوكتاقيوس 
جان نابولي (797؟ 1‏ 47؟1) ملكة نابولي, اشتهرت بإساءة معاملة الأزواج. ماتت 
ع 


ديان يواتيه )١1611-١845(‏ خليلة هنري الثاني 
دي لافالبير (5 )١7٠١ - ١75‏ عشيقة لويس الرايع عشرء كانت عرجاء. 
السيدة دي يومبادور (١1؟ 17 )١714‏ عشيقة لويس الخامس عشر. 
(؟) المقصود أن بولين (/1651-1501) التي تزوجها الملك رغم حرمان روما ثم قتلها يعد 
أن أحب غيرها. 


3 


التربية الغامضة انتجت لديها احتداماً في العواطف دون أن تفسد ذكاعها 
الطبيعي؛ فهي دميمة وحمقاء كوريثة في أعين البشرء لكنها جميلة ومرهفة العقل 
في نظر زوجها؛ وقد عمل بلتزار في السنوات الأولى من زواجهما على أن 
يكسب امرأته المعارف التي تحتاج إليها لانخراطها في المجتمعء لكن الوقت قد 
قات دون شكء ولم تعد الذاكرة تستوعب إلا قضايا القلب. فجوزفين لاتنسى 
شيئًاً مما يقوله لها كلايس عما يتعلق بهماء وتتذكر أدق تفاصيل حياتها 
السعيدة, لكن في العلم لاتتذكر درس الأمس في اليوم التالي. هذا الجهل لو 
كان بين أزواج آخرين لأدى إلى تنافر كبير: لكن السيدة كلايس في توافقها 
الساذج البريء مع الهوى؛ تحب زوجها إلى درجة التقى والتقديسء بحيث 
يمنحها توقها للمحافظة على سعادتهما مهارة تمكذّها دائماً من فهمه وطي هذا 
الجهل بحيث لايبدى جلياً الواقع عندما يتحاب شخصان إلى الدرجة التي يبدو 
فيها كلّ يوم لديهما هو يوم هواهما الأول؛ تترسخ في سعادتهما العامرة ظواهر 
تبدل جميع شروط الحياة؛ أليس هما في طفولة خلية من كل هم لاتبالي إلا 
بالضحك والمرح والسرور؟ ومن ثم فعندما تكون الحياة تمور نشاطاً» والبيوت 
ملؤها الحركة فإن الرجل ينطلق معها في وقدتها دون أن يمعن التفكير أو 
المناقشة بهاء ودون حساب للوسائل والفايات, عدا عن أن مامن ابنة لحواء 
أفضل من السيدة كلايس في إدراكها لواجباتها كامرأة؛ فهي تتصف بامتثال 
الفلمندية التي تملأ البيت العائلي جاذبية» بينما يمنحه زهى أصلها الاسباني 
نكهة فائقة؛ وقد تميزت بالوقار» فهي تعرف كيف تفرض احترامها بنظرة يشع 
منها إحساس بمكانتها ونبلها؛ لكنها أمام كلايس كانت ترتجفء وانتهت مع 
الزمن إلى وضعه في منزلة سامية تقريّه من إله, بعد أن نقلت إليه جميع أحداث ٠‏ 
حياتها وكلّ كا يخطر ببالها بحيث اكتسى حبها مسحة من خشية موقرة 
تشحذه وتزيده مضاءً. واتبعت بزهى جميع تقاليد البورجوازية الفلمندية, 
واعتبرت كرامتها رهئاً بتحقيق حياة عائلية مرفهة سعيدة فهي تعنى بكل شوّون 
البيث محافظة على نظافتها التقليدية؛ وتختار من الأشياء ماعرف يجودته 


ا البحث عن المطلق م ؟ 


المطلقة؛ وتهيء لمائدتها أشهى المآكلء وترتب كل شيء في تناسق مع أحاسيس 
قليها. رزق الزوجان آربعة أولاد» صبيين وينتين» وقد ولدت ابنتها اليكر مرغريت 
في العام 1797: أما الود الأخير فكان صبياً عمره الآن ثلاث سنوات واسمه 
حان تلعذازه وكانثت عاطفة الأمؤة عدن النسنرة كلدي تعادل تقويباً محيدها 
لزوجها؛ وهكذا فقد قامت في أعماق نفسهاء وخاصة في الأيام الأخيرة من 
حياتها معركة رهيبة بين هاتين العاطفتين اللتين تتميز كلاهما بالقوة» والتي 
تحمل كل منهما للأخرى نوعاً من العداوة. 

في الفترة التي بدأت فيها قصة هذه المأساة العائلية التي احتضنها ذلك 
البيت الوديع: وسم الذعر والدموع وجه السيدة كلايس خشية أن تكون قد 
ضحت بأولادها من أجل زوجها. 

في العام ١16.5‏ توفي شقيق السيدة كلايس دون أن يرزق أولاداً» 
والقوانين الاسبانية تحول دون انتقال ملكية الأراضي المشكلة لإقطاع العائلة 
إلى الأخت لكن الدوق في وصيته ورّث أخته نحى ستين ألف دوكا لايمكن أن 
ينازعها فيها الورثاء من الحواشيء ويالرغم من أن العاطفة التي تربطها ببلتزار 
كلايس لم تشبها يوماً فكرة الكسب المادي. فإن جوزفين أحسيت بنوع من 
الغقبطة لأنها امتلكت ثروة تعادل ثروة زوجها؛ وشعرت بالسعادة لآأن في مكنتها 
الآن أن تقدم له شيئاً بعد أن تأّقت منه بنبل كل شيء. هكذا أرادت الصدفة أن 
يصبح هذا الزواج: الذي اعتبره أنصار المصالح جئوناًء من الناحية الماديّة, 
زواجاً ممتازاً. لكن استغلال هذا المبلغ أحدث صعوية في التطبيق؛ فبيت كلايس 
كان مليئاً بالأثاث؛ واللوحات؛ والتحف الفنية والقيّمة, بحيث بدا من الصعب أن 
تضاف اليها رياش أخرى مماثلة لما يحويه؛ فذوق تلك العائلة قد راكم كنوزاًء 
وانطلق جيل كأمل سعياً وراء اللوحات القيمة: ثم جعلت ضرورة إكمال المجموعة 
التي بديء بها الميل إلى الرسم وراثياًء قاللوحات المئة التي تزيّن الرواق الواصل 
بين الجناح الخلفي وقاعات الاستقبال الواقعة في الطابق الأول من الجناح 
الأمامي: وكذلك اللوحات انلخمسون الموضوعة في صالات الاحتفالات قد تطلّبت 


ع 


ثلاثة قرون من سعي دؤوب. إنها قطع فنية شهيرة لروينسء» ورويزدال وقان ديك 
وترير غ. وجيراردوء؛ وتنيه؛ وميريس» ويول يوتر» وورماتس وراصبرائدتء وأويماء 
وكراناشء؛ وهولبين. قليلة كانت اللوحات الايطالية والفرنسية لكنها جميعها 
أصيلة ورئيسة. كما أن جيلا آخر قد استهوته أطقم المائدة اليابانية والصينية؛ 
وهكذا! استهوى الأثاث أحد أفراد عائلة كلايسء بينما استهوت الفضيات آخرء 
فكان أكل منهم هُوسه. وهواهء وإحدى السمات الأكثر يروزاً قي الطبع 
الفلمندي؛ فوااد بلتزارء وهى من نهاية سلسلة المجتمع الهولندي الشهيرة ترك 
إحدى أغنى مجموعات الخزامى المعروفة. عدا هذه الكنوز الموروثة التي تمثل 
رأسمال هائلاًء والتي كانت تؤدُة كث بشكل دائع ذلك البيت العتيق» البسيط في 
مظهره من الخارج كقوقعة, لكنها قوقعة لؤّلؤية من الداخل ومزينة بأغنى 
الألوان. 

كان بلتزار كلايس يمتلك أيضاً بيتاً ريفياً في سهل أوركيء وكان بعيداً 
عن أن ينفق كل مايرده؛ كما يفعل الفرنسيون, بل انه اتيع التقليد الهولندي 
القديم فلا ينفق إلا ربع دخله, وبالتالي فإن هذا الربع المعادل لألف ومكتي دوكا 
سنوياً يجعل انفاقه على مستوى أغنى الأشخاص في المدينة. أظهر نشر 
القانون المدني صحة هذا التصرف الحكيم, فهو يتقريره توذيع الملكية بالتساوي, 
فإن 'تودّع المواريث سيترك كل ود شبه فقيرء وسيشتت يوماً كنوز متحف آل 
كلايس القديم؛ لذلك وضع بلتزار بالاتفاق مع التق كلايس ثروتها بطريقة 
تؤمن لكل من أولادهم وضعاً مماثلاً لوضع الأب؛ فاستمر بيت كلايس في 
بساطة سيرتهء واشترى متاطق حراجية أسيئت العناية يها خلال الحروب التي 
مرت لكنها بعد عشر سنوات من حسن الصيانة ستكون ذات قيمة كبيرة. 

إن المجتمع الراقي في دواي الذي يعاشره كلايس؛ عرف كيف يقدر جيداً 
طبع ومزايا زوجته؛ فقد أعفاها من الواجبات التي يتمسك بها أهل الأقاليم 
بشدة: فكانت خلال فصل الشتاء الذي تقضيه في المدينة لاتزور الناس إلا 
نادراً» إنما يأتي الزوار إليهاء فتستقبل كل يوم أريعاء؛ وتقيم ثلاث ولائم عشاء 


وات 


كبرى في الشهرء وكان كل فرد يشعر انها أكثر راحة في ملازمة منزلها التي 
يوجبها عليها هواها لزوجهاء وما تتطلبه رعاية أولادها من عناية. 

هكذا كانت, حتى العام .»١8.5‏ سيرة هذه العائلة المتوافقة مع الأفكار 
التي تبنتهاء فحياة هذين الكائنين المليئة سراً بالحب والغبطة؛ كانت تبدو 
للخارج مماثلة احياة أيّة عائلة أخرى. إن هوى بلتزار كلايس لزوجته التي عرفت 
كيف تجعله يستمرء بدا كما لاحظ هى بنفسه يستخدم مثابيرته الفطرية قي 
زراعة السعادة التي تعادل زراعة الخزامى التي استهوته منذ صغره؛ وأغنته عن 
أن يكون له هوبسه الذي لازم كل واحد من أسلافه. 

في نهاية تلك السنة طرأت على نفس بلتزار وتصرفاته تغيّرات مشؤومة 
بدأت يشكل طبيعي أولاً بحيث لم تجد السيدة كلايس ضرورة لسؤاله عن 
السبب. في ذات مساء أوى زوجها إلى فراشه وقد بدا في حالة انشغال بال 
وجدت أن من واجبها أن تحترم عدم افصاحه عنهاء فرّقتها كامرأة, وعاداتها 
في الامتثال جعلتها دائمأ تنتظر اعترافات بلتزار لها التي ضمن ثقتها به حب 
حقيقي لايفسح أي مجال للغيرة؛ ويالرغم من يقينها بالحمصول على جواب إذا: 
سمحت لنفسها بسؤال فضوليء فإنها احتفظت دائماً من انطباعاتها الأولى عن 
الحياة بخشية الرفض. غير أن مرض زوجها التفسي كان ذا أطوار؛ ولم يصل 
إلا على ظلال تتدرّج إلى أن غدت أكثر قوة من ذلك العنف الذي لايطاق؛ والذي 
يهدّد سعادة الحياة الزوجية؛ ومهما بدا بلتزار مشغولاً. فقد بقى مع ذاك؛ وخلال 
عدَة أشهوء مفد قا عتلوفا لم عنم عليهيمن تخين فى الطليع |لذ كلك القحوات مخ 
الشرود المتكاثرة. أملت السيدة كلايس طويلاً أن يطلعها زوجها على سر 
مشاغله؛ واعتقدت أنه لايرغب بالبوح بها إلا فى اللحظة التى يحقق فيها نتائج 
مفيدة: إن أن كثيراً من الرجال يدفعهم الإباء إلى إخقاء معاركهم فلا يظهرونها 
إلا منتصرين. في يوم النصر إذاً ستعود السعادة العائلية أكثر تألقاً بحيث 
يلاحظ بلتزار تلك الفجوة في حياته الغرامية التي سيشجبها قلبه دون شك؛ 
وجوزفين تعرف جيداً زوجها بحيث تدرك أنه لن يغفر لنفسه أنه جعل حبيبته أقل 


ا 


سعادة خلال عدة أشهرء لذلك ازمت الصمتء وهي تشعر بنوع من اللذة لأنها 
تشقى بسببه ومن أجله؛ فهواها مشوب بتلك التقوى الاسبانية؛ التي لاتفصل 
أبداً الإيمان عن الحب» ولاتفهم أبداً العاطفة دون آلام, وانتظرت عودة الود وهي 
تقول لنفسها كل مساء: «ستتفرج غداأً». كانت تتعامل مع سعادتها كأنها غائبة؛ 
وقد حملت بطفلها الأخير وسط هذه التشوشات الغامضة؟؛ فكان هذا الحمل 
كشفاً ريباً عن مستقبل آلام!. في هذا الظرف كان الحبْ بين سهوات زوجهاء 
هى الأكثر تعرّضاً للسهى ودفعها إباؤها الجريح لأول مرّة, لأن تسبر عمق الهوة 
المجهولة التي فصلتها إلى الأبد عن كلايس الأيام الأولى» ومنذ تلك اللحظة 
ساءت حالة كلايس: فهذا الرجل الذي كان سابقاً غارقاً دون انقطاع في 
الأقراح العاظية؛ ملاعباً لساعات كاملة أولاده. يتدحرج معهم على سجادة غرفة 
الجلوسء أى في ممرات الحديقة؛ يبدو وكأنه يتطلع إلى الحياة من خلال عيني 
زوجته المدللة الحبيبة» لم يلاحظ في شروده الآن حتى حمل امرأته» وقد نسي 
حياة العائلة. يل نسي نفسه. وكلما تأخر الوقت على السيدة كلايس لسؤاله عن 
مشاغله. كلما قلت جرأتها على هذا السؤال. عند هذا الخاطر يغلي الدم في 
عروقهاء ويخونها النطق. أخيراً خيّل إليها أنها لم تعد تثير إعجاب زوجهاء 
وانتابها من ذلك قلق جاد؛ سيطر الروع فيه على نفسهاء وأقنطهاء وأثارهاء 
وغداً سبباً لساعات كآبة طويلة» وأحلام يقظة حزينة. برّرت لبلتزار موقفه ملقية 
على نقسها اللوم؛ قهي عدا عن دمامتها قد شاخت؛ ثم خطرت لها فكرة سمحة 
لكنها مذّلة بالنسية لهاء فقد رأت في العمل المنصرف إليه وفاء سلبياًء وأرادت 
أن تمنحه استقلاله بإقامة واحد من هذه الأشكال السريّة للطلاق مشكّلاً كلمة 
السعادة التي يبدو أن أزواجاً عديدين يرتعون بها. غير أنها قبل أن تلقي كلمة ٠‏ 
الوداع على الحياة الزوجية. جريت أن تقر فى أعماق هذا القلب, لكنها وجدته 
مغلقاً. وشيئاً فشيئاً رأت بلتزار يغدى لامبالياً تجاه كل ماكان يحبه؛ فقد أهمل 
نبتات الخزامى وهي مزهرة: ولم يعد يفكر بأولاده. إِنّه دون شك منصرف إلى 
هوي. خارج تعلّقات القلبء لكنه بالنسبة للنساء لايخفف من قسوة القلب. إِنْ 
الحبّ هاجع لكنه غير هارب؛ وإن وجد عزاء فهى في أن البليّة لن تبقى على 


3 


حالها؛ لكن استمرار هذه الأزمة يتفسر بكلمة واحدة هي الأمل؛ سر جميع هذه 
الأوضاع الزوجية؛ ففي اللحظة التي تصل فيها تلك المرأة المسكينة إلى درجة 
من اليأسء تدفعها إلى أن تتجر؟ لتطلب إيضاحاً من زوجها؛ عنذ ذاك بالضبط 
تتجدد لديها لحظات عذبة يبرهن خلالها بلتزار على أن الأفكار التي تشغل 
ذهنهء مهما كانت شيطانية» تتيح له أن يعود أحياتاً إلى نفسه كما عَهدتها؛ 
وخلال تلك اللحظات التي تصفى فيها سماؤهاء تسارع لتستمتع بسعادتها بدلاً 
من أن تعكرها بالمضايقاتء ومن ثم عندما تتشجع لتسأل بلتزارء وفي اللحظة 
التي تكاد تتكلم فيها يفلت منها سريعاً» أو يتركها فجأة؛ أى يهوي في لجة 
تأملاته المتي لايمكن لأي شيء أن ينتزعه منها. 

لم يعض إلا القليل حتى بدأ الفعل النفسي يفتك بالجسد فتكاً غير 
محسوس في البدء غير أنه لايخفى على عين المرأة المحيّة التي تتابع أفكار 
زوجها المبهمة حتى أدق مظاهرها؛ وغالياً مايصعب عليها حبس دموعها وهي 
تراه بعد العشاءء وقد غاص في أريكة قرب النار؛ عابساً مفكراً» وقد تسمرت 
عينه على لوح أسود دون أن يلحظ الصمت الذي ران حوله؛ كانت تلحظ بذعر 
التغيرات غير المحسوسة التي أخذت تتلف هذا الوجه الذي سما به الحب في 
نظرهاء فيزداد كل يوم انسحاب حيوية الروح منه؛ وتبقى القسمات جامدة 
خالية من أي تعبيرء وأحياناً تأخذ العينان لوناً زجاجياً. فيبدو وكأن النظر قد 
ارتد ليمارس فعاليته من الداخل؛ وعندما يأوي الأولاد إلى المهاجع بعد عدة 
ساعات من الصمت والعزلة؛ وقد ملأتها الأفكار المريعة, قد تتجراً يييتا(١)‏ 
وتسأله, «ياصديقيء» هل ثمّة ما يضايقك؟». أحياناً لايجيب بلتزار» وإن أجاب, 
يعود بارتعاشة إلى نفسه كمن استيقظ مذعوراً من نومه؛ ليقول بجفاف ويبصوت 
أجش «كلا»؛ فتسقط هذه الكلمة ثقيلة على قلب امرأته الخافق باختلاج؛ وبالرغم 
من أنّها أرادت أن تخفي عن أصدقائها الحالة الغريبة التي وصلت إليها؛ فإنها 


)١(‏ مبيتا: 621]8 : من الأسماء الأولى لجوزفين كلايس والمعروف أن العائلات النبيلة 
تعدد اسماء بنيها ويناتها . 


0 


قد وجدت نفسها مضطرة للتحدث عنها؛ ووفقاً لعادات المدن الصغيرة: فإن 
معظم الصالونات اتخذت من اختلال بلتزار موضوع أحاديثهاء بل إن يعض 
الحلقات الاجتماعية تطرقت إلى تفاصيل عديدة تجهلها السيدة كلايس: وهكذا 
قبالرغم من الصممت الذي توجيه المجاملة المهذبة» فإن يعض الأصدقاء أظهروا 
قلقاً بالغاً دفعها إلى سرعة تبرير تفردات زوجها مدعية «أن السيد بلتزار قد 
انشغل بعمل كبير يستغرق كل تفكيره؛ لكن نجاحه فيه سيكون موضع فخر 
لعائلته ووطنه». هذا التفسير الغامض داعب كثيراً طموح مدينة يسود فيها حب 
الوطن: أكثر من أيّة مدينة أخرىء بحيث أحدث في النفوس رد فعل مقدر السيد 
كلايسء فافتراضات زوجته لم تكن؛ إلى حد ماء دون أساسء إذ أن عمالاً من 
مهن متعددة عملوا لمدة طويلة في عنبر القسم الأمامي من المنزل حيث أخذ 
يتردد عليه بلتزار منذ الصباحء ويعد أن كان يقضي فيه خلوات تتزايد أوقاتها 
طولاًء بحيث تعوّد عليها زوجته وأفراد المنزل تدريجياً؛ فإنه وصل إلى مرحلة تمرٌ 
عليه فيها أيام كاملة وهى في خلوته هذه. لكن الألم غير المتوقع كان فيما علمته 
السيدة كلايس خلال المسارات المذلة من بعض صديقاتها المخخصات المندهشات 
من أنها تجهل مايقوم به زوجها من شراء متواصل لأجهزة فيزيائية؛ ومواد 
ثمينة» وكتبء وماكنات من باريس» وأنه سائر إلى الخراب: كما يقالء في سعيه 
إلى الوصول إلى حجر الفلاسفة؛ وأضافت الصديقات أن عليها أن تفكر 
بمستقبلها الخاصء وسيكون من الإجرام ألا تستخدم تآثيرها لتحويل زوجها 
عن الطريق الضال الذي تورط فيه. 

إن كانت السيّدة كلايس قد وجدت الجرأة الحازمة لتضع حداً لهذه 
الأقاريل غير المعقولة فقد تملّكها الرعب رغم اطمئنانها الظاهر وقرّرت أن تتخلّى ' 
عن دورها في إنكار الذات. لقد توأدت فيها إحدى هذه الحالات التي تشعر فيها 
المرأة أنها على قدم المساواة مع زوجهاء فتخلت عن وجلهاء وتجرأت أن تطلب 
من بلتزار سبب هذا التغير ومبرّر خلوته المستمرة: لكن الفلمندي قطّب حاجبيه 
وأجابها: «ياعزيزتيء لن تفهمي شيئاً من ذلك». 


سية د 


ألحّت جوزقين يوماً لتعرف هذا السرء معللة بلطف أن من تشاركه 
الحياة: يجب أن يشاركها في أفكاره» فأجابها بلتزار وهى يجلسها على ركبتيه 
ويداعب شعرها الفاحم قائلاً: «بما أن هذا الأمر يشغل بالك كثيراً» فاعلمي أنني 
منصرف إفى الكيمياءء وانتي بذلك أسعد رجل في العالم.» 

بعد سنتين من الشتاء الذي غدا فيه السيد كلايس كيميائياً تغير وضع 
منزله. سواء لأن المجتمع قد انزعج من شرود العالم المستمرء أفى ظن أنه 
يضايقه؛ أو لأن الهموم المكتومة قد جعلت السيّدة كلايس أقلّ ظرفاً, فلم تعد 
ترى إلا أصدقاءها الخلّصء أما بلتزار فلم يعد يذهب إلى أي مكان؛ فهو 
منحبس في مخبره طيلة النهار» ويبقى فيه أحياناً خلال الليل ولايظهر بين أفراد 
عائلته إل في موعد العشاء؛ وقد انقطع منذ السنة الثانية عن أن يقضصي نهاية 
الربيع والصيف في منزله الريفي وأبت امرأته أن تؤمه من دونه. 

كان بلتزار أحياناً يخرج من منزله متنزهاً ولايعود إلا في اليوم التالي. 
تاركاً امسيدة كلايس خلال ليل بكامله نهباً لقلق مميت؛ بعد أن تكون قد أرسلت 
من يفتش عنه عبثاً في مدينة تغلق أبوابها مساءً وفقاً لعادات الأماكن المحصنة, 
وعتد ذاك لايبقى للمرأة التعسة حتى أمل الانتظار المشوب بالقلق وتستمر في 
ألمها الممض حتى اليوم التالي عندما يصل بلتزار الذي نسي في أمسه موعد 
إغلاق الأبواب وهى هادىء دون أن يحس بما سبيه شروده من عذابات في 
عائلته, حتى أن سعادة رؤيته ثانية تخلق بالنسية لامرأته أزمة بمثل ماتوقعته 
تخوفاتها من مخاطرء فتّصمت ولاتجرئ على سؤاله إذ أنه يجيبها لأول بادرة, 
وقد اعترته الدهشة: «إيه, ماذا جرى:؛ ألا يمكن المرء التنرّه!». إن العواطف 
لائدرف الخداع؛ وهموم السيدة كلايس تبرّر إذا الشائعات التي طاب لها سابقاً 
أن تكذيهاء وقد خبرت في شبابها الشفقة المهذبة للمجتمع؛ بحيث لاتريد أن 
تتعرض لها مرة أخرى؛ وحبست نفسها بدرجة أكبر بين جدران منزلها الذي 
عجره حتى أصدقاؤها الأخيرون الخلّصء إن الفوضى في الملايس المحطة دائماً 
من قدر إنسان من عليّة القوم, لم تكن لدى بلتزار الأقل حساسية من جميع 


لا سد 


أسباب الأحزان التي تؤلم تلك المرأة المتعودة على نظافة الفلمنديات الفائقة, 
وبالاتفاق مع لمولكنيه وصيف زوجهاء تداركت جوزفين لبعض الوقت التلف 
اليومي للثياب؛ لكن وجب عليها أن تتخلى عن ذلك؛ ففي ذات اليوم الذي كانت 
تعوض فيه حوائج جديدة: دون علم بلتزار؛ بالحوائج المبقعة؛ أى الممزقة؛ أى 
المثقبة؛ تجعل تلك يدورها أسمالاً. فجأة وجدت هذه المرأة السعيدة خلال خمسة 
عشر عاماً» لم تتطرق فيها الغيرة إلى نفسهاء أنّها ليست في الظاهر شيئاً في 
القلب الذي كانت تحتله سابقاً؛ ودوت في نفسها عاطفة المرأة الاسبانية؛ وهي 
الاسبانية الأصلء عندما وجدت في العلم: منافساً ينتزع منها زوجهاء اكهفنت 
أنياب الغيرة قلبهاء وغيّرت حبها. لكن كيف يمكن التصرّقف ضد العلم؟ كيف 
يمكن مصارعة القدرة المستمرة؛ والطاغيةء والمتزايدة؟ كيف يمكن القضاء على 
منافسة غير منظورة؟ كيف يمكن لامرأة ذات قدرة محدودة بطبيعتها أن 
تتصارع مع فكرة مباهجها لانهاية لهاء ومفاتنها جديدة دوماً؟ ماذا يُحاول ضد 
غنج آفكار تنتعش وتنشق أكثر جمالاً في الصعويات وتجذب رجلاً إلى مدى 
بعيد عن العالم بحيث ينسى حتى أعرّ موداته؟ أخيراً» وفي يوم أرادت السيدة 
بلتزار رغم أوامر زوجها الصارمة, ألا تتركه منفرداً على الأقل؛ وأن تنحبس معه 
في هذا العنبر الذي يعتزل فيه» وأن تجابه وجهاً لوجه منافستهاء بملازمتها 
لزوجها خلال الساعات الطويلة التي يسخى بها على هذه الخليلة الرفيبة, 
وأرادت أن تفسل سرًاً إلى هذا المحترف الغامض في إغرائه. وتكتسب حقّ 
البقاء فيه دائماً؛ وجريت إذا أن تتقاسم مع لمولكينيه حق الدخول إلى المخبر, 
لكنها خشيت نزاعاً يحضره الوصيفء فانتظرت اليوم الذي يسمح له فيه زوجها 
بالغيابء وكانت تتحرى منذ مدة روحات وجيئات هذا الخادم بنقاد صير بغيض,2 
ألا يعرف هذا الوصيف ما ترغب في معرفته؛ وما يخفيه زوجها عنها ولا تجسر 
أن تسأله عنه؟ لقد وجدت لمواكينيه أكثر حظوة منهاء هي الزوجة!. 

' تقدمت إذا وجلة» شبه سعيدة, لكنها لأوّل مرة في حياتها عرفت شدة 
غضب بلتزار؛ إذ ماكادت تفتح الباب: حتى انقض عليهاء وأمسك بهاء ورماها 


اوسا 


بقسوة على السلم بحيث كادت تهوي متدحرجة من أعلاه إلى أسقله: لولم 
ينتشلها وهى يصرخ «حمداً لله ماتزالين في الوجود!» وانكسر قناع من زجاج 
جطاماً حول السيدة كلايسء التي رأت زوجها شاحبأء ممتفعاً» مذعوراً. 

قال بعد أن جلس على درجة من السلّم كرجل مقهور: «لقد حرمت عليك, 
عزيزتي أن تحضري إلى هناء لقد وقاك الفديسون من الموت, أية صدفة جعلت 
عيني موجهتين نحو الباب؟ لولا ذلك لهلكنا. 

-« كم كان يسعدتي ذلك؛ عندكذ» قالت, 

- لقد فشلت تجربتيء لا يمكن أن أغفر إلا لك الألم الذي سببته لي خيبة 
الأمل القاسية هذهء كدت على الأرجح أصل إلى تفكيك الآزوت(١),‏ إذهبي وعودي 
إلى مشاغلك. قال هذا ودخل بلتزار إلى مخبره. «كدت على الأرجح: أفكك 
الآزوت؛» رددت المرأة المسكينة وهي تعود إلى غرفتها حيث تفجرت دموعها. 

كانت هذه العبارة غامضة بالنسبة لهاء فالرجال المتعودون يثقافتهم على 
تصور كل شيء لايعرفون مدى معاناة المزأة من عجزها عن فهم فكرة من تحب؛ 
وهذه المخلوقات السماوية أكثر تسامحاً مناء فهنٌ لايقلن لنا متى تبقى لغة 
أرواحهن غير مفهومة؛ إذ أنّهن يخشين إشعاراً بسمو عواطفهن» ويخفين عند 
ذاك الامهن بالقدر ذاته من الغبطة التي يسكتن فيها مسراتهن المجهولة؛ اكنهن 
في الحب أكثر طموحاً منا؛ فهن يردن أن يقترن بما هى أكثر من قلب الرجل, 
إنهن يبغين كل فكرة أيضاً. بالنسبة للسيدة كلايس. فإن عدم معرفة شيء من 
العلوم التي يهتم بها زوجها قد وأد في نفسها غيظاأً أكثر عنفاً من ذلك الناتتج 
عن جمال مناقسة لهاء فصراع امرأة مع امرأة يترك لتلك التي تحب أكثر ميزة 
- أن تحب أفضلء لكن ذلك الفيظ كان يسجل عجزاً ويذلٌ جميع العواطف التي 
تساعدنا على العيش. إِنْ جوزقين لاتلم بالعلم! وجهلها يضعها في حالة تيعدها 
)١(‏ في العام 1616 راجت شائعات مفادها أن برزليوس في استوكهولم وداقي في لندن قد 
توصلا في آن معاً إلى تحليل الآزوت؛ ووجدا أنه يتالف من 55/ من غاز لهوب و هه/ز 


اوكسهين, وهذا ما ردّد صداه بلزاك هناء لكن التطورات العلمية أفادت أن لاصحة لذلك؛: وآن 


مهو 


سات 


عن زوجهاء عدا عن عذاب أخير هى الأكثر شدة, فهذا الزوج غالياً بين الحياة 
والموت؛ إِنّه معرّض للخطرء بعيداً عنها وقريباً منها دون أن تدمكن من أن 
تشاركه مجازفته أى أن تتمكن من معرفتهاء فكأنها في جحيم؛ في سجن معنَّى 
لامنفذ منه, ولا أمل بالنجاة؛ وقد أرادت السيدة كلايس أن تتعرف على الأقل 
على جواذب هذا العلم, فأخذت تدرس سر الكيمياء في الكتب؛ وهكذا أصبحت 
هذه العائلة وكأتها في دير حبيس. 

هكذا كانت التغيرات المتتابعة التي مر بها الشقاء الذي حل على بيت 
كلايس قبل أن يؤدي بهم إلى نوع من موت مدني أصاب العائلة في الفترة التي 
تبدأ بها هذه الرواية. 

تعفّد هذا الوضع العنيف, فالسيدة كلايس كجميع النساء المشيويات 
العاطفة تتموّز بترفع خارق؛ ومن يحب بصدق يعرف أن لاقيئمة للمال تجاه 
العواطف ويعرف بأية صعوية يجمع. غير أن جوزفين لم تتمكن أن تتقبل إلا 
يانفعال قاس خبراً وصلها بأن زوجها مدين بمبلغ ثلاثمئة فرنك لقاء رهن 
عقاراته» لكن صحة العقود أكّدت الشكوك والإشاعات وتخمينات أهل المديتة» 
وما أن أتذرت السيدة كلايس حتى اضطرت» رغم إبائهاء أن تسأل موثق عقود 
زوجها وأن تكشف له أسرار لامها أى تدعه يخمَّنهاء وأن تسمع أخيراً هذا 
السؤال المذل: 

«كيف ألم يخبرك السيد كلايس حتى الآن بذلك؟», لحسن الحظ كان 
موثق عقود كلايس قريباً له وهذه القرابة ناتجة عن أن جد كلايس قد تزوج فقاة 
من عائلة بييركين آنقر وهي ذات عائلة يييركين دواي؛ ومنذ هذا الزواج فإن 
هؤلاءء بالرغم من أنهم غرباء عن آل كلايس يعاملونهم كأولاد عمومة؛ والسيد 
بييركين» وهى شاب في السادسة والعشرين من العمر حل محل أبيه في وظيقته. 
كان الشخص الوحيد الذي يستقبل في منزل كلايس. ونا كانت السيدة كلايس 
تعيش منذ عدة شهور في عزلة تامةء اضطر الموثق أن يؤكد لها خبر الكارثة 
المالية التي أصبحت معروفة في المدينة, وقال إِنْ زوجها مدين على الأرجم 


ماع 


بمبالغ معتبرة للبيت التجاري الذي يؤمن له المواد الأولية الكيميائية؛ إذ أنه بعد 
أن تحرى عن ثروة ومقام السيد كلايس» أخذ يتقبل طلباته ويؤمن له إرسالهاء 
دون قلق» رغم كبر اعتماداتها. كلّفت السيدة كلايس بييركين أن يطلب كشقاً 
بالطلكييات لرسلة اروجنيا" ويد ورين من ذلك أرسل اللسوهين بروج 
وشيفرشيل حساباً نهاتياً مقداره مئة ألف فرنك وقد درس السيد بييركين 
وااسيدة كلايس هذه الفاتورة بدهشة متزايدة؛ وإذا كانت كثير من المفردات 
المعيّر عنها علمياً أى تجارياً مُبهمة بالنسبة لهما فإنهما قد ذعرا لورود كميات 
من المعادن والجواهر من جميع الأصنافء لكن بكميات صغيرة جداً؛ وكان من 
السهل تفسير مبلغ الديون بتعدد المواد المطلوية, والاحتياطات التي يجب 
اتخاذها لنقل يعضبهاء أى لإرسال بعض الأجهزة الثمينة؛ أو لارتفاع سعر بعض 
المنتجات التي لايمكن الحمصول عليها إلا بصعوبة أو أن ندرتها تجعلها غالية 
الثمن» وأخيراً لارتفاع كلفة بعض الأدوات الفيزيائية أى الكيميائية المصتّعة 
خصيصاً وفق تعليمات السيد كلايس. قام موثق العقودء حرصاً منه على 
مصلحة قريبه؛ بالاستعلام عن بروتز وثسيفرقيل وقد طمأنته نزاهة هذين 
التاجرين عن صحة العمليات التجارية الجارية مع السيد كلايس» عدا عن أنهما 
كانا غالباً ما يطلعانه على النتائج التي حصل عليها كيميائيى ياريس لتجنيبه 
بعض الثفقات. 

رحبت السيدة كلايس أن يكتم عن مجتمع دوي طبيعة هذه المقتنيات التي 
يمكن أن تفسب إلى الجنونء لكن بييركين أجابها بأنه قد آخر حرصاً منه على 
عدم النيل من التقدير الذي يحظى به كلايسء الالتزامات العقدية التي تتطليها 
أهمية المبالغ المقدمة من الدائنين على أساس ااثقة؛ وكشف عن فداحة الجرح, 
معلناً لقريبته بأتها إن لم تتدارك وسيلة لمذع زوجها من انفاق ثروته بمثل هذا 
الجنونء: فإن أملاك العائلة ستغدى خلال ستة أشهر مرهونة على ميالغ تقوق 
قيمتها؛ وأضاف أن ملاحظاته هذه التي سيق أن أيداها لكلايس قريبه, مع 
التحفظ الواجب اتخاذه أمام رجل في مقامه؛ لم تؤد إلى أية نتيجة؛ إذ أن بلتزار 


لاعس 


أجابه جازماً بأته يعمل لفخار وغنى عائلته؛ وهكذا فقد انضمت إلى هموم القلب 
التي تحملتها السيّدة كلايس خلال سنتين» وكان كل منها يُضاف إلى الآخر 
ويزيد ألم اللحظة الحاضرة عن الآلام التي سبقتهاء انضمت خشية مرعبة 
ومستمرة جعلت المستقبل أمامها رهيباً. إن للنساء هواجس تعتبر صحتها من 
قبيل الخوارق. لماذا يرتعشن بشكل عام, أكثر مما يؤملن عندما يتعلق الأمر 
بمصالح الحياة؟ لماذا لايؤمن إلا بأفكار المستقبل الديني الكبيرة؟ لماذا يمن 
بمهارة قصوى النكبات المالية أى أزمات مقاديرنا؟ 

ريما تجعلهن العاطفة التي توحدهن مع الرجل الذي يحيين أكثر قدرة 
على وزن القوىء وتقدير الإمكانات» ومعرفة الأنواقء والأهواءء: والرذائل؛ 
والقضائل. إن الدراسة المستمرة لهذه الأسباب التي يجدن أنفسهن أمامها دون 
انقطاع, تعطيهن بلا شك القدرة الحاسمة على توقع نتائجها في جميع الحالات 
الممكنة؛ ومايرينه في الحاضر يجعلهن يحكمن على المستقيل بمهارة تفسر 
طبيعياً بكمال جهازهن العصبي الذي يتيح لهن التقاط أدقّ تشخيصات الفكر 
والعواطفء فكل شيء يهتز متناغماً مع الصدمات المعنوية الكبرى؛ فهن يشعرن 
أى يرين. 

أحست السيدة كلايسء بالرغم من انعزالها عن زوجها منذ.سنتين, 
بضياع ثروتها. لقد قدرت الحماس الواعي والمثابرة الثابتة في بلتزار؛ فإن كان 
صحيحاً أنه يفتش عن الذهبء فيجب أن يلقم ببرودة تامة بوتقته آخر قطعة خبز 
لديه. لكن عما يفتش؟. 

كانت عاطفة الأمومة والحب الزوجي حتى الآن مختلطين في قلب تلك 
المراة. بحيث أن أولادها المحبويين منها ومن زوجها لم يقفوا أيداً حائلاً بينهما. 
لكنها فجأة أخذت تحس أحياناً بأنها أم أكثر منها زوجة؛ بينما كانت سابقاً 
زوجة أكثر منها أماً على الأغلب. بيد أنّها مهما كانت مستعدة لتضحي بثروتها 
وحتى بأولادها من أجل سعادة من اختارته: وأحبته وعبدته؛ وهي ماتزال المرأة 
الوحيدة التي له في العالم؛ لكن تأنيب الضمير الذي سببه لها ضعف حبها 


لوة-ه 


الأمومي قد رمى بها بين خيارات رهيبة؛ فهي كامرأة تتألم في قلبهاء وكام تتالم 
في أطفالهاء وكمسيحية تتالم لأجل الجميع. إنها تصمت وتحتوي هذه 
العواصف القاسية في روحها؛ فزوجها وهى الحكم الوحيد على مصير عائلته, 
هو اليد في تنظبد القدر الذي يركقيه لهاء وأنسن مستؤولاً في ذلك ]لا أمام الله. 

من جهة أخرى؛ هل يمكنها أن تلومه على استخدام ثروته بعد الترفع 
الذي أبداه خلال عشر سنوات من الزواج؟ وهل هي حكم على نواياه؟ لكن 
وجدانها المنسجم مع العاطفة والقوانين كان يقول لها: «إنْ الأهل مؤتمنون على 
الثروة وليس لهم الحق أن يستلبوا سعادة أبنائهم المادية. 

لقد فضلت, كي لاتحلّ هذه القضايا العصيّة, أن تغلق عينيهاء على عادة 
الأشخاص الذين يرفضون رؤية الهوة التي يعرفون أنهم يكادون ينحدرون إليها. 

منذ سستة أشهر لم يقدم لها زوجها المال اللازم للإنفاق على المنزل, 
فأرسلت من يبيع سرًاً في باريس حلّي الالماس الثمينة التي أهداها إليها أخوها 
يوم زواجها؛ واتبعت سياسة التقتير الشديد في إدارة المنزل» فصرفت مربية 
الأولاد» وحتى مرضيعة جان. 

كان ترف العريات» في السايق» غير سائد لدى الطبقة البورجوازية 
المتواضعة في تقاليدهاء والفخور بعواطفها في أن معاًء لذلك لم يكن في منزل 
كلايس مكان مهيا لهذا الابتكار الحديث, وقد اضطر بلتزار لإقامة اسطيله 
ومرب عرياته في منزل مقابل لمنزله, وقد شغلته اهتماماته عن الإشراف على 
هذا القسم مئ الشؤون البيتية التي تتعلق بشكل رئيس بالرجالء» اذلك حذفت 
السيدة كلايس اأنفقة الكبيرة لهذه التجهيزات والعاملين بها الذين جعلتهم عزلة 
العائلة بدون فائدة لهاء ويالرغم من صلاح هذه الأسباب فإنها لم تجرب أبداً أن 
تجد لها الذرائع؛ إذ أن الوقائع حتى الوقت الحاضرء كانت تكدّب كلماتهاء 
فالصمت من الآن فصاعداً هو الأكثر ملائمة, فتفيى أسلوب العيش لدى آل 
كلايس يصعب تبريره في بلاد كهواندة يعتير من ينفق فيها كامل دخله مجنوناً. 
لكن جوزفينء وقد قاربت ابنتها البكر مرغريت على بلوغ ربيعها السادس عشرء 


عت 


أرادت أن تقوم بترتيبات تهيء للعائلة مصاهرة لائقة وأن تظهر ابنتها في 
المجتمع بما يناسب فتاة تنتمي إلى آل موليناء وفون أوستروم ‏ تمنينك: وكازا ‏ 
ريال. انّما دراهم مبيع حلي الألماس كانت قد نقدت قبل أيام من إجراء هذه 
الترتيبات» وفي هذا اليوم, التقت السيدة كلايس عند الساعة الثالثة. وهي تراقق 
أولادها إلى صلاة العصر بالسيد يييركين الذي كان متوجهاً لرؤيتها فرافقها 
حتى كنيسة القديس بطرس وهما يتحدثان يصوت منخفض عن وضعها المالي. 

قال: «ياابنة العم, يجب دون إساءة تقدير الصداقة التي تربطني بعائلتكم 
ألا أخفي عنك الوضع الحرج الذي أنتم فيه وأن تبحثيه بجدية مع زوجك. من 
يتمكن غيرك أن يوقفه عن السقوط في الهاوية وأنتم الآن على حافتها. إن- 
مداخيل الأملاك المرهونة لاتكفي أبداً لدفع فوائد المبالغ المقترضة:؛ قد يكون 
المخرج الوحيد المتبقي لكم لانقاذكم من الوضع الحرج في المستقبلء بعد أن 
أصبحتم بدون أي دخلء في قطع أخشاب الغاية التي تملكوتها. إن ابن العم 
بلتزار مدين حالياً بمبلغ ثلاثين ألف فرنك لمتجر بروتز وشيفرقيل في باريس, 
فمن أين ستدفعونها؟ وكيف ستعيشون؟ 

وماهى مصيركم إذ! استمر كلايس في طلب المف علات» والزجاجيات» 
وأبيال قولطاء وأمثال هذه الترهات. إِنّْ جميع تروتكم: باستثناء المنزل وا لآثات 
قد تشتتت بين الغاز والفحمء لقد وصل الوضع قبل البارحة إلى رهن المنزل. هل 
تعلمين جواب كلايس عند ذلك؟ لقد بدرت منه لأول مرة منذ ثلاثة سنوات أول 
بادرة تعقل عندما هتف مستتكراً «ياللشيطان!» 

ضغطت السيدة كلايس باألم على ذرا ع بييركين؛ ورفعت عينيها إلى 
السماء وقالت: «لنحتفظ بسن هذا الوضع». 

لم تتمكن المرأة المسكينة؛ رغم إيمانهاء وقد هدتها هذه الكلمات- 
بوضوحها الصاعقء أن تتبع صلاتها المعتادة فبقيت على كرسيها بين أولادهاء 
وقد فتحت سواعيتها(!) دون أن تقلب صفحة منها. لقد راحت في تأمل شاغل 
1 ككل لتر بلجي ك0 فو لفلف نهر الدتيهوو برقيس ايقن 
«الاورلوجيون» 


سياعٌ- 


ممائل لما يستغرق فيه زوجها من أفكار؛ فالشرف الاسباني والاستقامة 
الفلمندية أخذا يرنان في أعماقها بأصوات أقوى من نغمات أرغن الكنيسة, 
ومسيبات دمار أبنائها متجلية ويجب عدم التردد بين مستقيلهم وكرامة والدهم. 
صراع مرتقب بينها ويين زوجها أرعبتها ضرورته؛ فقد كان في عينيها على قدر 
من الكبر والمهابة بحيث أنّ منظور غضبه وحده يهن مشاعرها كأنه مستمدٌ من 
العزة الالهية. عليها إذاً أن تتخلص من هذا الخضوع المستمر الذي انقادت إليه 
كزوجة بشعور قدسيء فمصاحة أولادها تلزمها على أن تعاكس أهواء الرجل 
الذي تهيم به. ألا يجب إعادته إلى القضايا الواقعية عندما يحأّق عالياً في آفاق 
العلم» ألا يجب أن يوقظ بشدة من تخيلات مستقبل زاهر ليغوص في مادية 
الحاضر في أقبح ماتظهر به في نظر الفنانين وعظماء الرجال. إن بلتزار كلايس 
في نظرها نايغة في العلم ورجل مهيا للأمجادء ولايمكن أن يكون قد نسيها إلا 
سعياً وراء آمال عريضة: ومن ثم فهى عميق الرشاد وقد سمعته يتكلم بموهبة 
رائعة في قضضايا متنوعة. بحيث يجب الاقتناع بأنه مدرك برصانة لقوله أنه يعمل 
لمجد وثروة عائلته 

إن حب هذا الرجل لزوجته وأطفاله ليس واسعاً فقط, إِنّما لا حدون له؛ 
وهذه العواطف لايمكن أن قزولء بل انها دون شك قد كبرت إِنْما متغيرة إلى 
شكل آخر؛ وهي على نيلهاء وشهامتهاء ووجلهاء ستذهب لتردد دون اتقطاع. في 
أذني هذا الرجل الكبير كلمة المال» وصوت المال وتظهر له جروح الشقاء وتسمعه 
أصوات الشؤم. بيئما هو متصرف لسماع نفغمات الشهرة الشجية. 

أتكون المحبة التي يكنّها بلتزار لها قد نقصت؟ لى لم يكن لديها أولاد 
لتقبلت بشجاعة وسعادة المصير الجديد الذي أوصلها زوجها إليه؛ فالنساء 
اللوا”س تربين في الرخاء يشعرن يسرعة بالفراغ الذي تملؤه المياهج الماديّة 
وعندما يهتدبي فيهن القلبء الأكثر تعباً منه ذبولاًء إلى سعادة يمنحها عوض 
ثابت في العواطف الحقيقية فإنهن لايتراجعن أبداً أمام ظروف عيش هزيل إذا 
كانت تداق الشخصن الذى ميقن أنه يكن لوخ لحب فالكارهن ومسرانين 


لبخ ة- 


يرضخن أنزوات تلك الحياة الخارجة عن حياتهن؛ فالمستقبل المرعب بالنسبة لهن 
هى خسارة تلك الحياة. في هذه الفترة إذاً» فإن أولاد بييتا يبعدونها عن حياتها 
الحقيقية كما يبعد العلم بلتزار كلايس عنها؛ وهكذا عندما عادت من صلاة 
العصرء وارتمت على أريكتهاء صرفت أولادها عنها طالبة منهم المحافظة على 
الهدوء التام» ثم أرسلت تستدعي زوجها لرؤيتها؛ وبالرغم من أن لمولكينيه 
الوصيف العجوز قد ألح عليه محاولاً إخراجه من خبره» فإن بلتزار بقي فيه؛ 
ويذلك تسني للسيدة كلايس الوقت للتفكير؛ فبقيت بدورها شاردة دون أن تنتبه 
للساعة أو لمرور الزمن أو انقضاء النهار؛ ففكرة استحقاق ثلاثين آلف فرنك, 
وعدم القدرة على تسديدهاء قد أيقظت آلامها الماضية وضمتها إلى آلام الحاضر 
والمستقيل. هذه الكتلة من المصالح, والأفكار: والأحاسيس هبطت عليها وهي 
ضعيقة جداً فانخرطت في البكاء. 

عندما رأت بلتزار يدخل؛ بدت لها سحنته أكثر رهبة؛ وأكثر استغراقاً, 
وأكثر شروداً من أي وقت مضىء وعندما لم يتوجّه إليها بكلمة بقيت في البدء 
مسحورة بجمود هذه النظرة البيضاء الفارغة؛ ويجميع الأقكار المضنية التي 
تقطرها جبهته العريضة. لقد تمت الموت تمت تأثير هذا الشعور وعندما سمعت 
هذا الصوت اللامبالي يعبر عن رغبة علمية في !للحظة التي يكاد فيها قليها 
ينقطرء استردت شجاعتها وصممت أن تصارع هذه القوة المروعة التي أغوت 
لها حبيباً؛ واختطفت من أولادها أباً. وضيّعت على البيت ثروة؛ وحرمت الجميع 
من السعادة؛ غير أثها لم تستطع كبح الاضطراب المستمر الذي يهزّ كيانهاء إذ 
أنها لم تصادفء في حياتهاء مثل هذا الموقف الصارم, ألا تحتوي هذه اللحظة 
الرهيبة ضمناً على مستقبلها؟ ألا يختصر بها الماضي بكامله. 

إن الأفراد الضعفاءء أى الأشخاص الخجولينء أو أولتك الذين تزيد حيوية 
حساسياتهم من أتفه صعويات الحياة: الناس الذين تنتابهم رعشة لا إرادية 
أمام من يتحكمون بمصائرهم؛ هؤلاء جميعاً يمكنهم الآن أن يتصوروا آلاف 
الأفكار التي تدور في رأس تلك المرأة, والعواطف التي رزح قلبها تحت وطأتهاء 


_.,_ البحث عنالمطلق م 6 


عتدما رأت زوجها يتوجّه بهدوء نحو باب الحديقة. إن معظم النساء يعرفن القلق 
الذي تتخيط فيه السيدة كلايس في مداولتها الباطنة, حتى اللواتي لم يخفق 
قلبهن بشدة إلا ليعلن لأزواجهن بعض اسراف في النفقات أى بعض ديون عليهن 
تلبائعات الأزياء يدركن كم يجب أن يشتد وجيب القلب عندما يكون الموضوع 
متعلقاً بالحياة ككل. إن للمرأة الجميلة جاذبية وهي تلقي بنفسها على قدمي 
زوجهاء وهي تجد في أوضاع الألم وسائل فعألة, بينما شعور السيدة كلايس 
بعيويها الجسمية يزيد من مخاوفهاء وهكذا فعندما رأت بلتزار مزمعاً على 
الخروج كان رد فعلها الأول أن تندفع نحوهء لكن فكرة قاسية كبحت اندفاعهاء 
قعزمت على أن تقف منتصبة أمامه! إذ يجب ألا تبدى مثيرة للسخرية أمام رجل» 
لم تعد تستميله إغراءات الحبء وعليه أن يرى الأمر بشكله الصحيح: إن 
جوزفين تفضل أن تخسر كل شيء الثروة؛ والأولادء ولاينال الوهن قؤة المرأة 
فيهاء وأرادت أن تيعد كل ظرف سيء في هذه الساعة الحاسمة:؛ ونادته يصوت 
قوي: «بلتزار؟». 

التفت بلتزار بحركة آلية وسعلء ودون أن يعير امرأته التفاتة. ذهب 
يبصق في إحدى هذه العلب الصغيرة المربعة الموضوعة بين مسافة وأخرى من, 
الخشب المفطى للجدران؛ كما هى الأمر في جميع بيوت هولاندة ويلجيكة. إن 
هذا الرجلء الذي لم يعد يفكر بإنسان, لم ينس أبداً المباصق لشدة تمكّن هذا 
التقليدء أما جوزفين المسكينة فكانت غير قادرة على أن تأخذ بالاعتبار هذه 
التوافة, والاهتمام الزائد الذي كان يبديه زوجها بالأثاث سبب لها قلقاً لايحتمل, 
لكنه في هذه اللحظة كان من العنف بحيث خرجت عن طورهاء فصرخت في 
وجهه بلهجة مليئة بنفان الصبر تتجلى فيها كلّ عواطفها المجروحة: «استمع أيها 
السيد إنني أكلّمك!» - 

- ماذا يعني هذا؟! أجاب بلتزار وهى يلتفت بشدة ويوجه إلى امرأته نظرة 
تجدّدت فيها الحياة وبدت لها وكأنها وقوع صاعقة. 


«عذرا ياصديقي» قالت وقد شحب اونهاء وأرادت النهوض ومذت له 
يدها لكنها سقطت متهالكة وقالت بصوت متهدج تخنقه العبرات «أكاد أموت!». 
في تلك اللحظة: انتاب بلتزار» كجميع شاردي الذهن؛ رد فعل عنيف, 
وخمن إن صم التعبير سر هذه الأزمة. واحتضن سريعاً السيدة كلايس بين 
ذراعيه؛ وفتح الباب المطل على المدخل الصغير واجتان بسرعة سلّم الخكشب 
القديم بحيث علق ثوب زوجته يشدق تمثال وحش تاراسكوني من التماثيل 
المشكلّة للدرابزين فبقي منه عليه شريط طويل تمرّق محدثاً جلبة كبيرة؛ وفتح 
بركلة من قدمه باب الرواق المفضي إلى جناحيهما لكنه وجد غرفة زوجته مغلقة. 
وضع بهدوء جوزفين على مقعد طويل وهى يتساط: «يأالمهي أين المفتاح؟» 
- شكراً ياصديقيء هذه هي المرّة الأولى منذ زمن طويل: التي أشعر فيها 
انني جد قريبة من قلبك» قالت السيدة كلايس وهي تفتح عينيها. 
بحق الإله! آين المفتاح؟ هوذا خدمنا آتون: صرخ كلايس, 
أشارت له جوزفين بأن يئخذ المفتاح المعلق بشريطة مدلآة في جيبها. بعد 
أن فتح بلتزار باب الغرفة وضع امرأته على أريكة عريضة فيها وخرج ليمنع 
الخدم المذعورين من ااصعود؛ معطياً الأمر بأن يجهزوا مائدة العشاء بسرعة, 
ثم عاد متعجّلاً لقرب زوجته. 
, «مالك: ياحياتي العزيزة؟» قال وهو يجلس قريها وياخذ يدها مقبلاً. 
- لاشيء أبدا الآن. فأنا لم أعد أتالم: إنما أود لى يمنحني الاله القدرة 
على أن أضع أمام قدميك كل ذهب الأرض. 
- «ولاذا الذهب؟» سالها وهى يضمها إليه ويقبل من جديد جبينها ثم 
استأنف قائلاً: « آلا تعطيني أكبر الثروات بهذا الحب الذي تمنحينه لي أيتها 
المخلوقة العزيزة الغالية» 
- آه: يابلتزاريء لماذا لاتبعد القلق عن حياتنا جميعاًء كما تبعد الآن 
بصوتك الحزن عن قلبي. أخيراً» أنا أرى» هاقد عدث كما أنت. 


- عن أي قلق تتحدثين ياعزيزتي. 


5-50 


- لكنء لقد حمل ينا الافلاس» ياصديقي!. 

- «الإفلاس» ردد؛ وهى يضحك. ثم أخذ يد زوجته بين يديه. وقال بصوت 
عذب لم يُسمع منه منذ مدة طويلة: «لكن غداً. ياملاكيء ستكون ثروتنا على 
الأرجح بدون حدود. فالبارحة وأنا أبحث عن أسرار في غاية الأهمية. أعتقد 
أنني توصلت إلى طريقة ليلورة الكربون؛ العنصر المؤدي إلى الإلماس ...آه 
يازوجتي العزيزة! ... خلال بضعة أيام ستغفرين لي ذهولي. يبدو لي أنني أشرد 
أحياناً ألم أكن فظأً معك منذ لحظة؟ كوني متسامحة مع رجل لم ينقطع عن 
التفكير بك. وجميع اعماله مليئة يكء بنا 

كفى. كفى: سنتحدث عن كل ذلك هذا المساءء ياصديقيء لقد كنت 
أعاني من فرط الألم؛ ونا أعاني الآن من فرط السعادة». 

لم تكن تنتظر أن ترى مجدداً هذا الوجه وقد أشرق بعاطفة مليئة بالحنان 
الذي عرفته فيه سابقاًء ويسماع هذا الصوت الذي مايزال على عذويته السابقة, 
وأن تستعيد مجدداً كل الذي خيّل إليها أنّها فقدته. 

«هذا المساء. كم أرغب أن نتسامرء فإن استغرقت في بعض تأملات: 
أرجو أن تذكريني بهذا الوعد. أريد هذا المساء أن أتخلى عن حساباتي» 
وأعماليء وأغرق في مباهج العائلة» وفي شهوات القلب, إذ أنني بحاجة لها 
ياببيتاء ومتعطش لتجديدها . 

- ستقول لي عما تبحث يابلتزار؟ 

لكنك ياطفلتي المسكينة لن تفهمي شيئاً من ذلك 

- أتظن؟ ايه ياصديقي» هوذا قد مضت أريعة أشهر وأنا أدرس الكيمياء 
لأتمكن من التداول معك. لقد قرأت فوركرواء ولافوازيهء وشابتال» وتوله» ورويل» 
ويرتوله» وغى لوساك؛ وسبالاتزاني, ولوشنهوكء وغالفاني» وفولطاء أخيراً جميع 
الكتب المتعلقة بالعلوم التي تعبدها. هياء يمكتك أن تصارحني بأسرارك. 

- «أوه! إِنّك ملاك: سنتفاهم على كل شيء» هتف بلزاك وهو يسند رأسه 
إلى ركبتي زوجته ويذرف دموع الحنان التي جعلتها ترتعش انفعالاً وتقول: «آه 


همس 


إنني أرمي بنفسي في النار التي تؤجج جحيم أفرانك لأسمع هذه الكلمة ولأراك 
هذه الرؤية». 

عند سماعها وقع خطوات اينتها في الرواق انطلقت إليها بحيوية 
متسائلة: «ماذا تريدين يامرغريت؟». 

- أمي العزيزة؛ لقد وصل السيد بييركين: فإن كان سيبقى على العشاءء 
فيجب وضع غطاء على المائدة» وقد نسيت أن تعدي ذلك هذا الصباح. 

أخرجت السيدة كلايس من جيبها مجموعة مقاتيح صغيرة أعطتها 
لابتتها مشيرة إلى الخزائن المصنوعة من خشب الجوز والمصفوفة قرب جدار 
الرواق قائلة لها: «خذي عن يمين الخزانة أحد أغطية غراندروج('2 ياابنتي» ثم 
عادت السيدة كلايس إلى زوجها وقد ارتسمت على محياها بسمة تعبير ساخر 
عذبة وقالت «بما أن عزيزي بلتزار قد عاد إليّ هذا اليوم فأعطني إياه كاملاً:- 
ياصديقي اذهب إلى جناحك وتلطّف بتغيير ثيابك؛ فلدينا بييركين على العشاء 
هيا تخلّ عن هذه الثياب الممزقة؛ انظر ألا ترى هذه البقع؟ أليس ما يحيط بهذه 
الثقوب من اصفرار ناتجاً عن الحمض المورياتي!' أى عن حمض الكبريت. أراد 
بلتزار أن يمر إلى غرفته عبر الباب المشترك بينها وبين غرفة زوجته لكنه وجده 
مقفنادٌ وفاتة أنه قد أخرى هذا الأقفال نتفس ومن حلينة فتزفقة: فخرج ميق 
الرواق. 

نادت السيدة كلايس ابنتها قائلة: «مرغريت: ضعي الغطاء على هذا 
المقعد, وتعالي لتساعديني في ارتداء ثيابي؛ فأنا لا أريد أن استدعي مارتا 
الآن» كان بلتزار قد التقى بابنته. وضمها إليه بحركة فرحة وهى يقول لها: «ليكن 
يومك سعيدا ياابنتيء كم انت جميلة في هذا الثوب من الموسلين وهذا الزئار 
الوردي» ثم قبلها على جبينها وشد على يدها. 

هرعت الابنة إلى أمها قائلة: «ماماء لقد قبلني أبي؛ وهى يبدى شديد 
الغبطة, في كامل السعادة». 


)١(‏ غراندورج: أحد أتواع الأقمشة المقلّدة «للدمشقية» التي كانت تصنع في الفلاندر 
وبيكاردية على اسم صاتهعها غرائدروج. 
(؟) الاسم القديم لحمض الكلور. 


ا 


- ياابنتي» إن والدك رجل عظيم: هاقد مضت ثلاث سنوات وهى يعمل 

لمجد هذه العائلة وثروتهاء ويبدو أنه قد توصل إلى نتائج محقّقة لأهداف ابحاثه. 
فهذا اليوم بالنسبة لنا جميعاً يوم عيد سعيد. 

كان جميع الخدم مكتتبين لرؤيته في عبوس دائمء ياأمي العزيزة, 
والغبطة تشمل الجميم !لآن فهيًا ضعي إذا زناراً آخر غير هذا الحائل اللون. 

- ليكن, لكن لنسرعء فأنا أريد التحدث مع بييركين؛ فأين هو؟ 

- إنه في غرقة الجلوس يداعب جان. 

- وأين غبرييل وفليسيا؟ 

- إنني اسمع جلبتهما في الحديقة. 

- حسن؛ اسرعي بالنزول وحذريهما من قطاف الخزامىء فوالدك لم 
يشاهد إزهارها هذه السنة حتى الآن؛ وقد يرغب بمشاهدتها هذا المساء يعد 
الانتهاء من العشاء: اطلبي من مولكينيه أن يوافي والدك بكل مايحتاج إليه 
لتغيير هندامةه, : 

بعد أن خرجت مرغريتء القت السيدة كلايس نظرة على ولديها من نوافذ 
الغرفة المطلّة على الحديقةء ورأتهما مشغولين بالنظر إلى إحدى هذه الحشرات 
ذات الأجنحة الخضراء اللماعة والمبقعة التي تسمى بالعاتية «الخياطات»!(١)‏ 
«كونوا عاقلين ياأحبائي» قالت وهي ترفع الزجاج ذا الزلاقة الذي تركته مفتوحاً 
لتهوية غرفتها؛ ثم قرعت بلطف على الياب الواصل مع غرفة زوجها لتتاكد بأنه 
لم يغب في إحدى لحظات شروده: وقالت له بعد أن لاحظت أنه نصف.عار: «لن 
تتركني طويلاً لوحدي مع بييركين أليس كذلك؟ ستلحق بي بسرعة» هبطت الدرج 
بمنتهى الرشاقة؛ بحيث أن الغريب الذي يسمع خطواتها لا يتبين أنّها عرجاء. 

قال الوصيف الذي صادفها على الدرج: «لقد انشق ثوب سيدتي عندما 
حملها سيدي على الدرجء وهو طرف قماش يسهل تعويضه: لكنه كسر فك هذا 
التمثال. ولا أعرف من يمكنه إصلاحه. لقد تشوه منظر الدرج؛ فهذا الدرايزين 
كان جميلا جدا». 


)١(‏ حشرات من مغمدات الاجتحة تسمى أيضياً السرطاتيات. 


مه 


«ياه؛ يامولكينيه المسكينء دعه ولا ترتقهء فليسى للأمر أهمية» 

«ماذا حدث إذاء حتى لايعتبر الأمر كارثة؟ هل توصل معلمي إلى 
الكشف عن المطلق؟» قال مولكيتيه في نفسه. 

«طابت أوقاتك؛ ياسيد بييركين» قالت السيدة كلايس وهي تفتح باب 
غرفة الجلوس. 

هرع موثق العقود عارضاً ذراعه لتتأبطه قريبته, لكنها لم تكن تقوم بهذه 
البادرة إلا مع زوجهاء اذلك شكرت قريبها بابتسامة وقالت له: هل أتيت من أجل 
الثلاثين ألف فرنك؟», 

- نعم ياسيدتيء فقد وجدت عند وصولي إلى متزلي رسالة اخطار من 
متجر بروتز وشيفرقيل تفيدني بحسم ستة سندات على السيد كلايس كل منها 
بقيمة خمسة آلاف فرنك» 

«حسنء لا تتحدث بهذا الموضوع اليوم إلى بلتزار» وتعش معناء وإن 
سالك عن سيب حضورك صدفة:؛ فجد تعليلاً مناسباً؛ أرجوكء أعطني هذه 
الرسالةء فسأنبئه بأمرها أنا بنفسي. كل شيء على مايرام»؛ وخلال بضعة أشهر 
سيسدد زوجي على الارجحء جميع ما اقترضه». قالت هذا وهي تلحظ دهشة 
الموثق, 

كان الموثق: وهو يستمع إلى العبارة الأخيرة المقولة يصوت منخفض» 
مشغولاً بالنظر إلى الآنسة كلايس العائدة من الحديقة وقد تبعها غبرييل 
وفليسيا وقال: «لم يسبق لي أن رأيت الآنسة مرغريت بمثل جمالها في هذه 
اللحظة». 

كانت السيدة كلايس قد جلست على مقعد عريض ووضعت صغيرها 
جان على ركبتيهاء فرفعت رأسها لترمق ابنتها والموثق بنظرة لامبالية. 

كان بييركين متوسط القامة معتدل الجسم؛ على وجهه مسحة ملاحة 
عادية تعبر عن كدر أكشر مما تعبر عن كابة» وعن أحلام يقظة غير محددة أكثر 
منها متاملة؛ إنه يبدى انساناً غير اجتماعيء لكنه نفعي مفرط في النفعية؛ وأكول 


لهمقهم- 


شره بحيث لايستطيع قطيعة المجتمع. نظرته التائهة في فراغء: ومظهره 
اللامبالي» وصمته المتصنّع قد تضفي عليه عمقاً ظاهرياً لكنها تحجب في 
الحقيقة خواءً وعدم كفاءة لموثق يهتم حصراً بمصالح-الناسء لكنه مايزال شاباً 
ليطاله الحسدء وكان يمكن لولائه إلى آل كلايس أن يدفعه إلى تفان لاحدود له 
لولا طبيعة الخجل الكامنة فيه يتظاهر بالشهامة لكنه ينظر بعين المصلحة, 
وهكذا دون أن يبرى لنفسه تغيير طرائقه. كانت اهتماماته جازمة وقاسية, وفظة, 
كما هي بصورة عامة اهتمامات رجال الأعمالء عندما بدا له أن كلايس على 
شقا الإفلاس؛ ثم غدت ودوداً؛ ودمثة, وشيه ذليلة» عندما توقّع نتائج سارة 
لأعمال قريبه. كان يرى أحياناً في مرغريت كلايس طقلة من غير الممكن أن يحلم 
بها موثق عقود إقليمي بسيط؛ وأحياناً يعتبرها فتاة مسكينة شد مايسعدها أن 
يتنازل ويجعل منها زوجة له. إنه رجل إقليم» وفلمندي بدون خبثء بل إِنّه لايخلى 
من الوفاء والطيبة لكن فيه أنانية ساذجة تجعل ميزاته ناقصة:؛ وتوافه تفسد 
شخصيته في هذه اللحظة تذكرت السيدة كلايس اللهجة الآمرة التي كلّمها بها 
الموئّق تحت رواق كنيسة سان بيير» ولاحظت التغير الذي أحدثه جوابها على 
أسلوبه وخمنت ما يدور في خاطره؛ وبنظرة ثاقبة جريت أن تستشف ما في خلد 
ابنتهاء وما إن كانت تقكر بهذا القريبء لكنها لم تلاحظ لديها إلا لامبالاة كاملة, 
ويعد فترة من الوقت دار فيها الحديث حول مايسري في المدينة من شائعات, 
نزل صاحب الدار من غرفته التي كانت امرأته تستمع منها بسرور لاتدري كنهه 
طقطقة جزمته على الأرضية الخشبية. كانت مشيته الممائة لمشية رجل شاب 
خفيف الحركة تنبيء عن تحول كامل» وكان انتظار ظهوره يثير لدى السيدة 
كلايس اضطراياً لم تستطع خلاله أن تتحكم برعشة انتابتها عندما نزل الدرج: 
وظهر بدلتزار عند ذاك وقد ارتدى بزّة حديثة الطران» وانتعل جزمة ذات ثنية 
ملمعة جيدة وةد يرز من أعلاها طرفا جوريين من حرير أبيضء أما سرواله 
فكان من كزيمير أزرق ناعم وقد زيّن بأزرار ذهبية» والصدار أبيض ذو أزهان, 
والسترة زرقاء, وقد كور لحيته. ومشط شعره؛ وعطّر رأسه؛ وقص أظافره, 


مكعم 


وغسل يديه بعناية بحيث ظهر متغيراً كلياً لمن رآه سابقاًء فبدلاً من ذلك العجون 
شبه المختلٌ رأى فيه الآن زوجته وأولاده وموثق العقود رجلا في الأربعين من 
العمر؛ ذثى وجه بشوشء طريء ملؤه الإغراء؛ حتى أن التعب ومظاهر الشقاء 
التي يفكبحها همف قسيماتة والتضاق العد طى العظم بدت لاتقل من 
جاذبية. 

قال بلتزار كلايس وهو يدخل: «طاب يومك يابييركين»؛ وعاد الكيميائي 
إلى طبيعته أبأ وزوجاً فتناول طفله الأخير من حضن أمه ورفعه في الهواء ثم 
أنزله سريعاًء ثم رفعه ثاتية وهكذا دواليك؛ وقال لموثق العقود: 

« أترى هذا الصغير؟ آلا يثير منظر هذه الحلقة الجميلة الرغبة لديك 
بالزواج؟ ثق ياعزيزيء أن مسرات المائلة تعزي عن كل شيء». ثم عاد إلى 
مداعبة ولده وهى يقول: «برر ...يوند ...ليضحكه. 

كان الود وهى تارة مرفوع إلى السقفء وأخرى موضوع على الأرضية 
الخشبية يقهقه بضحكاته الموسيقية, وحولت الأم ناظريها لتخفي الانفعال الذي 
خالجها من هذه المداعبة التي تبدى بسيطة في ظاهرهاء لكنها بالنسبة إليها 
تتضمن تحولاً عائلياً كليّاً. 

«هيا لثرى كيف تركض» قال بلتزار وهى يضع ابئه على الأرض ويذهب 
ليجلس على أريكة» وهرع الولد إلى أبيه وقد جذبه لمعان الآزرار الذهبية التي 
تعلّق السروال فوق حلقة الجزمة : «كم أنت فاتنء انك حقاً من عائلة كلايس في 
انتصاب مشيتك» قال الأب لصغيره وهى يقبله, ثم التفت إلى ولده البكرء وأمسك 
شحمة أذنه وشذها مداعباً وهى يقول: «وأنت ياغبرييل: ماهي أخبار الأب 
موريون؟ هل تدافع بجرأة عن مواضيع الانشاء والترجمة لديه؟ هل تستوعب 
بيقظة الرياضيات؟». 

ثم نهض بلتزار» وتوجه نحو بييركين وقال له بهذه الكياسة المحببة التي 
تميزه: «ياعزيزيءقد يكون لديك بعض ماتطلبه مني؟» وأمسك بذراعه وقاده إلى 
الحديقةٌ وهى يقول: «تعال لتشاهد خزامى حديقتي؟». ْ 


لام 


كانت السيدة كلايس تتأمل زوجها وهو يخرجء ولم تستطع أن تخفي 
فرحتها'وهي تراه مجدداً ملؤه الحيوية والبشاشة؛ وماعرفت فيه من طيع حسن, 
فنهضت وضمت ابتتها إليها وقبلتها وهي تقول لها: «ياعزيزتي مرغريت, ياابنتي 
العزيزة إنني في هذا اليوم أكثر حباً لك من المعتاد. 

«لم أر أبي منذ وقت طويل بمثل هذا اللطف» أجابت الابنة. 

أطل لمولكيثيه معلناً أن مائدة العشاء جاهزة, فتأبطت السيدة كلايس 
ذراع زوجها سريعاً لتتجنب محاولة بييركين في أن يتقدم ليحظى يهذه المجاملة, 
وانتقلت العائلة بكاملها إلى غرفة الطعام. 

كانت هذه الغفرقة ات سقف مؤلف من عوارض ظاهرة: لكنها مزينة 
بالألوان التي تفسل وتجدد كل سنة» وهي مجهزة بخزائن أطباق عالية من 
خشب السنديان ترى على رفوفها قطع آنية المائدة الموروثة المدهشة. أما 
الجدران فهي مكسوة بجلد بنقسجي طبعت عليه بخطوط من ذهب مناظر صيد؛ 
وقد صقت فوق هذه الخزائن بعناية والتمعت هنا وهناك ريشات طيور غريبة 
وقواقع نادرة. لم تكن الكراسي قد غيّرت منذ بدء القرن السادس عشرء وتبدى 
. بهذا الشكل المريع» وأعمدتها المبرومة؛ ومسندها الصغير المزين بقماش ذي 
أهداب من الطراز الذي ساد انتشاره بحيث أن رفاييل قد صوره في لوحته 
العذراء على الكرسي اقد غدا خشبها أسودء لكن المسامير المذهبة؛ كانت 
تلتمع وكأتها جديدة وأغطيتها القماشية التي جددت بعناية تبدى بلون أحمر 
مدهش. كانت الفلاندر تنبعث هنا بكليتها مع ابتكاراتها الاسبانية؛ والدوارق 
والقوارير» على المائدة» يمظهر يثير الاحترام تكسيها إياه بطونها المستديرة ذات 
الحنية القديمة؛ والأقداح من الزجاج العتيق يأعناقها العالية التي تشاهد في 
جميع لوحات المدرسة الهولاندية أى الفلمندية. أما القيشاني فهي من صلصال 
رملي وقد زخرفت بأشكال ملونة على طريقة برنار دى ياليسي(') وهى من انتاج 
معمل ودجوود() الانكليزي. بينما أدوات المائدة من الفضة الكتليه ذات الزوايا 
المربعة المليئة بالنقوش, فضيات عائلية حقيقية» جميع القطع فيها متنوعة الحفر, 
)١(‏ برنار دي باليسي :)1١630 -191١(‏ خرّاف فرنسي مشهور, وعالم طبيعي وكاتب. 
(5) ودجوود (ك) )١460  ١1١(‏ صاحب معامل قيشاني تميزت بالألوان الرصينة, 


سباره- 


والطراز والشكلء. وهي شواهد على بدايات رفاهية آل كلايس وتطور ثروتهم 
والفُوْط مهدّبة على الطراز الاسباني؛ وغطاء المائدة مما يعرف الجميع أن آل 
كلايس يملكون روائع منه. هذا الطقم من أدوات المائدة والفضيات مخصّصة 
للاستخدام اليومي في العائلة وللبيت الأمامي حيث تقام احتفالات الأعياد 
أدوات ترفه الخاصة: فروائعه محفوظة لأيام المناسبات الرسميّة التي قد تققد 
وونقها إن ابتذلت أشياؤها بالاستعمال العادي؛ أما في البيت الخلفي فيسود 
طابع الأبوة الساذج. أخيرا تفصيل شيّق يستحق أن يذكر هو أن كرمة معرشة 
تمتد على طول التوافذ وتنشر طرودها إلى كل الجواتب. 

«إنك أمينة على التقاليد ياسيدتي» قال بييركين وقد قدّم له صحن من 
الحساء المعطر بالصعتر الذي تضع فيه ريات البيوت الفلمنديات أو الهولانديات 
كرات صغيرة من اللحم المفروم المكور مع قطع صغيرة من الخبز المحمّص. 

وتابع يييركين: «هوذا حساء يوم الأحد الذي كان يتناوله آباؤنا! إن 
منزلكم ومنزل عمي دي راكة هما المحافظان على هذا الحساء التاريخي في 
البلاد الواطئة. آه! أرجى المغففرة: لقد قدمه الشيخ ساقارون دي ساقاروس يزهو 
في منزله في تورنيء لكنه غاب الآن عن موائد الفلاندر كفياب مميزاتها القديمة, 
فالأثاث الآن يصنع على الطريقة الكلاسيكية الجديدة ولا نلاحظ الخوذ 
والمجنّات والحراب وحزم السهام في كل مكان؛ كل يعيد بناء منزله, ويبيع أثاثه 
القديم, ويعيد صهر فضياته أى يستبدل بها قيشاني سيقر الذي لايعادل 
الساكس القديم ولا الصيني أه إنني فلمندي حتى أعماق الروح. وهكذا فقلبي 
ينقطر عندما أشاهد النحكاسين يشترون بسعر الخشب أ المعدن أثاثنا ااقديم 
الجميل؛ المطعم بالنحاس أو القصدير. لكن الحالة الاجتماعية تريد أن تغين 
وضعها عى ما أعتقدء بما في ذلك طرائق الفن التي تتلاشى؛ إذ عندماً يغلب 
الاستعجال مامن شيء يتم بدقّة. خلال رحلتي الأخيرة إلى باريس» ذهبت 
لمشاهدة لوحات الرسم المعروضة حديقاً في اللوقر. أقسم بشرفي»: أنها أقرب 


هوم 


إلى الستائر هذه اللوحات بدون شكلء ولاعمقء ويضِنٌ عليها الرسّامون 
بالألوان(')ء ويريدون» على مايقال أن يغيروا "مدرستنا القديمة آهء شثّان! 

قال بلتزار: «إِنْ رسيامينا القدامى يدرسون مختلف الاتحادات ومقاومة 
الألوان بتعريضها للشمس والمطرء لكنك على حقء فالاهتمامات الماديّة بلوازم 
الفن مهملة أكشر من أي وقت مضى. 

لم تكن السيدة كلايس تهتم بهذه المحادثة؛ لكن سماعها مانقله موثق 
العقود عن أن أدوات المائدة من القيشافي سائدة الطراز أوحى إليها بفكرة 
التمعت سريعاً في ذهنها تتجلّى في بيع الفضيات التي ورثتها من تركة أخيها 
بحيث يمكنها بثمنها تسديد الثلاثين آلف فرنك المتوجبة على زوجها . 

قال بلتزار للموثق عتدما اهتمت السيدة كلايس بالمحادثة: «آه؛ آه! هل 
يبدى الاهتمام بأعمالي في دوي؟». 

- نعم أجاب بيركين: كل واحد يتساعل عن سيب إنفاقك الكثير من المال» 
وقد سمعت البارحة الرئيس الأول في المحكمة يُسف لأن رجلاً من مقامك 
يسعئ للكشف عن حجر الفلاسقة؛ وقد سمحت لنفسي بأن اجيب بأن ثقافتك 
تؤهلك للتمييز بين الممكن والمستحيلء؛ وأن تقواك تمنعك من الاعتقاد بالقدرة على 
مناقسة الله. كما أنَّك مدير واع ككل آل كلايس بحيث لن تستبدل بدراهمك 
مسحوق الدجالين السحري. غير أنني اعترف لك أنني أشارك من يأُسف على 
انعزالك عن المجتمع؛ والحقيقة ياسيدتي لوتستمعين إلى المديح الذي يلهج به 
الجميع ثناء عليك وعلى السيد كلايس لملأك الزهى. 

لقد تصرفت كقريب طيب بنقضك هذه الإتهامات التي أقل أضرارها أن 
تظهرني مثيراً للسخرية. آه إن اهل دوي يظنوني مفلساً. حسنء يا عزيزي 
بييركين» خلال شهرين سأقيم بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية لزواجي حفلة 
تعيد إلي أبهتها التقدير الذي يحيط به مواطنونا الأعزاء الدراهم. شاب 
الاحمرار بشدة وجه السيدة كلايس. فهذه الذكرى السنوية قد نسيت منذ 


)١(‏ قد يكون المقصود بذلك داقيدى )١14855  ١754(‏ ومدرسة الكلاسيكة الجديدة. 


سا ا 


سنتين. لقد كان مشابهاً لهؤلاء المجانين الذين تمر بهم لحظات تلتمع يها 
قدراتهم ببريق غيى معتاد, إن لم يسبق ليلتزار أبداً أن كان بمثل هذه الرهافة 
في حنوه؛ لقد بدا وكلّه انتباه لأولاده. وكانت محادثته ساحرة بجاذبيتهاء 
ولطفهاء وصوابها. هذه العودة إلى الأبوة» التي غابت مدة طويلة» كانت بالتأكيد 
أجمل عيد يمكن أن يمنحه لامرأته التي استعادت كلماته ونظراته لديها المشاركة 
الوجدانية الثابتة في تعبيرها من قلب إلى قلب, والتي تبرهن عن وحدة عذبة في 
العواطف. 

بدا لمولكينيه العجوز وقد تجدد شبابه؛ فهى يروح ويجيء بخفة غريبة 
ناتجة عن بلوغ أمانيه الكامنة مرامهاء فالتغيّر الذي طرأ فجأة على تصرفات 
معلمه كان على أهميته بالنسبة للسيدة كلايس أكثر أهمية بالنسبة له؛ فحيثما 
ترى العائلة السعادةء يرى الوصيف الثروة؛ وهى بمساعدته لبلتزار في تجاريه 
امتدت إليه عدوى الجنون» سواء لأنه أدرك مدى أهمية هذه الأيحاث خلال 
الشروح التي كانت تتفت من الكيميائي عندما يرى الهدف يتياعد عن مرامي 
يديه» أى لأن الميل الفطريي للتقليد لدى الإنسان يجعله يتبنى أفكار من يعيش في 
جرّه. كان لمولكينيه يكن لمعلمه عاطفة شديدة التعلّق تختلط فيها الرهبة 
بالاعجاب بالأتانية, وقد كان المخبر بالنسبة إليه كما مكتب الياناصيب بالنسية 
لعامة الشعب, أملاً متجسنداً» فهى في كل مساء يتراعى له قبل نومه «أن الغد قد 
يكون طافحاً بالذهب!» ويستيقظ في اليوم التالي وقد ازداد إيماتاً عن امسه؛ 
وإِنّ اسمه يشير إلى أصل فلمندي تماماً» فأبناء الشعب في الماضي لم يكونوا 
يعرفون إلا من مزاياهم الأخلاقية, ويغدى هذا اللقب اسم العائلة البورجوازية 
التي يؤسسونها عند انعتاقهم. في الفلاندر كان باعة خيوط الكتان يسمون 
«المولكينيه» وقد كانت هذه هي مهنة الرجل الذي انتقل وضع من اأقن إلى وضع 
البورجوازي من بين أجداد الوصيف العجون دون شكء إلى أن أعادثت صروف 
الدهر الغامضة حقيد مولكينيه إلى حالته الأولية كقنٌ مأجورء فتاريخ الفلاندر, 
وخيوطه؛ وتجارته تختصر إذاً في هذا الخادم العجوز الذي كان ينادي غالبا 


اك 


للترخيم «مولكينيه»؛ وقد كان في طبعه وفي سحنته لايخلى من تفرد: فوجهه 
بشكله المثلث عريض ومرتفع وقد أعطته ندوب الجدري مظاهر غريبة تاركة فيه 
العديد من السرار البيضاء اليراقة. كان تحيفاً, ذا قامة منتصبة, مشيته رصينة 
غامضة. عيكاة صفيرتان برتقاليتان كالشعر الأصفر الناعم المستعار الذي 
يغطي رأسه؛ نظراته المنحرفة دوماً في تناسق مع إحساس الفضول الذي يثيره؛ 
فهى بصفته كمحضير مُطلع على أسرار معلمه؛ يحيط أعماله بكتمان يضفي عليه 
جاذبية. وسكان شارع باريس ينظرون إليه باهتمام تخالطه الخشية: لأن أجوبته 
غامضة دائماً» ومليئة دائماً بالكنوزء فهى المعتن بضرورته لمعلمه, يمارس على 
رفاقه نوعاً من سلطة منكّدة يستغل فيها هذه التنازلات التي تجعله نصف سيد 
في المنزل؛ ويعكس الخدم الفلمنديين الشديدي.التعلق ببيوت أسيادهم, لايكن أي 
ود إلا لبلتزارء فإن ألم كرب بالسيدة كلايس» أى طراً حدث يناسب مصلحة 
العائلة, كان الأمر سيان عندهء يكل خبزه المدسم بالزبدة» ويشرب جعته يبروده 
المعتاد. 

بعد انتهاء العشاء اقترحت السيدة كلايس تناول القهوة في الحديقة, 
أمام دغل الخزامى التي تزين وسطهاء فأصض الفخار التي تتوزع فيها هذه 
الأزهار التي كتبت اسماؤها على ألواح من الأردواز المنقوشء قد رصفت ودفنت 
بالتراب بحيث شكلت:قرماً تعلوه زهرة خزامى من نوع فم التنين يملكها بلتزار 
وحده وقد أطلق عليها اسم توليبا كلايسيانا 365133اء 08أأنا] نسبة للعائلة, 
وهي تضم الألوان السبعة: وتبدى تقويراتها الطويلة مذهبة على الحوافء وقد 
حرص والد بلتزار الذي رفض عشرة آلاف فلورين لقاهاء أن يخذ كامل 
الاحتياطات كي لاتسرق بذرة.من بذورهاء وكان يحفظها في غرفة جلوسه:, 
ويقضي أياماً كاملة في تأملها. كان ساق هذه الزهرة ضخماً» جيد الاستقامة, 
متيناًءذا خضرة رائعة. وكانت أقسام النبتة تتناسب بتوافق تام مع تويج هذه 
الزهرة الذي يتميز بصفاء براق في الألوان مما جعل منذ القدم ثمن هذه 
الأزهار المترفة مرتفعاً. «هوذا أزهار خزامى بقيمة ثلاثين أو أريعين ألف فرتك»! 


1 


قال موثق العقود وهو ينقل بصره بين قريبته, والدغل ذي الألف لون. كانت 
السيدة كلايس كثيرة الانشراح لمنظر هذه الأزهار التي تنسكب عليها أشعة 
الشمس فتجعلها أشبه بالجواهرء فلم تلق بالا إلى ما تضمئّته ملاحظة الموثق 
من لطلميح. 

تابع الموئّق كلامه متوجهاً إلى بلتزار بالقول: «مافائدة هذا؟, يجب أن 
تييعها» 

دياه!ء وهل أتا يحاجة إلى دراهم؟» قال كلايس» وقد يدرت منه حركة 
من لايلقي بالاً إلى مبلغ أربعين ألف فرنكا». 

مرت فترة صمت لم تكن تقطعها إلا تعابير دهشة الأولاد: 

- «انظريء ياماماء هذه الزهرة!» 

- أوهء هوذا واحدة هي الأجمل! 

ما اسم هذه الزهرة؟ 

قال بلتزار وهى يرفع يديه بعصبية ثم يضمها بحركة قنوط: «أيّة ورطة 
يصعب على العقل البشري الوصول إلى نتيجة فيها: اتحاد بين الهيدروجين 
والاوكسجينء تتفتق عنه وفق معايرات مختلفة في الوسط نفسههء والمبدأ نفسه, 
هذه الألوان التي يشكل كل منها نتيجة مختلقة»(١),‏ 

استمعت السيدة كلايس جيّداً إلى طرفي هذه القضية التي طرحها 
بلتزار بسرعة بحيث بدا من الصعب أن تلم بها كلية بالرغم من اقتناعه أنها 
تدرس علمه المفضلء ثم توجه إليها بإشارة غامضة: «ستدركين أن من الصعب 
جداً استيعاب ما أعتيه!» ويدا أنه قد غاب في احدى هذه التأملات التي غدت 
لديه مالوفة. 

قال بييركين وهى يتناول فنجان القهوة من يدي مرغريت: «أعتقد هذا» 
والتفت إلى السيدة كلايس هامساً: «تطردين الأمر الطبيعي فيرتد بخطا سريعة, 


)١(‏ هذه الملاحظات حول النباتات تعود إلى عالم النبات السويسري بيرام دي كندول الذي 
بدا تأثير ملاحظاته العلمية في مؤلفات بلزاك في هذه الرواية وفي «سرافيتا». 


ل 


أرجو أن تتكرّمي بمحادثته عن موضوع الدين بنفسك. إِنْ الشيطان غير قادر 
الآن أن ينتزعه من تأملاته التي قد يستمّر فيها ,حتى الغد». ثم نهض مودعاً 
كلايس الذي تظاهر بأنه لم يسمعه؛ وقبل جان الصغير الذي كان في حضن أمه 
وانسحب بعد انحناءة احترام عميقة. 

التفت بلتزار إلى امرأته بعد أن أغلق الباب وأحاط خصرها بذراعه؛» ويدد 
القلق الذي اعتراها من شروده المصطنع وهو يقول لها: «لقد عرفت جيداً كيف 
جعلته ينصرف». 

أدارت السيدة كلايس رأسها نحو زوجها دون أن تخجل من أن تظهر له 
الدموع التي ترقرقت في عينيها, فقد كانت دموع الفرح العذبة! ثم أسندت 
جبينها إلى كتفه وتركت جان ينزاق من حضنها إلى الأرض. 

«لندخل إلى غرفة الجلوس»: قالت بعد فترة. 

كان بلتزار خلال السهرة بكاملها في غبطة عارمة: فقد ابتكر ألف لعبة 
لأولاده؛ وانخرط في بعض هذه الألعاب ينفسه بحيث لم يلاحظ مغادرة امرأته 
لمرتين أى ثلاثة. في نحى الساعة التاسعة والنصفء بعد أن نام جان» ويعد أن 
ساعدت مرغريت أختها فليسيا على خلع ملابسهاء وعادت لتجد أمها جالسة 
على الأريكة الكبيرة: ووالدها إلى جانبها يتحدث إليها وهى يمسك بيدها؛ 
وخشيت أن تعكر على والديها خلوتهما؛ وأرادت أن تعود دون أن تكلمهماء لكن 
السيدة كلايس لاحظت ذلك ونادت ابنتها «تعالي يامرغريت تعالي ياابنتي 
العزيزة» ثم جذبتها نحوها وقبلت بحنان جبينها وقالت لها: «خذي كتابك إلى 
غرفتك ونامي باكراً» وقال بلتزار «أسعدت مسساء ياابنتي العزيزة»؛ وتقدمت 
برغريت فقبلت أياها ثم انسحبت, 

بقي كلايس وزوجته لفترة من الوقت وحدهما يرقبان الألوان الأخيرة 
للشفق التي تتلاشى بين تفرعات أغصان وأوراق الحديقة التي حأت بها الحتمة 
فلم تعد تلحظ تقاطيعهاء وما أن ساد الليل حتى قال بلتزار لزوجته بصوت غلب 
عليه التأثر «فلتصعد». 


ا 


قبل أن تجعل التقاليد الانكليزية غرفة المرأة مكاناً مقدّساً؛ كانت غرفة 
الفنلندية مكاناً عصياًء فربّات المنازل في تلك البلاد لايحطن الفضيلة بالأبهة, 
وإنما هي عادة متأصلة منذ الطفولة؛ تعلق بيتي يجعل من غرفة النوم حرماً بها 
تسود فيه العواطف الرقيقة, وتتحد البساطة بكل ما في الحياة الاجتماعية من 
رقّة وقدسية. 

في الوضع الخاص الذي كانت السيدة كلايس موجودة فيه؛ فإِن أية 
امرأة تريد مثلها أن تجمع حولها الأشياء الأكثر أناقة» وقد فعلت هي ذلك إِثْما 
بذنوق مرهف يقدر تأثير المظهر الذي يحيط بنا على العواطف. إن هذا يعد ترفاً 
لدى المخلوقة الجميلة, لكنه لدى السيدة كلايس ضرورة, فهي قد أدركت مدلول 
هذه الكلمات «إن المرأة تخلق جمالفا!» وهي حكمة وجهت جميع تصرفات 
الزوجة الأولى انابوليون وجعلتها غالباً متصنعة بينما بقيت السيدة كلايس دائمأ 
طبيعية وحقيقية. 

بالرغم من أن بلتزار كان قد عرف جيّداً غرفة زوجته, فإن تسيانه 
للؤشياء الماديّة في الحياة وصل إلى درجة جعلته يحس برعدة محبية وكأته يرى 
هذه الغرفة للمرّة الأولى؛ فالبهجة المزهوة لامرأة ظافرة انسكبت في ألوان 
الخزامى الرائعة التي تسامت بأعناقها الطويلة من مزهريات البورسلين الصيني 
الضخمة الموزعة بمهارة؛ وفي انتثار الأضواء التي لايمكن مقارنة تأثيراتها إلا 
بتلك التي تحدثها الجوقات الموسيقية الطروب. كان ضوء الشموع يعطي بريقاً 
متناسقاً لأقمشة الحرير المطعمة بالكتان التي تجلت رتابتها بانعكاسات الذهب 
المورّع باعتدال على بعض الأثاث وياختلافات ألوان الأزهار التي تشبه 
مجموعات الجواهرء إنه هو سر هذه التجهيزات: دائماً هو ...! 

لايمكن لجوزفين أن تعير لبلتزار ببيان أوضح بأنه هى دائماً سبب 
أفراحها وأتراحهاء ومظهر هذه الغرفة يبهج الروح ويطرد كل فكرة كثيبة بحيث 
لاتبقى إلا عاطفة مفعمة بالسعادة الثابتة النقية. كان قماش الطنافس المشترى 
من ألصين ينشر حلاوة عذبة تتغلغل في الجسد دون أن تتعبه؛ أخيراً فالستائر 


هب البحث عنالمطلق مه 


الممسحوية بعناية تعبّر عن رغبة في العزلة, ورغبة خاصة في المحافظة على أدق 
الأصوات في الكلام: وأن تحبس هذا أنظار الزوج المستعاد. 

كانت السيدة كلايس قد سرحت شعرها الجميل الأسود الناعم وأرسلته 
على جانبي جبيتها كجناحي غراب وقد تدثرت بمئزر يرتقع حتى العنق حيث 
يزينه وشاح طويل تتثنى فيه المغرمات؛ وقد ألقت على زوجها بعد أن أنزلت 
السجف العازل للباب» وهى يجلس قرب المدخنة إحدى هذه النظرات المفعمة 
بابتسامة مرحة التي تعرف المرأة المرهفة العقل؛ وقد اضفت روحها مزيداً من 
الجمال على وجههاء كيف تعبر فيها عن آمالها التي لاتقاوم. إِنْ أكبر جاذبية 
للمرأة تتجلّى في اعتمادها المستمر على شهامة الرجل في تصريح رقيق 
بالضعف تمجده فيه» وتوقظ لديه أروع العواطف. ألا يتلاعم التصريح بالضعف 
مع الإغراءات الساحرة؟ 

عندما انزلقت حلقات السجف خفية على قضيبها الخشبيء التفتت إلى 
زوجهاء واسندت يدها على كرسيء كأنها أرادت في تلك اللحظة أن تخفي 
عيويها الجسدية؛ فيدت حركتها اللطيفة دعوة خفيّة إلى عونهاء دفعت بلتزار 
الغارق في تأمل ذلك الرأس الزيتوني اللون البارز أمام خلفية رمادية تجذب 
النظر وتسرهء إلى أن ينهض ليحتضن امرأته ويحملها إلى الأريكة؛ وكان هذا 

قالت له وهي تأخذ يده وتحتفظ بها بين يديها المكهريتين: «لقد وعدتني 
أن تطلعني على سر أبحاثكء فلنتفق» ياعزيزي على أنني أهل لمعرفته, إذ أنني 
امتلكت الشجاعة لدراسة هذا العلم الذي أدانته الكنيسة لأتمكن من فهمك» 
لكنني فضولية» فلا تُخف عني شيئاً» لذلك حدثني أيّة صدفة دفعتك لتنهض ذات 
صباح وملؤك انشغال البال؛ بينما تركتك في العشية مفعماً بالسعادة؛ 

- الأجل أن تستمعي إلى حديث في الكيمياء خلقت هذا الج من الفتنة 
الساحرة؟ 


- وامويقي: نأكف اسعوافا تمدق اكقن عريا إلى لبك هن لكين 


3 


المسرات بالنسبة ليء أليس تفاهم الروح هى الذي يشمل ويوأد كل مباهج 
الحياة؟ لقد عاد حبك لي نقياً وكاملاً» وأريد أن أعرف أيّة فكرة سيطرت عليك 
فحرمتني منك طويلاً. نعم إنني أغار من فكرة أكثر من غيرتي من جميع النساء 
مجتمعات؛ فالحب واسع لكنه ليس يلانهاية: بيثما للعالم أعماق لاحدود لهاء لا 
أستطيع أن أراك فيها غائصاً لوحدكء إنني أكره كل ما يمكن أن يفصل بينثا . 
فإن حصلت على المجد الذي تسعى إليه: فسأكون تعيسة يالرغم من الغبطة 
العارمة التي سترفل يهاء فأنا وحدي ياسيدي من يجب أن يكون ينبوع 
سعادتك, 

- كلاء ياملاكيء لم تكن فكرة تلك التي وجهتني الوجهة الجميلة: إِنّْما هو 
رجل. 

- رجل» صاحت بذعر. . 

ألا تذكرين يا ببيتا ذلك الضابط البولوني الذي آويناه لدينا قي العام 
ا 

- نعم إنني أتذكره؛ بل لقد عيل صبري من أن ذاكرتي تستعيد غالبا 
منظر عينيه الشبيهتين بلسانين من نأر» وهذين الوقبين فوق حاجبيه وكأن فيهما 
سواد فحم جهتم؛ وصلعته العريضة: وشارييه المنتصبينء ووجهه المزوى 
التعب!!.. أخيراً الهدوء المرعب في مشيته!... ولى أن مكاناً وجد في نُزّْل المدينة, 
لما رقد هنا بالتأكيد. 

هذا الرجل البولوني النبيل اسمه آدم ويرزشفونياء وعندما تركتنا 
مساءء. منفردين في غرفة الجلوس» أخذنا تتحدث صدفة عن الكيمياء, ولقد 
انتزعه البؤس من هذا العلم؛ فاضطر أن يتجنّد. أعتقد أننا بمناسبة كأس ماء 
محلىء تعارفنا على أننا من هواة هذا الهم فعندما طليت من مولكينيه أن 
يحضر بعض قطع السكرء بدرت من الضابط حركة تنم عن دهشة؛ وسأالني هل 
درست الكيمياء؟ ‏ مع لافوازييه: أجبته. ‏ كم أنت سعيد لأنك حر وغني! هتف, 
وانطلقت من صدره إحدى. هذه الزفرات التي تكشف لدى الرجال عن جحيم من 


ا 


آلام مكبوتة في قحف الرأس أى حبيسة في القلبء أى بالأحرى هي شيء من 
لهبء أى من هم مركز لا يستطيع الكلام التعبير عنه؛ وقد ختم تأمله ينظرة 
جمدتني. بعد فترة صمتء أخبرني أنه لجا إلى السويد بعد أن أصبحت بولونية 
شبه ميتة» ووجد في دراسة الكيمياء التي كان يشعر دائماً بميل لا يقاوم نحوها 
مواساة له هناك؛ ثم أضاف: «أعتقد أنك قد تعرفت مثلي على أن الصمغ 
العربي» والسكر والنشاء المسهوق تعطي جميعها مادة واحدة قطعاًء وفي 
التحليل تعطي النتيجة الكيفية ذاتها». ومرت فترة صمت أخرىء وبعد أن تأملني 
بيعين مستقصية قال لي في مسئارة ويصوت منخفضء كلمات جدية ورسمية لم 
يبق في ذاكرتي منها اليوم إلا المسى العام؛ لكنه أرفقها بعزم في الصوت, 
وينبرات حارة وقوة في الحركة هزت مني الصميم وضربت على موطن الإدراك 
كما تضرب المطرقة على حديد وضع على سيندان. 

إليك ياختصار هذه الاستدلالات التي كانت بالنسبة لي كما الجمرة التي 
وضعها الله على اسان أشعياء إذ أن دراساتي لدى لافوازييه جعلتني أشعر 
بمدى أهميتهاء لقد قال لي: إن تكافى هذه العناصر الثلاثة, المتميزة في الظاهر, 
قد قادتني ياسيديء إلى التفكير بأن جميع منتجات الطبيعة تعود إلى المبدا 
نفسه. إن مباديء الكيمياء الحديثة قد برهنت عن حقيقة هذا القانون في القسم 
الأكثر أهمية من التأثيرات الطبيعية. إن الكيمياء تقسم الخلق إلى قسمين 
متميزين: الطبيعة العضوية؛ والطبيعة اللاعضوية. 

إن الطبيعة العضوية بشمولها جميع المخلوقات النباتية أى ااحيوانية التي 
تظهر فيها تعضية أكثر أو أقل كمالاء أى يمعنى أصح. قدرة مختلفة على التحرّك 
تحدل فيها عواطف مختلفة؛ هي بالتأكيد القسم الأكثر أهمية في عالمنا؛ والواقع 
أن التحليل قد رد جميع منتجات هذه الطبيعة إلى أربعة أجسام بسيطة. ثلاثة 
منها غازيّة: الآزوت: والهيدروجين؛ والأوكسجين؛ وجسم آخر صلبء لامعدني هى 
الكريون. 

بعكس الطبيعة اللاعضوية القليلة الاختلافء المجردة من الحركة 


جار 


والإحساسء والتي يمكن ألا نقر لها إمكان النمو؛ بالرقم من أن العالع لدنةا فد 
منحها شيئاً بسيطاً من ذلك. هذه الطبيعة تحوي ثلاثة وخمسين عنصراً تشكل 
باتحاداتها المتنوعة جميع منتجاتها. أيحتمل أن تكون الوسائل أكثر عدداً حيث 
تكون التتائج الأقل؟... 

إن رأي معلمي القديم أن هذه الأجسام الثلاثة والخمسين لها أساس 
واحدء عدله سابقاً تأثير قوّة خافدة الآن لكن العبقرية الانسانية قادرة على 
إحيائها . لنتتصور أن فعالية هذه القوّة قد استيقظت للحظة: إثنا سنحصل عند 
ذلك على كسناء مويحة[): ويفسل اذاكية الطبينتان الغضوية واللففضدوية 
مستندتين إلى أريعة عناصر أساسيةء وإذا تمكنًا أن نفكك الآزوت الذي يجب 
أن نعتبره عتصراً سالباً» فلا يتبقى لدينا إلا ثلاثة عناصر. هكذا نصل إلى 
ثلاثية الأقدمين الشهيرة وإلى مقولة سيميائي العصر الوسيط الذين نسخر منهم 
خطاً. إن الكيمياء الحديثة ليست الآن إلا هذاء وهى كثير كما أنه قليل؛ إِنّه كثير 
لأن الكيمياء قد ألقت ألا تتراجع أمام أية صعوبة, » وهى قليل بالمقارنة مع ماتيقى 
ويجب فعله. لقد قدّمت الصدفة خدمة جِلَّى لهذا العلم الرائع! وهكذا فإن هذه 
الدمعة من الكربون النقي, المتبلورء وهي الألماس؛ تبدى وكأنها آخر عنصر يمكن 
خلقه. إن السيميائيين القدامى الذين اعتقدوا أن الذهب قابل التفكك وبالتالي 
قابل للصنع؛ قد تراجعوا أمام فكرة انتاج الألماسء؛ مع إننا قد اكتشفنا طبيعة 
تركيبه وقانونه. لقد ذهبت أنا إلى أبعد من ذلك! لقد قمت يتجربة برهنت لي أن 
الثلاثية الغامضة موضع الاهتمام منذ زمن عريق في القدم لا وجود لها في 
التحاليل الحاليّة التي لاتتوجه نحى نقطة ثابتة؛ وإليك التجرية!"): 
2 ال 05007 
)١1744  1749(‏ العالم الكيميائي الفرنسي المشهور؛ ويرزيليوس ١/94(‏ - 1848) العالم 
الكيميائي السويدي» وييرام دى كاتدول )1١441 - ١1//(‏ عالم النبات السريسريء ولينه 
310 0 العالم الطبيعي السويدي: وأخيراً جيرهارد( 1817‏ 1867) الكيميائي 


الفرفسي 
() هذه التجرية تعود إلى العالم يرزيليوس, 


ا 


«ابذر حيّات من الحرف (كمثال على مادة من مواد الطبيعة العضوية) 
في زهر الكبريت (كمثال أيضاً على جسم بسيط). اسق البذور بالماء المقطر كي 
لا تدخل إلى منتجات الإنتاش أي أساس غير معروف. إن البذور تنتش وتنمىو 
في وسط معروف متغذيّة من عناصر سبق معرفتها بالتحليل. اقطع على عدة 
مرات سوق هذه النباتات إلى أن تحصل على كمية كافية لإعطائك بالحرق 
مقداراً من الرماد. بتحليل هذا الرماد ستجد حمض السيليس.ء والألومين. 
وقوسفات الكلس وكريوناته. والكريونات المغنيزية؛ والكريونات البوثاسية, 
والكبريتات وأوكسيد الحديد» وكأن الحرف قد نبت في الأرض على ضفاف 
المياه؛ والحال أن هذه الأجسام لاتوجد لا في الكبريت: وهى الجسم البسيط 
الذي استخدم كثرية للنبات» ولا في الماء الذي استخدم لسقايته؛ والمعروف 
التركيب؛ ويما أنها ليست أيضاً في البذرة فلا يمكن تفسير وجودها في النبات 
إلا بافتراض عنصر مشترك للأجسام الموجودة في الحرّف وفي الأجسام 
المستخدمة كوسط له. 

هكذا فإن الهواء, والماء المقطرء وزهر الكبريت» والعذاصر التي أعطاها 
تحليل الحرف أي البوتاس والكلس والمفغنيزيا والألومين الخ ...لها أساس 

شترك منتشر في الجى كما صنعته الشمس. 

من هذه التجربة غير القابلة للاعتراض استنتجت وجود المطلق! إِنّه 
مادة مشتركة في جميع المخلوقات؛ معدلة بقوة وحيدة, هذا هى الوضع الصريح 
والواضح للمشكنة التي يطرحها المطلق والثي تبدى لي قابلة للبحثء هنا 
ستصادف الثلاثية المبهمة التي ركعت أمامها البشرية في كل الأزمان: المادة 
الأولية, والوسيلة» والنتيجة. ستجد هذا الرقم الرهيب «ثلاثة» في كل شيء 
بشريء إِنّه يهيمن على الأديان, والعلوم» والقوانين. 


هنا أوقفت الحرب والشقاء أبحاثيء إِنّْك تلميذ لاقوازييه؛ وأنت غني وبسيد 


خا 


وقتك, يمكنني إذاً أن أطلعك على نتائجي؛ هوذا التعليل الذي استشقه من 
تجاربي الشخصية: الماة الواحدة هي أساس مشترك بين الغازات الثلاثة 
والكريون وا لوسيلة هي الأساس المشترك للكهريائية السالية والكهريائية 
الموجبة. 

إن سرت إلى اكتشاف البراهين التي تثيت هاتين الحقيقتينء فستملك 
الإدراك السامي لجميع تأثيرات الطبيعة. 

أوه! ياسيديء عندما تحمل هنا وضرب بيده على جيهته ‏ كلمة الخلق 
الأخيرة: مع توفّع المطلقء هل يمكن العيش بعد ذلك إلا منساقين في حركة هذه 
الجموع من البشر المندفعين في ساعة معينة كل مجموعة وراء الأخرى: دون أن 
يعرفوا ماذا يفعلون. إن حياتي الحالية هي عكس الحلم تماماً؛ إن جسدي يروح 
ويجيء»: ويتحركء ويدخل وسط الحديد والمدافع والرجال: ويخترق أورية إرضاء 
لقدرة أطيعها مع احتقاري لها. إن روحي لاتعي أبداً هذه الحركات. فهي ثابتة, 
غارقة في فكرة» متخدرة بهذه الفكرةء فكرة البحث عن المطلق؛ عن هذا المبدأ 
الذي يمكن فيه لبذور مماثلة تماماًء توضع في وسط واحدء فيعطي يعضها 
كؤيسات بيضاء: ويعضها الآخر كؤيسات صفراء؛ وهي ظاهرة تنطيق أيضاً 
على دود الحرير الذي يتغذى من الأوراق نفسهاء ويبدى دون أيّة فروق ظاهرة, 
لكن بعضه يعطي حريراً أصفرء ويعضه الآخر يعطي حريراً ابيض. أخيراً فإن 
هذا المبدأ يطبق على الإنسان ذاته, الذي يرزق شرعاً أولاداً مختلفين كلياً 
بالرغم من أنه هو ذاته لم يتغيرٌ والأم واحدة. 

آلا يفرضى الاستنتاج المنطقي لهذا الواقع تعليلاً بجميع هذه التأثيرات 
في الطبيعة؟ هيه, أي شيء أكثر مطابقة لأفكارنا عن الاله من الاعتقاد بأته 
صنع كل شيء بالوسيلة الأكثر يسرأ؟ ألا يلخّص الولع الفيثاغوري بالرقم 
«واحد» الذي تتفرّع عنه جميع الأرقام: ويالرقم «اثنين» الذي يبدأ فيه التراكم 
الأوليّ وهى نموذج التراكمات الأخرى؛ وبالرقم «ثلاثة» الذي شكّل في جميع 


إلا 


الأزمنة «الإله» أي المادة والقوة, والناتج: ألا يلخّص تقليدياً المعرفة المبهمة 
للمطلق؟ 

إن ستاهل(') وبيشه') وياراسلس() وأغريبا”) وجميع الباحثين الكبار 
عن الأسباب السحرية؛ كانت كلمة السرّ لديهم «التريسمجيستاء/*) وهي تعني 
العظيم ثلاثاً. إن الجاهلين المتعودين على إدانة السيمياءء هذه الكيمياء السامية, 
لا يعرفون دون شكء أثنا مشغولون بتبرير الأيحاث المتحمسة لهؤلاء الرجال 
العظام؛ فعند التحقق من المطلق؛ يجب أن آخذ بتلابيب الحركةل'). آه! بيتما كنت 
اتغذى بالبارود؛ وأوجه الأوامر للرجال للموت عيثاً كان معلمي القديم يجمع 
الاكتشافات واحداً بعد الآخر: ويطير نحو المطلق! وأنا انتظر الموت ككلب قرب 
بطارية مدفع. 

بعد أن استعاد هذا الرجل الكبير البائس بعض هدوبه. قال لي يأخوة 
مؤثرة: «إن وجدت تجربة تستحق الإجراء فستوصي لك بها قبل أن أموت» 

تابع بلتزار وهى يشد على يد امرأته: «إن دموع الغضب التي سالت على 
وجنتي هذا الرجل المخددتينء ياعزيزتي ببيتاء قد رمت في روحي نار هذا 
الاستدلال التي كان لاقوازيه قد هيا وقدها دون أن أجرئ على الانصراف الكلي 
لها. 

صاحت السيدة كلايسء التي لم تستطع الامتناع عن مقاطعة زوجها: 
«كيف تمكن هذا الرجلء بقضائه ليلة واحدة تحت سقف منرلنا؛ أن ينتزع منك 
كل مودتناء وأن يهدم بجملة واحدة» بل بكلمة واحدةء سعادة عائلة. 
)١(‏ ستاهل: (.17- 174): طبيب الماني» وهو واضع نظرية القلوجيستيك في الكيمياء. 
وقد نقضها لافوازيه 
١؟)‏ بيشه:  170(‏ 17487): كيميائي الماني, قال بوجود أجسام غير قابلة للانقسام؛ وأخرى 
مركية 
(؟) باراسلس. )١54١ ١1545!‏ طبيب سويسري اهتم باكسير الحياة رحجر الفلاسفة. 
(8) أغريبا فون نتسهم  ١447(‏ ه61١)‏ سيميائي وطبيب: كان مستشاراً لشارل كنت 
(5) تريسمجيست: العظيم ثلاثاًء لقب كان اليونان يطلقونه على الههم فرمس. 
() الحركة: مثار اهتمام بلزاك في رواياته الفلسفية, ذكرها في جلد الحيبء وهنا في البحث 
عن المطلق. 


بايا 


آه ياعزيزي بلتزار! هل رسم هذا الرجل إشارة الصليب؟ هل تفحصته 
جيداً؟ إن إبليس وحده له هذه العين الصفراء التي تنفث لهب برومثيوس. تعم إن 
الشيطان وحده هى الذي تمكن من اقتلاعك منيء ومنذ ذلك اليوم؛ لم تعد أبداً 
أباًء ولا زوجاًء ولا رب عائلة. 


انتصب بلتزار واقفاً في الغرفة ووجه إلى امرأته نظرة ثاقبة وهى يقول: 
«ماذا! أتلومين زوجك لأنّه قد سما فوق جميع الرجالء ليتمكن أن يلقي تحت 
قدميك حلّة المجد الأرجوانية كتقدمة زهيدة أمام كنوز قليك! إذاً أنت لاتدركين ما 
قعلته منذ ثلاث سنوات؟ 

إنها خطوات جيارة! ياعزيزتي ببيتا» 

قال هذا وقد أثيرء ويدا وجهه عند ذاك لامرأته وقد تألق تحت نار 
العبقرية أكشش من تألقه تحت نار الحب ويكت وهي تسمعه يردد: «لقد نفذت 
اتحاد الكلور والآزوت!')» وحلّلت عدة أجسام اعتبرت بسيطة حتي الآن, 
واكتشفت معادن جديدة ... وتابع عندما رأى دموع زوحته: «بل حلّلت الدموع, 
هذه الدموع تحوي قليلاً من فوسفات الكلس وكلورور الصوديوم: ومادة 
مخاطية, وماء(")». واستمر في الكلام دون أن يلاحظ الاختلاجات الرهيبة التي 
لفوت علئ شكل جوزقن تعد الشاو مق لعل الا سملة بعيدا »وعد شين 
جوانحه؛ فوق العالم المادي. 

«هذا التحليل ياعزيزتي, هو أحد أفضل البراهين على نظام المطلق. إن 
كل حياة تنطوي على احتراق؛ ووفق فعالية الموقد شدة أى نقصاناً تكون الحياة 
أكثر أى أقلّ استمراراً» وهكذا فإن فناء الفلّز المعدني بطيء إلى مالانهاية, لأن 


.1841١؟ عملية كيميائية تمكن من إجرائها دلونغ في‎ )١( 
.9750 (؟) تحليل أجراه فوركروا وقوكلن في‎ 


2 


الاحتراق قيه فرضي وكامن؛ وغير محسوس: وهكذا فالنياتات التي تترطب دون 
انقطاع بالاتحاد الذي تنتج عنه الرطويةء تعيش إلى مالانهاية: ومايزال العديد 
من النباتات التي عاصرت الطوفان الأخير حدة إلى الآن؛ لكن في جميع المرات 
التي أتقنت ت فيها الطبيعة جهازاً؛ ووضعت فيه لسبب مجهول الاحساس أق 
الغريزة» أى الذكاء. وهي ثلاث درجات متميزة في المنظومة العضوية فإن هذه 
العضويات الثلاث تتطلب احتراقاً تتناسب فعاليته طرداً مع التتيجة الحاصلة؛ 
والانسان الذي يمثل أعلى درجة من الذكاء وهى رمز الجهاز الوحيد الذي ينتج 
قدرة نصف خلاقة تتجلّى في الفكرء هوى بين الكائنات الحيوانية؛ المخلوق الذي 
يصل فيه الاحتراق إلى الدرجة الأكثر شدة والذي تبدى آثاره القوية منكشفة إلى 
حد ما بالفوسفاتات, والكبريتات والكاريونات التي تنتج عن جسده وتكشفها 
تحاليلنا. أليست هذه المواد هي الآثار التي تتركها فعالية السيّالة الكهربائية, 
أساس كل خصوية؟ 
ألا تظهر الكهربائية فيه باتحادات متنوعة أكثر منها في أي حيوان آخر؟ 
أليست لديه قدرات أكبر مثها في أي كائن الل ا ال ل 
الور الح كر لوكا لور لوي عتقد ذلك. إن الإنسان 
قربةٌ وهكذا ففي رأيي() إن الأحمق هو من يحوي دماغه أقل نسبة من 
الفوسفور أى أي ناتج آخر من الكهرطيسية: والمجنون من حوى دماغه نسية 
زائدة والانسان السوي من حوى نسبة قليلة, والرجل العبقري من كان المخيخ 
فيه مشبعاً إلى درجة ملائمة؛ أما من اختلفت مشاريهم كالعاشق المتيم, 
والحمالء وراقص الباليه؛ والأكول الهم فهم هؤلاء الذين انحرفت فيهم القوة 
الناتجة عن سيالتهم الكهريائية. وهكذا فإن عواطفنا . 
- كفى يابلتزارء إنك ترعبنيء انك تهين المقدساتء كيف! أيكون حبي .. 


وقدمت إلى أكاديمية 0 تمول 1 


ايلات 


- مادة اتيرية(') تنطلق: وهي دون شك كلمة المطلق؛ فكّري إذاً فيما إذا 
كنت أول من يتمكن؛ أول من يتمكن! من إيجاد؛ من إيجادء من إيجاد! ا 

هتف كلايس يهذه الكلمات بتبرات ثلاث مختلفة؛ كان خلالها وجهه يسمقو 
في درجات متصاعدة حقى التعبير عن الوحي. «سأاصئع المعادن: سأاصنع 
الألاميسء. سأكرر الطبيعة.» 

هل ستكون أكثر سعادة؟ صرخت بقنوط؛ ياللعلم اللعين: وللشيطان 
الرجيم! إنك تنسى ياكلايس أنك ترتكب خطيئة الكبرياء التي وقع فيها إبليس. 
إِذّك تتطاول على الله. 

- أوه! أود! الله! 

- إنه ينكر الله! صاحت وهى تعصر يديها. «كلايس! إن لله قدرة لن تصل 
إليها أبداً. 1 

عند هذه الحجة التي بدت وكأنها تلفي علمه العزيز, تطلّع إلى امرأته وفى 
يرتعش متسائلاً: «ماذا؟!». 

القوة الوحيدة, الحركة"). هذا ما استوعبته من الكتب التي ألزمتني 

بقراءعتها. حللٌ الزهورء والثمار» وخمر ملّقةء ستكتشف بالتاكيد عناصرها التي 
تأتي. كعناصر عشبة الحرف التي حللتهاء من وسط يبدو أنه كياتها الغريب» 
ويمكنك أن تجدها في الطبيعة: لكن إن جمعتها هل ستصنع منها هذه الأزهار. 
وهذه الثمارء وخمر ملّقة؟ هل لديك تأثيرات الشمس التي لايدرك كنهها؛ هل 
لديك جو اسبانية؟ أن تتمكن من التحليل لايعني أنك تتمكن من الخلق! ' 

إذا تمكّنت من إيجاد القوة الملزمة(). يمكنني أن أخلق. 


)١(‏ الإتير: عرفت مقولة الإتير شهرة كبيرة في القرن التاسع عشر وقد عرفها معجم التاريخ 
الطبيعي الذي نشره دترقيل «الإتير مائع نافذ جداً يفترض أنه منتشر في الكون كله وهى في 
بنية الكون كما السيالة العصبية في بنية الحيوان؛ إِنّه يصون هذه الرابطة الوثيقة بين أقسام 
هذا الكل الشامل 

(؟) سجل بلزاك في «أفكار: ومواضيع؛ وشذرات» (إن الانسان يستخدم القوة ولا يخلقها 
أبداًء وكل قوة يعتقد الانسان أنه قد خلقها هي استعارة من الحركة الخالدة تعاد إليها في 
اللحظة ذاتها» 

(؟) القوة الملزمة: فكرة شغلت اهتمام يلزاك طويلاً وقد جاء في ملاحظات فلسفية: «ماهي 
القدرة الملزمة التي تضم وتجمع الجزئيات أو أقسام العناصر المادية؟» 


هة/ات 


- دما من شيء يوققه» صركت ببيتا يصوت قانط. «آه ياحبي لقد مات» 
لكو كقنه ونا هس عير نهنا رز درقت معناه] :وقد ستركينها الال كسد 
العواطف التي تبوح بهاء بجمال لايحد. وتابعت وهي تنتحب «لقد مث كليّاًء إنني 
أرى ذلك؛ فهذا العلم فيك أكثر قوة من ذاتك؛ وقد حملك في تحليقه إلى مرتبة 
أعلى بكثير من أن تنزل منها لتكون رفيق امرأة مسكينة. أية سعادة يمكنني أن 
أقدّمها إليك أيضاً؟ آه. أريد كمواساة معزيّة أن أومن أن الله قد خلقك لتكشف 
دن أعمالهء وتترنّم بحمدهء وأنه قد وضع في إهابك قوة لاتقاوم تهيمن عليك؛ لكن 
كلاء إن الله رحيم؛ وقد ترك في قلبك بعض أفكار من أجل امرأة تعبدك وأولاد 
يجب أن ترعاهم. نعم إِنّ الشيطان وحده يمكن أن يوجهك الغوص وحيداً في 
وسط هذه اللجج التي لاقرار لهاء وهذه الظلمات التي لا ينيرها إيمان الأعالي, 
إنما يخيم عليها اعتقادك الرهيب بقدراتك! 


عه م 


من ناحية أخرىء ألم تلاحظ ياعزيزي أنك قد بددت تسعمئة ألف فرنك 
خلال ثلاث سنوات؟ أوه! أنصفنيء فأنت ربي على هذه الأرضء وأنا لا ألومك 
على شيء؛ ولى أننا لوحدنا تحملت إليك وأنا راكعة كل ثروتنا وأنا أقول لك: «خذء 
ألق بها في فرنك حولها إلى دخان؛ وكنت سأضحك وأنا أراها تتطاير. وإن 
افتقرت لذهبت أتسول دون خجل لأؤمن لك الفحم الضروري لفرنك. أخيراً لى 
أنني بإلقائي تفسي في هذا الفرن أهي لك العثور على مطلقك الممقوت, لقعلت 
ذلك؛ ياكلايسء بملء السعادة: لأنك تعتبر مجدك ومسراتك في هذا السر 
المفقود. لكن أولادنا ياكلايسء أولادناء ماذا سيكون مصيرهم: إن لم تكتشف 
سريعاً هذا السرّ الجهنمي؟! هل تعلم لماذا حضر بييركين؟ لقد جاء يطلب منك 
تسديد ثلاثين ألف فرنك ديناً عليك؛ ولا تملكها . إن أملاكك لم تعد لك. لقد قلت له 
أن لديك هذه الثلاثين ألف فرنك لأجنيك الورطة التى ستوقعك فيها أسئلته؛ لكن 
للحصول على هذا المبلغ فكّرت ببيع فضياتنا القديمة» 

رأت عند ذلك عينيه وقد جال بهما الدمع؛ فألقت بنفسها بقنوط على قدميه 


شارك 


وقد رفعت نحوه يدين متوسسلتين هاتفة: «أوقف ياعزيزي لفترة أبحاثك لنتمكن من 
توفير المال اللازم للعودة إليها فيما بعد, إذا لم تتمكن من الإقلاع عنها كلياً. 
أوه! أنا لا أدينهاء وأنا مستعدة لأنفخ في أفرانك إن أردت؛ ولكن لاترم أولادنا 
إلى القاقة» وإذا كان العلم قد سيطر على قلبك بحيث لم يعد فيه مكان لحبهم: 
فلا تحؤل حياتهم إلى تعاسة بدلاً من السعادة اتي يجب أن تهيّئها لهم. 

إن عاطفة الأمومة كانت غالباً الأضعف في قلبي. نعم لقد تمنيت غالبا ألا 
أكون أمَاً لأتمكن من الاتحاد بشكل أوثق مع روحك؛ وحياتك! وهكذا من أجل أن 
أتخلص من عذاب الضمير قأنا اسألك الرحمة بمصلحة أولادك قبل مصلحتي. 

كان شعرها قد تهدل وتموج على كتفيهاء وعيناها ترشق ألف عاطفة 
كرشق ااسهام؛ لقد انتصرت على منافستهاء ورفعها بلتزار وحملها إلى الأريكة, 
وجثا عند قدميهاء وقال لها بلهجة رجل استيقظ من كابوس مزعج: «لقد سبيت 
لك إذاً كثيراً من الأحزان!» 

- أجابت وهي تمرّر يدها في شعره: «ياعزيزي البائسء مازلت تسيب لي 
الكثير بالرغم عنك, هيًا تعال واجلس قربي» وأشارت إلى مكانه على الأريكة 
الواسعة. «لقد نسيت كلّ شيء, لأنك عائد لذا سنصحح كل شيء ياعزيزيء: لكنك 
لن تبتعد عن زوجتك أبداً, أليس كذلك؟ قل نعم! اسمح ليء ياعزيزي كلايس 
المطيّب الجميلء أن أمارس على قلبك النبيل هذا التأثين النسائي الضروري 
واللازم لسعادة الفنانين التعساء. وكبار الرجال المتألمين. لك أن تفيظني 
وتعتّفني إن أردت؛ لكن اسمح لي أن أخالفك قليلاً لمصلحتك؛ لن استغل أبد 
السلطة التي ستمنحني إياها. كن شهيراً واكن كن سعيداً أيضاً. لا تفضل 
الكيمياء علينا. اسمع سنكون كثيري التسامح, وسنسمح للكيمياء أن تدخل 
شريكاً معنا وتقاسمنا قلبك: ولكن كن عادلاً, ألا تعطنا نصف قلبك؟ قلء: أليست 
تضضحيتي سامية؟ 


اه امت 


ابابا 


دقعت بلتزار إلى الايتسام بهذا الفن الرائع الذي تمتلكه النساءء لقد 
تعرّضت الموضوع الشائك في صيغة مزاج تعرف النساء اتقانه. مع ذلك 
وبالرغم من أنّها تظاهرت بالضحكء فان قلبها كان منكمشاً بعنف بحيث لم يعد 
إلى الحركة المنتظمة والهادتة لحالته المعتادة؛ لكن عنذما رأت في عيني بلتزار 
التعبير الذي فتنهاء والذي يسجّل نصرها الذاتي ويكف يهن التاثيت الكامل 
لقدرتها القديمة التي ظنّت أنها قد فقدتها. . قالت له وهي تبتسم : «صدقني 
يابلتزار» لقد هيأتنا الطبيعة لنشعرء وبالرغم من أنّك لا تريد إلا أن نكون 
ماكنات كهريائية, فإن غازاتك: وموادك الإتيرية لن تفسر أبداً الموهبة التي 
تملكها في استشفاف المستقبل. 

بلى» بواسطة الألفات» فالقدرة على الرؤيا التي تصنع الشاعرء والقدرة 
على الاستنتاج التي تصنع العالم؛ قائمتان على الات حير منطورة. لاتمس ولا 
توزن: يصدّفها العامة في صف الظواهر المعنوية, إنما هي تأثيرات فيزيائية. إن 
المتنبىء ينظر ويستنتجء لكن هذا النوع من الألفات نادر جداً. ويصعب جد 
إدراكه بحيث يتعذر إخضاهه للتحليل أو للملاحظة. 

قالت وهي تختلس منه قبلة لتبعد حديث الكيمياء الذي شاء سوء الحظ أن 
تثيره: «هذه إذاً ليست إلا ألغة!؟. 

- كلا إنها اتحادء فعنصران من إشارة واحدة لاينتجان أية فعالية. 

- كفىء اصمت. إِنْك تقودني إلى الموت ألما. نعم, لن أتحمل ياعزيزي؛ أن 


أرى منافستي حتى في فورات حبك. 

ب لكنني» ياحياتي العزيزة, لا أفكر إلا بك قأعمالي هي أمجاد لعائلتي» 
وأنت في صميم جميع آمالي. 

- هيّاء ألا تنظر إلي؟. 


خانت هذه المشاحنة العائلية قد أكسبتها جمال امرأة شابة؛ ولم يكن 
زوجها يرى من كل شخصها إلا رأسها الذي يبرز فوق غيمة من الحرائر 
والمخرمات. 


500 


- نعم, لقد كنت على خطأ بِيّن في هجرك من أجل العلم؛ والآن عندما 
أغرق في مشاغلي فإنني أرجى ياعزيزتي ببيتا أن تنتزعيني منهاء فأنا أريد ذلك. 
خفضت بصرهاء وتركته يتناول يدهاء. مقال الجمال فيها هذه اليد القوية 
والحسناسة في آن معاً؛ لكنها قالت: أريد ماهو أكثر من ذلك». 

- «إنك ساحرة في جمالك بحيث تستطيعين أن تنالي ماتريدين. 

- «أريد أن أحطّم مخبرك وأقيد بالأغلال علمك» قالت وقد أيرقت عيناها 

- حسن. فلتذهب الكيمياء إلى الجحيم 

- إن هذه اللحظة تمسح جميع الامي؛ ويمكنك الآن أن تعذبني قدر 
ماتشاء ترقرقت الدموع في عيني بلتزار وهى يسمع هذه الكلمات وقال: «إِنّك 
على حق» فأنا لا أراك إلا من وراء حجابء ولم أكن استمع إليك أيداً». 

- لى أن الأمر يتعلّق بي وحدي لأغرقت عذابي في الصمتء دون أن أرفع 
صوتي أمام مليكيء لكن أولادك بحاجة إلى اهتمامك ياكلايس؛ وأؤكد لك أنك إن 
واصلت تبديد ثروتك بهذه الطريقة, حتى لى كان هدفك مجيداً فإن العالم لن " 
يتخذه بالاعتبار وسيقع اللوم على عائلتك. ألا يكقيك: وأنت الرجل السامي 
الإدراك» أن امرأتك قدلفتت انتباهك إلى خطر لم تلاحظه؟. كفانا كلاماً في هذا 
الموضوع ياعزيزي كلايس:؛ ففي هذا المساء يجب آلا تكون سعادتنا منقوصة. 
قالت ذلك وهي توجه إليه ابتسامة ونظرة ملؤها الفنج والإغراء. 

في صبيحة تلك الأمسية الخطيرة في حياة تلك العائلة؛ لم يصعد بلتزار 
كلايس إلى مخبرهء ولاشك أن جوزفين قد حصلت منه على وعد يتعلّق بيقاق 
أعماله, وقد بقي إلى جاتبها طيلة النهار, 

في اليوم التالي اتخذت الأسرة استعداداتها للذهاب إلى الريف حيث 
بقيت نحو شهرينء ولم تعد إلى المدينة إلا لتهتم بالحفلة التي أراد كلايس 
-إحياعها كالسايق احتفاء بالذكرى السنوية لزواجه. كان بلتزار مع مرور الأيام 
يحس.بالاختلال الذي أحدثته أعماله ولا مبالاته في أوضاعه المادية, فمن “الخدم 


بة/ات 


السبعة الذين كانوا لديه في آخر مرة استقبل فيهاء لم يبق إلا لمولكينيه, 
وجوزيت الطباخة: ووصيقة عجون اسمها مرتا لم تفارق سيدتها منذ أن غادرت 
الدير؛ لذلك كان مستحيلاً استقبال عليّة القوم في المدينة يمثل هذا العدد 
المحدود من الخدم؛ اكن السيدة كلايس تغلبت على الصعويات بأن عملت على 
استدعاء طباخ من باريسء واستخدم ابن البستاني كنادل واستعارة خدم 
بييركين؛ وهكذا لم يلاحظ أحد ماهي فيه من ضيق؛ وخلال العشرين يوماً التي 
استغرقتها التحضيرات» عرقت السيدة كلايس بمهارة كيف تشغل أوقات 
نوجها: فحيناً تكلفه بالاهتمام بالأزهار النادرة التي يجب أن تزين الدرج 
الرئيسء والرواق والأجنحة, وحيناً آخر ترسله إلى دونكرك ليؤمن بعض هذه 
الأسماك الضخمةرالتي تعتبر زينة الموائد في مناسياك فلي الشمال. واحتقال . 
كاحتفال كلايس يعتبر أمراً رئيساً يتطلب إجراءات عديدة ومراسلات نشطة في 
بلاد تعتير تقاليد الضيافة فيها تعبيراً عن شرف العائلات» ومائدة العشاء تصراً 
يجب أن يحققه أسياد المنزل وخدمه على المدعوين. لقد جيء بالمحار من أوستند» 
وبالديوك البريّة من اسكوتلندة. وبالثمنار من باريس, أخيراً فإن أقل المكمّلات 
كانت على مستوى الترف الموروىث؛ فالحفلة الراقصة في بيت كلايس لها 
شهرتهاء إن أن تلك السهرة في دوي وهي مركز المقاطعة آنئذ: تفتتح إن صح 
القول موسم الشتاء, وتعتبر مثالاً لجميع حفلات المنطقة؛ وهكذا فخلال خمسة 
عشر عاماً جهد بلتزار في أن يتميزء وقد نجح في ذلك بحيث رويت الحكايات 
عن حخقلتة ضمن دائرة تعدئ نصف قطرها بعد عشرين فرسسخا, نسزدت 
القصص عن التبرجات والمدعوين بأدق التفاصيلء وعن المستجذات التي 
شوهدت أى الأحداث التي مرت. 

هذه الاستعدادات حالت بين كلايس وبين التفكير بالبحث عن المطلق, 
فبعودته إلى الأفكار الأهلية والحياة الاجتماعية ارتدت إلى العالم كبرياؤه كرجل, 
وكفلمندي. وسيد بيت عريق واغتيط بإدهاش المقاطعة. وقد أراد أن يسم تلك 
السهرة بسمة جديدة فاختار من نزوات الترف أكثرها جمالاً: وأكثرها غنى: 


ناك 


واكشرها زوالاًء إن جعل من بيته مشتل نباتات نادرة: وعد لكل سيّدة من 
المدعوات باقة أزهار» وتطابقت تفاصيل الحفل الأخرى مع مستلزمات هذا 
الترف الخارقء؛ فما من' شيء إلا ويبدى مثيراً للاتتباه, غير أن النشرة التاسعة 
والعشرين(". والأخبار الخاصة المتعلقة بهزيمه الجيش الكبير في روسية ونكبة 
برزينا انتشرت بعد العشاء؛ وخيّم على أهل دوي حزن عميق وصادق بحيث 
دفعتهم العاطفة الوطنية إلى الامتناع عن الرقص كلية. 

كان من بين الرسائل التي وصلت من بولونية إلى دوي واحدة لبلتزار 
مرسلة من وييرشونيا الذي كان يحتضر في درسدن:؛ على مايذكرء من جراء 
جرح أصيب به في أحد الاشتباكات الأخيرة؛ وقد أراد أن ينقل إلى مضيفه عدة 
أفكار تتعلّق بالمطلق خطرت له بعد لقائهما الأخيرء وقد أغرقت هذه الرسالة 
كلايس في شرود عميق دفع الحاضرين لتبجيل وطنيتهء لكن الأمر لم يلتبس على 
زوجته؛ فقد غدت الحفلة بالنسبة لها حداداً منضاعفاً؛ إن تقلفت تلك الأمسية 
التي كان منزل كلايس يشمٌ فيها بآخر يريق له بالكآبة والعيوس وسط كل هذا 
البهاء وهذه الطْرّف التي تجمعت في ذاك البيت خلال ستة أجيال لكل منها 
هوسه: وكل طرفة منها أثارت إعجاب أهل دوي المرة الأخيرة. 

كانت ملكة ذلك اليوم مرغريت التي قدمها أهلها للمجتمع وهي في ربيعها 
السادس عشرء وقد جذبت أنظار كلّ الحاضرين بيساطة متناهية, ويمظهر 
ساذج بريء. وهيكة تتوافق مع ذلك المنزل؛ فهي نموذج الفتاة الفلمندية التي 
صورها رستامى المنطقة رأس مليء مستدير تماماًء وشمعر خرنوبي مسترسل 
يتقسسمم عند الجبين إلى عصبتين: وعينان رماديتان على خضرة: وذراعان 
بضتانء وجسم مليء لا يؤثر على جمال القوام؛ ومظهر خجولء لكن على جبينها 
العريض المتعالي رزانة تحتجب بسكون ولطف ظاهرين؛ ودون أو تركن إلى 
)١(‏ النشرة التاسعة والعشرون: هي النشرة التي أصدرها نابوليون في ؟ كانون أول 1817 
ووصلت إلى باريس قي 8 1منه تنبيء الشعب الفرنسي بتراجع الحملة على روسية. ونكبة 
برزينا: هي الفاجعة التي حلت بالجيش الفرنسي أثناء اجتياز النهر وقد ورد ذكرها في طبيب 
الريف . 

-81- البحث عن المطلق م 


الحزن أو الكآبة. لم يكن يبدى عليها كثير من الابتهاج؛ فالتفكير والنظام» 
والشعور بالواجب وهي التعابير الرئيسة الثلاثة في الطبع الفلمندي تتجلّى في 
هذا الوجه الذي يبدو بارداً للوهلة الأولى لكن النظر يرتد إليه ثانية منجذياً يما 
يبدى في قسماته من لطف وأنفة رائعة هي ضضمان السعادة العائلية. 

بغرابة لم يتمكن الفيزيولوجيون من تعليلهاء لم يكن يبدى على مرغريت أي 
شبه بأمّها أو أبيهاء إنما هي صورة حيّة عن جدها لأمْها أحد أفراد عائلة 
كونينك من بروج الذي مايزال رسمه المحتفظ به يعناية يشهد على هذا الشبه 
بثُ موعد العشاء الحياة في الحفلة, وإذا كانت نكبة الجيش قد حالت دون متعة 
الرقصء فإن معظم الحاضرين فكّر بأن يجب آلا تحرمه من طيّيات المائدة. لكن 
المتحمسين للوطن انسحبوا بعدها بسرعة:؛ أما اللامبالين فقد بقوا مع بعض 
هواة اللعب والعديد من أصدقاء كلايس, لكن ذلك المنزل الذي كان يشع 
بالأضواء والذي هرع إليه أعيان دوي أخذ يخيم عليه السكون شيئاً فشيئاً, 
وحوالي الساعة الواحدة صباحاً خلت القاعة الكبرى ويدأت الأنوار تخمد بين 
صالة وأخرى وأخيراً خيّمت العتمة على البهى الداخلي الذي كان يلتمع 
بالأضواء ويضج بالحركة: وكأنها نذير ينبىء بالمستقيل القاتم الذي ينتظر تلك 
العائلة. 

وعندما أوى الزوجان إلى مخدعهماء أطلع بلتزار زوجته على رسالة 
البولوني لكنها أعادتها إليه بحركة حزينة فقد كانت تتوقع المستقبل. 

الواقع أن بلتزار بدءاً من ذلك اليوم» لم يستطع أن يخفي الكآبة والضجر 
اللذين حلاً به؛ فهى في الصباح بعد أن تتناول العائلة فطورهاء يداعب لفترة 
جان الصغير في غرفة الجلوسء ثم يتحدث مع ابنتيه المشغولتين بالخياطة أو 
التطرين؛ أو شغل المخرمات؛ لكن كان يبدو عليه التعب سريعاً من هذه المحادثة 
وتلك المداعبة؛: فكأنهما واجب يتحتم القيام به وعندما .تنزل زوجته بعد ارتداء 
ثيابها تجده يجلس دائماً على أريكة عريضة يتأمل مرغريت وفليسيا دون أن 
يملّ من ضجة بكراتهماء وعندما تصل الصحيفة فإِنّه يقرؤها بتمّعن كتاجر 
متقاعد لا يعرف كيف يمضي الوقت؛ 


ليارب 


ثم ينهض ويتأمل السماء عبر زجاج النوافذء ويعود ليجلس أو يذكي نار 
المدفأة وهى سارح في حلم رجل تبعدٍ عنه هيمنة أفكاره الشعور بحركاته. 

كانت السيدة كلايس في ذلك الموقف؛ تأسف بشدة على نقص ثقافتها 
وضعف ذاكرتها؛ إن يصعب عليها أن تستمر لمدة طويلة في محادثة ممتعة؛ زد 
على أنه قد يستحيل على كائنين استنفدا الكلام أن يسعيا إلى التفتيش عن 
مواضيع للهى خارج حياة القلب أى الحياة الواقعة. فلحياة القلب أوقاتها وهي 
تتطلب المواجهة, وتفاصيل الحياة الواقعية لا يمكن أن تشغل طويلاً الففوس 
التي ألفت أن تقرر بسرعة والمجتمع لا تتحمله الأراوح المتحاية: فالكائنان 
المتعزلان المتعارفان كلياً؛ يجب إذأٌ أن يفتشا عن انشراحهما في أسمى مراتب 
الفكر إن يستحيل أن تواجه المدى الواسع بالأشياء التافهة. ثم أن الرجل الذي 
تعود أن يعالج الأمور الكبيرة -تصعب تسليته إن لم يحتفظ في صميم قلبه بهذا 
الأساس من البراءةء وهذه العفوية التي تجعل الرجال العباقرة في لطفهم 
كالأطفال؛ لكن هذه الطفولة في القلب ظاهرة بشرية نادرة جداً لدى أولتك الذين 
يعتيرون أن مهمتهم أن يروا كل شيء» ويعرفوا كل شيء: ويدركوا كل شيء. 

تمكنت السيّدة كلايس خلال الأشهر الأولى أن تتخلص من هذا الوضع 
الحرج يجهود خارقة: أوحى لها بها الحبُ أى الضرورة؛ فقد أرادت حيناً أن 
تتعلّم لعبة طاولة الزهر التي لم تمارسها أبداً في السابقء وتمكنت بأعجوية أن 
تحقق هدفهاء ودقعت حيناً آخر بلتزار إلى الاهتمام بتثقيف ابتتيه طالبة منه 
توجيه مطالعاتهما؛ وقد نفدت هذه الوسائلء وجاءعت لحظة وجدت جوزفين نفسها 
أمام بلتزار كما السيدة دى منتنون أمام لويس الرابع عشرء لكن بدون أن يكون 
لها من أجل تسلية السيد المتخامدء لا أبّهات السلطان ولا حيل البلاط الذي 
يعرف كيف يمثل ألف ملهاة كملهاة رسول ملك سيام!'! أى صوفي العجم؛ فالملك 


)١(‏ ملهاة يذكر قواتير أن واضعها هو صاحب حانة من سيفالونية (اليونان) اسمه فالك 
كونستانسء في العام 15/814. 


عم 


الذي تصاغر بعد أن استهالك فرنسة إلى التماس ذرائع اين العائلة الموسرة: قد 
فقد الشباب والنجاح وشعر يعجز رهيب وسط هذه العظائم؛. لكن المربية الملكية 
التي عرفت كيف تهدهد الأولاد لم تكن تعرف دائماً كيف تهدهد الملك الذي كان 
يعاني من إسرافه في استغلال الأشياء والناس والحياةء وحتى الاله. لكن 
كلايس كان يعانى من فرط الطاقة؛ إذ أنه وهو المعدّب بفكرة تضيق عليه الخذناق 
يحلم بأبهات العلم التي تعود على الإنسانية بالكنوز وعليه بالمجدء إنه يتالم كما 
يتالم الفتان الذي يصارع الشقاءء كشمشون الذي شد وثاقه إلى أعمدة الهيكل. 
لقد كانت اانتيجة واحدة بالنسبة لهذين العاهلين: فعاهل العلم قد أرهقته قوته 
وعاهل السلطان حمده شعورة بالضعف. 

ماذا يمكن أن تفعل ببيتا وحدها أمام هذا التوق العلمي؟؛ فبعد أن 
استغلت الوسائل التي هيّأتها لها الاهتمامات العائلية لجأت إلى المجتمع تطلب 
منه المساعدة, قدعت إلى حفلتي تناول قهوة أسبوعياً» والقهوة في دوي تحلٌ 
محل الشايء وحفلتها أمسية كاملة يتناول فيها المدعوون الخمور المعتّقة 
والمشرويات الروحية التي تطفح بها أقبية تلك البلاد السمحة؛ ويأكلون الحلويات, 
ويشربون القهوة السادة أى الممزوجة بالحليب والمبردة بالمأ.جات بينما تترنّم 
النساء بالأغاني العاطفية؛ أى يتحدثن عن مستجدات الزينة أى يثرثرن بشائعات 
المدينة اتها مناظر لوحات ميريس أو تريرغ(١),‏ لكن بدون الريشات الحمراء التي 
تزين القبعات الرمادية المقرنة» وبدون قيثارات وملابس القرن السادس عشر 
البهية. لكن الجهود التي يبذلها بلتزار في تلك الحفلات ليبدى بدور سيد المنزل 
المضيافء وبيشاشته المتكلّفة, ومظاهر تلاطفه, كلّها تعبر عن عمق الألم الذي 
يتكشف بما يبدو عليه من تعب قي اليوم التالي. 

هذه الحفلات المستمرة:, وهي مسكنات ضعيفة: تؤكّد خطورة الداء؛ 
والأغصان التي يتعلق يها بلتزار وهو يتدحرج نحو الهوة, كانت تؤخر سقوطه 
لكنها تجعله أكثر ثقلاً؛ وإن كان لم يتحدّث أبداً عن اهتماماته السابقة: ولم 


)١(‏ من الرسامين الهولانديين في القرن السادس عشر والسابع عشر 
لع بارت 


تصدر عنه بادرة أسف وهو يشعر باستحالة ما وضع فيه نفسه من التزام يعدم 
العودة إلى تجاريه؛ فإن في حركاته الكئيبة» وصوته الضعيفء ووهنه كأنه تاقه. 
البوادر المعبّرة. كان ملله يتفجر أحياناً حتى في الطريقة التي يئخذ بها الملاقط 
ليبني دون انتباه في تار المدقأة أحد هذه الأهرامات العجيبة من قطع الفحم 
الحجري. كانت تظهر عليه الغبطة عند حلول المساء فالنوم يبعد عنه دون شك 
قكرة ملّحة: لكنه ينهض في اليوم التالي أكثر كابة إذ يقدر صعوية النهار الذي 
ينبغي عليه اجتيازه حاسباً الوقت الذي سيمرٌ متباطتاً» كمسافر أثقل عليه خواء 
الصحراء التي يجتازها. 

لكن كانت السيدة كلايس تعرف سبب هذا السقام فإِنّها كانت تجهد 
التجاهل مدى الدمار الذي يحدثه. إِنَّها شديدة العزم أمام آلام النفسء لكنها 
واهنة القوى أمام مآثر القلب. هي لاتجرؤ أن تسال بلتزار وهو يستمع إلى 
ملاحظات ابنتيه أى ضحكات جانء لكن بنظر الرجل المنشغل يأفكار أخرى؛ إِنَّما 
ترتعش وهي تراه ينفض عنه الكآبة ويجرب بعاطفة سمحة أن يظهر فرحاً كي لا 
يحزن أحداً. وكانت مداعبات الأب لابنتيه, أى ملاعبته لجان تمليء عيني جوزفين 
بالدموع فتخرج لتخفي الانفعالات التي تسيبها بسالة تعرف النساء جيداً ثمنها 
ومدى ما تحدثه من انفطار في القلب. كانت تنتاب السيد كلايس الرغبة أحياناً 
لتصرخ: «اقتلني وافعل ماتريد». لقد بدت عينا كلايس تفقدان تدريجياً بريقهما 
الحيّ وتتحولان إلى ذلك اللون المزرق الباهت المعيّر عن الغم في أعين العجائز 
وظهر التثاقل في اهتماماته بامرأته وفي كلماته, وقد ازدادت هذه الأعراض 
خطورة في نهاية شهر نيسان بحيث أرعبت السيدة كلايس التي أصبح هذا 
المشهد بالنسبة لهاء لا يحتملء ولامت نفسها ألف مرًة وهي تقدر الإخلاص 
الفلمندي الذي التزم بموجبه زوجها بالوعد الذي تعهد به؛ وفي يوم بدا لها فيه 
بلتزار منهاراً أكثر من أي وقت مضى لم تتردد في أن تضحي بكل شيء 
لإعادته إلى الحياة. فاجأته بالقول: «ياصديقيء إنني أحلك من وعدك!» 

نظر إليها بلتزار بدهشة: فتابعت «إنك تفكر بتجاربك اليس كذلك؟» أجاب 


لوخم _- 


«يلى» بحركة تذعر بحيويتهاء لكن السيدة كلايس التي كانت قد أمعنت التفكير 
بمدى اللجة التي سيغوصان فيهاء هي أبعد الآن من أن توجه إليه أي عتب أو 
لوم, إِنّسا تناولت يده وشدّت عليها وهي تبتسم قائلة: «شكراً ياعزيزي؛ إنني 
واثقة من قدرتيء لقد ضحيت من أجلي بآاكثر من حياتك؛ وقد جاء دوري الآن 
بالتضحيات؛ وبالرعم من أتني قد بعت بعض جواهريء فما يزال لدي؛ اضافة 
إلى ماورثته عن آخيء بعض ما أمدك به من مال يلزمك لمواصلة أبحائك. لقد 
كنت أفكر أن أحتفظ بهذه الحلي لابنتي لكن مجدك سيزينهما بما هى أقخر 
منهاء زد على أنك ستجدد لهما يوماً جواهر أكثر جمالاً. 

زادت الغبطة التي نمت عنها أسارير كلايس في قنوط جوزفين, فقد 
أدركت بألم أن هوى هذا الرجل أشد قوة من ذاته. لقد كان كلايس على ثقة 
بمشروعه بحيث يدرج دون أن يرتعش على مسار يؤدي به؛ في رأيها إلى الهوة. 
إِنْ له الإيمان واليقين ولها الشك والحمل الثقيل: ألا تتالّم المرأة دائماً من أجل 
اثتين؟ إنها في هذه اللحظة تقنع بالإيمان بالنجاح:ء تريد أن تبرّر لنقسها 
تواطؤها في الهدر المحتمل لثروتهما . «إنْ حبي لك مدى الحياة لن يكفي للعرفان 
بجيمل تضحيتك يايبيتا» قال كلايس وقد غمره الحنان. 

ماكاد ينهي هذه الكلمات حتى دخلت مرغريت وفليسيا يوجهان لهما 
التحية»ء وقضت السيدة كلايس ببصرهاء وبقيت الحظة منذهلة أمام اينتيها 
اللتين استلبت ثروتهما لمصلحة وه بينما أخذهما والدهما على ركبتيه وأخذ 
يحدثهما بانشراح وقد أسعده أن يتمكن من التعبير عن الغبطة التي تملكته. 

منذ تلك اللحظة؛ دخلت السيدة كلايس في حياة زوجها المضطرمة, 
فمستقبل أولادها ومقام زوجها كانا بالنسبة لها عاملين محركين بقوة مماظة 
لعاملي المجد والعلم الدافعين لكلايسء وهكذا لم تعرف تلك المرأة التعسة لحظة 
من الطمائينة بعد أن بيعت جواهرن البيت في باريسء يواسطة الأب دي سوليس 
مرشدهاء وبعد أن بدا متتجو المواد الكيماوية يشحنون إرسالياتهم. كانت 
تتعرض دون انقطاع للقلق الذي يثيره شيطان العلم؛ وهذا الاندفاع في الأبحاث 


ةم 


الذي يغني زوجهاء إِنْها تحيا في توفع مستمرء وتبقى كالميتة لأيام كاملة وقد 
تسمرت في مقعدها بتأثير عنف رغياتها بالذات التي لاتجد لها متنفساً كمتنفس 
بلتزار في أعماله المخبرية إِنّما تعب روحها وهي تفي شكوكها ومخاوفها. إِنّها 
تلوم نفسها أحياناً على مراعاتها لهوى يبدى لها هدفه مستحيلاً كما أدانه الأب 
دى سوليسء وهي تنهض وتذهب إلى نافذة الفناء الداخلي؛ وتنظر برعب إلى 
مدخنة المخير» فإن تصاعد منها الدخان تأملته يقنوط فالأفكار المتشائمة تعصر 
منها القلب والروح» فهي ترى في هذا الدخان ثروة أولادها تتبدَد؛ لكنها بذلك 
تنقذ حياة واادهم: أليس واجبها الأول في أن تجعله سعيداً؟. هذه الفكرة 
الأغيرة اعاوت إليها اليدوء لتحلة :كانت ف حمنات حلى النسضاع لها جالتهزل 
إلى المخبرء والبقاء فيه اكنها تخلّت سريعاً عن هذه الترضية المحزتة؛ إن أنّها 
عانت من آلام شديدة الوطأة عندما رأت بلتزار غير مهتم بها. بل وظهر لها 
غالباً متضايقاً من وجودهاء مما عرضها لنفاد صبر لايحتمل ولرغية قاسية في 
أن تفجّر البيت فهي تتعرّض فيه للموت من جراء ألف علّة خارقة. 

أصبح لمولكينيه بعد ذلك بالنسبة لها مماثلاً لمقياس ضغطء فإن سمعته 
يصفر وهو يروح ويجيء لتقديم الغداء أوالعشاءء فهذا يعني أن تجارب زوجها 
ناجحة؛ وأنه يعقد الأمل على نتائج سارة قريبة» وإن بدا لمولكينيه عابساً مكفهر 
الوجه؛ فإنها تنظر إليه بالم لأن بلتزار غير راض. لقد توصصلت السيّدة والخادم 
إلى نوع من التفاهم رغم الإذعان الملتعجرف لهذا والأنفة المتعالية لتلك. إِنّها 
ضعيفة وعزلاء أمام إنهاكات الفكر الرهيبة» فهي ترزح تحت تناويات من الرجاء 
واليأس تزيد في اضطرايات المرأة المحبة, وفي هموم الأم القلقة على عائلتها. 
لقد أصبح الصمت المكدر الذي رمى الصقيع سابقاً في قليهاء يتشارك دون أن 
تدري مع المظهر القاتم الذي خيم على المنزل ومع الأيام الكاملة التي تمرّ على 
قاعة الجلوس دون ابتسامة وغالباً دون كلمة؛ وفي توقع أمومي متشائم عودت . 
ابنتيها على أعمال المنزل. وجريت إكسابهما مهارة في بعض أشغال التساء 
لتتمكنا من العيش إن أنّت بهما الفاقة, فهدوء هذا البيت كان يحضن إذأً قلقأ 


يه 


# لايم 


في نهاية الصيف كان بلتزار قد أتفق ثمن الجواهر المباعة في باريس 
بواسطة الأب العجوز دى سوليسء وتراكمت عليه ديون لدى بروتز وشيفرقيل 
تقدّر بعشرين الف فرنك في آب ١18١7‏ أي بعد عام تقريباً من المشهد الذي 
بدأت به هذه الرواية؛ كان كلايس قد قام ببعض التجارب الممتعة التي احتقرها 
للأسفء إذ أن جهوده بالنسبة للهدف الرئيس من أبحاثه كانت بدون نتيجة؛ وفي 
اليوم الذي أنهى يه سلسلة أعماله كان الشعور يعجزه يسحقه. واليقين يأنه قد 
بدّد مبالغ معتيرة من المال دون طائل يقنطه. إِنّها كارثة مرعبة بالنسبة له. 

غادر سقيقته ونزل بهدوء إلى غرفة الجلوسء وألقى بنفسه على أريكة 
وسسط أولادهء ويقي الحظات كانه ميتء لا يجيب على أسئلة زوجته التي تلاحقه, 
واغرورقت عيناه يالدموع فهرب إلى جتاحه كي لا يظهن مايعانيه من الام. 

تبعته جوزفين وأحضرته إلى غرقتها حيث ترك قنوطه يتفقجر وهى وزوجته 
منفردان. هذه الدموع في عيني رجلء وهذه الكلمات من فنان يائس,» وهذه 
التأسفات من رب عائلة؛ انطبعت بطابع ذعر وحنان وجنون سبّب للسيد كلايس 
آلاماً فاقت جميع آلامها الماضية؛ وكان على الضحيّة أن تواسي الجلاد. وعندما 
قال بلتزار بلهجة تصميم مرعبة: «إنني رجل بائسء لقد غامرت بحياة أولادي» 
وبحياتك؛ ويجب علي أن انتحر لأترككم سعداء!»؛ أصابت هذه العبارة صميم 
قلبهاء وخشيت وهي العارفة بطبع زوجها أن ينفذ في لحظة قنوط عزمه؛ وأحست 
بإحدى هذه الثورات التي تعكّر الحياة من منابعهاء ومايزيد في خطورتها أن 
ببيتا مضطرة أن تكبت عنيف نتائجها بالتظاهر بهدوء كاذب؛ وهي تقول: «لقد 
استشرت ياعزيزي غير ببيركين الذي أخشى أن تكون صداقته ليست بالقدر 
الذي لايتمنى فيه سرًاً خرايناء ومستشاري العجوز هو بالنسبة لي بطيبة الآب, 
' 'إنه الكاهن دي سوليسء معرفيء وقد أجزاني نصيحة تنقذنا من الإفلاس. لقد 
تفحّص لوحاتك, وثمن ماهو موجود منها في الصالة الكبرئى يمكن أن يسدّد 
المبالغ المرتهنة عليها عقاراتنا وما يتوجب عليك لمتجر بروتز وشيفرقيل, إذ لاشك 
أن له ميلقاً متوجب السداد. 


1 


أومأً كلايس برأسه إيجاباً فبدا رأسه وقد جلله الشيب. 

إن الأب دي سوليس يعرف آل هاب ودوذكر في امستردامء وهم من غلاة 
هواة اللوحات؛ وعلى شوق كمحدثي نعمة ليتفاخرو! بأبهة لم تتح إلا البيوتات 
العريقة؛ لذلك فهم مستعدون لشراء لوحاتنا يكامل ماتستحقه من قيمة؛ وهكذا 
يمكننا أن نسترد دخلنا ويمكنك أن تأخذ من الثمن الذي يقارب مئة ألف دوقية 
قسماً تتابع فيه تجاريك. انني وابنتيك ذكتفي بالقليل: ومع الزمن وبشيء من 
التوفير يمكننا أن نؤمن لوحات أخرى تحلّ محل المباعة؛ وتعيش سعيداً!» 

رفع بلتزار رأسه نحو امرأته وقد بدت على سيمائه غبطة ممزوجة 
بالخشية؛ أقد انقلبت الأدوار فالزوجة أصبحت حامية الزوج. 

أحاط هذا الرجل الزائد الحنان ذى القلب الصامد نسبة إلى قلب 
جوزفين» زوجته بذراعيه دون أن يلحظ اختلاج قلبها الذي يخفق بشدة تبدت في 
رعشة عصبية على شعرها وشفتيه 

- لا أجرق أن أقول لك أنه لم يعد بيني وبين الكشف عن المطلق إلا مسافة 
شعرة. إذ لا ينقصني لتفويز المعادن إلا أن أجد وسيلة لاخضاعها لحرارة 
شديدة في وسط يكون الضغط الجوي فيه معدوماً أي في فراغ مطلق. 

لم تستطع السيدة كلايس أن تتحمل ماتبدى في هذا الجواب من أنانية 
لقد كانت تنتظر بوادر شكر عميق على تضحياتها فإذ بها تلقى قضية كيمياء . 
فتركت فجأة زوجهاء ونزلت إلى غرفة الجلوسء وتهالكت على الأريكة بين ابنتيها 
المذعورتين» وأجهشت باليكاء. وأخذت مرغريت وفليسياء كل منهما بإحدى يدي 
أمهماء وجثتا إلى جانبها وهما تبكيان دون أن تعرفا سبب هذا الحزن وفما 
تسالانها بإلحاح: «مالك ياأمي». 

«ياأولادي المساكين؛ إنني احتضر: انني أشعر بالموت» 

دب الذعر في فؤاد مرغريت من هذا الجواب» وقد رأت على وجه أمّها 
لأول مرّة هذه الصفرة الباهتة التي تميّز ذوي الوجوه السمراء. 

'صاحت فليسيا: «مرتاء مرتاء اسرعي إليناء فوالدتي تحتاجك». أسرعت 


ةم ب 


المربية العجوز من المطبخ وعندما رأت البياض المخضر على وجه سيّدتها الداكن 
قليلاً في سمرته والملون بقوة عادة صاحت بالاسبانية «بحق المسيح إن سيدتي 
تفوت!» وخرجت مسرعة ونادث جوزيت لتسخن ماء لتدفئة رجلي سيدتها وعادت 
إلى قريها. 

صاحت السيدة كلايس: «لا ترعبي سيدك يامرتاء ولا تقولي له شيئاً». 

ثم التفتت إلى ابنتيها وضمتهما بشدة إلى صدرها بحركة يائسة وقالت: 
«ياابنتي العزيزتين أريد أن أعيش إلى الوقت الذي أراكما فيه متزوجتين 
وسعيدتين» ثم توجهت إلى مرتا وطلبت منها أن تخبر مواكينيه بضرورة الذهاب 
إلى الأب دى سوليس ليطلب منه الحضور للقابلتها. 

كان لابد لهذا الأمر الجلل أن ينعكس حتى على المطبخ» فجوزيت ومرتا» 
وهما المخلصتان اسيدتهما وابنتيهاء شعرتا بدافع هذه المحبة الوحيدة لديهما 
بضرية توجه لهماء وسمعت هذه الكلمات المرعبة: «إن السيدة تحتضرء لقد 
سيب لها السيد الموت: عجلي بحمام ماء ساخن مع الخردل لرجليها!» مما دقع 
جوزيت إلى توجيه اللوم ببعض عبارات استهجان للمولكينيه الذي كان يأكل بلا 
مبالاة ويرود وهى يجلس إلى زاوية المائدة أمام إحدى النوافذ التي يأتي منها 
نور الفناء إلى المطيخ حيث يبدو كل شيء نظيفاً كصالة استقبال صغيرة في 
منزل خليلة شابة. 

«يجب أن ينتهي الأمر عند هذا الحد» قالت جوزيت موجهة النظر إلى 
الوصيف وهي تصعد على طبلية لتئخذ عن رف قدراً نحاسياً يلتمع كالذهب. 
وتابعت: «مامن أم يمكن أن ترى ببرود أباً يتسلى بتبديد ثروة كما يفعل السيد» 

كانت جوزيت وقد اعتمرت بغطاء رأس ذي كشاكش يشبه كستارة بندق 
ألمانية» تحدج لمولكينيه بحدة بدث فيها خضرة عينيها الصغيرتين الحمراوين 
كأنها تقطر سماً. وهر الوصيف العجوز كتفيه لا مبالياً بحركة جديرة بمثيل برم 
لميرابى ثم حشا فمه بشطيرة ماذى بالزيدة والمقبلات» وهى يقول: «كان يجب 
على السيدة بدلاً من أن تزعج السيد أن تمده بالمال» فسنغدى قريباً أثرياء نلعب 
بالذهبء فيجب آلا يضنْ حتى بالقلس الذي لانجده .. 


يت 


فرنك؟ إِنّه معلمك ويبدى أنك واثق من نتامئج أعماله وتصرفاته 

«أنت لاتفهمين من هذا الأمر شيئاً ياجوزيت؛ إذهبي إلى تسخين ماتك» 
أجاب الفلمندي مقاطعاً الطباخة. 

إن فهمي يعي أن هذا المكان كان يحوي ألف مارك() من الفضيات 
فالدينار بين أيديكما يغدى درهماً بحيث لاتبقيان على شيء. 

- وتدكلت مرتا قائلة: «والسيد سيسيب الموت السيدة ليتخلص من امرأة 
تردعه وتمنعه من أن يبتلع كل شيء؛ لقد ركبه الشيطان هذا واضم! إِنّك 
تجازف بروحك وأنت تساعدة يامولكينية, هذا إن كان لك رمح إِذ أنني أراك 
كقطعة جليد بينما كل من هنا يتفطّر حزناً وأسى وهاتان الآفستان تبكيان 

- إن سيذي قد كلفني بترتيب بعض الأشياء في المخبرء وحي اسكرشن 
بعيد جداً عن هناء فاذهبي إليه أنت. 

ََ انظروا هذا المسخ! قالت مرتاء «ومن يغسل للسيدة رجليها؟ أتريد 
تركها تموت؟ فالدم يفور في رأسها. 

كانت مرغريت قد دخلت إلى المطبخ من الغرفة المجاوزة وقالت: 
«مولكينيه, عليك عند العودة من استدعاء الأب دي سوليسء أن تمر على الطبيب 
بييركن ترجوه أن يحضر سريعا إلى هنا. 

«آلا تذهب الآن؟!» قالت جوزيت. 

- «لقد طلب في سيدي» يباآنسة: أن أرتب له مخيره» أجاب لموأكينيه وهو 
يلتفت إلى الإمرآتين بنظرة متحدية 

- توجهت مرغريت إلى والدها وقد رأته ينزل السلّم: «ألا يمكنك ياوالدي 
أن تتخلى لنا عن لمولكينيه الآن لإرساله في مهمة إلى المدينة؟. 


)١(‏ المارك: ورن قديم يعادل هلا. 54 ؟ غرام. 
5 


قالت مرتا وهي تسمع السيد كلايس يطلب من لموأكينيه الاستجابة لطلب 
ابنته «ستذهب الآن أيها الصيني الخبيث!» 

قلة وفباء الوصيف للمنزل كانت موضوعاً مستمراً للجدل بين المرأتين 
ولمولكينيه الذي كان يثير ببروده تعلّق جوزيت والمربية بسيدتهما. وقد أثّر هذا 
الصراع على صغاره ظاهرياً على مستقيل العائلة, عندما احتاجت فيما بعد إلى 
المساعدة ضد نوب الدهر. كان بلتزار شارداً بحيث لم يلحظ الحالة المرضية 
لجوزفين» وقد أخذ جان على ركبتيه وجعله ينط بحركة آلية وهى يفكر بالمشكلة 
التي أصيح بمقدوره حلّها؛ وقد رأى زوجته تعالج بحمام مياه ساخنة لرجليهاء 
ولاتستطيع أن تنهض عن الأريكة التي استلقت عليها في غرفة الجلوسء كما 
لاحظ ابنتيه تهتمان بأمهما دون أن يفتش عن سبب هذه العناية المشددة» 
وعندما أراد حجان أى مرغريت الكلام. طلبت منهما السيدة كلايس الصمت 
مشيرة إلى بلتزار. كان طبيعياً لمشهد مماثل أن يدفع مرغريتء الموجودة بين 
أبيها وأمهاء وهي في عمر يمكّنها من الحكم على السلوكء أن تفكّر في هذا 
الوضع مليًاً. إن الحياة الخاصة للعائلات تمر بفترة يصبح الأولاد فيها إرادياً أو 
لا إرادياً حكّاماً على ذويهم؛ وقد أدركت السيدة كلايس حراجة هذا الوضع, 
ودفعها حبها لبلتزار إلى أن تبرر أمام عيني مرغريت مايبدى في ذهن فتاة في 
السادسة عشر من عمرهاء زلأت للأب. هكذا فإن الاحترام العميق الذي أبدته 
السيدة كلايس في ذلك الظرف ابلتزار وهي تنزوي أمامه, كي لا تعكّر تأملاته'قد 
وْسّمِ بطايع من الرعب جلال الأبوة في تفوس الأولاد؛ لكن هذا التفاتيء أيَا 
كانت عدواه؛ قد زاد إعجاب مرغريت بأمهاء التي تشاركها بصورة خاصة 
أحداث الحياة اليومية هذا الشعور كان قائماً على نوع من التنبق بالآلام التي 
اهتمت القتاة طبعاً بمعرفة سببها؛ وما من قوّة بشرية تستطيع أحياناً أن تحول 
دون تسرب كلمة من مرتا أى جوزيت فتكشف لمرغريت عن أصل المشكلة التي 
يغوص فيها البيت منذ أربع سنواتء وبالرغم من تكتّم السيدة كلايس فإن ابنتها 
أخذت تلم شيئاً فشيئاً؛ وببطء؛ وخيطاً بعد خيط؛ بالشبكة الغامضة اتي تلف 


ات 


هذه المئساة العائلية؛ وهكذا أصيحت مرغريت: يعد فترة معينة موضع ثقة أمّهاء 
وتلك التي يُخشى أكثر مايكون حكمهاء لذلك وجّهت السيدة كلايس إليها كل 
عنايتهاء لتجرب أن تغرز فيها معنى تضحيتها لبلتزار» فحزم وتعقل ابنتها يُدبان 
في نفسها القشعريرة لمجرد التفكير بإمكان قيام صراع بين مرغريت وبلتزار, 
عندما ستكون الابتة رية البيت بعد موت الأم؛ فهذه المرأة البائسة وصلت إذا 
إلى التخوف من عقابيل موتها أكثر من خوفها من الموت نفسه؛ وتجلّى اهتمامها 
ببلتزار في قرار اتخذته يقوم على أن تحرر أملاك زوجها من الرهن»: فتؤمن له 
الاستقلال. وتتقي كل نزا ع مستقبلي بالفصل بين مصالحه ومصالح أولاده: 
وبذاك تأمل أن تراه سعيداً حتى اللحظة التي يغلق الموت فيها عينيها؛ كما 
اعتمدت على أن تورث ايتتها رقة قلبها فتتابع من يعدهاء قرب والدهاء لعب دور 
ملاك الحب؛ بممارستها على العائلة سلطة وصائية ومحافظة؛ أليس في ذلك 
انعكاس حبّها من أعماق القبر على أولئك الذين تحبهم؟ غير أنْها لاتريد أن يفقد 
الأب الحظوة في عيني ابنته ياطلاعها في وقت مبكر على مايثيره هوس بلتزار 
العلمي من مخاوف لديهاء إِنّها تدرس روح وطبع مرغريت لتحكم عما إذا كانت 
هذه الشايّة ستغدى من تلقاء نفسها أماً لأخويها وأختهاء وعوضاًء عن الزوجة 
الرقيقة الحنون لوالدها؛ وهكذا كانت الأيام الأخيرة للسيدة كلايس معكّرة بهذه 
الحسابات والمخاوف التي لاتستطيع أن تفشي سرها لأحد؛ وقد اندفعت 
بشعورها أنْ حياتها بالذات قد تأثرت بالموقف الأخيرء إلى توجيه نظرها إلى 
المستقبلء قبلتزار من الآن قصاعداً, لايعير اهتماماً لكلّ مايسمى اقتصاد أو 
ثروة أو عواطف عائلية وهى منصرف لإيجاد المطلق. 

لم يكن يقطع الصمت العميق الذي يسود غرفة الجلوس إلا الحركة 
الرتيبة لرجل كلايس التي استمرّت في اهتزازها دون أن يلاحظ أن جان قد نزل 
عنها؛ وكانت مرغريت الجالسة قرب أمها ترقب وجهها الشاحب والمتشنجء تلتفت 
من وقت إلى آخر نحو والدها وقد أدهشها جمود عاطفته؛ ومن ثم ستمع صرير 


ل 


البوابة المطلة على الشارع وهي تفتح وتغلقء ورأت العائلة الأب دي سوليس وهو 
يجتاز القناء مستنداً إلى ذراع ابن أخيه. 

«آهء هوذا السيد امانويل» هتفت فليسيا. 

- «الشاب الطيب» تسرني رؤيته ثانية» قالت السيدة كلايس وهي ترى 
إمانويل دى سوليس. 

تورّد خدا مرغريت وهي تستمع للمديح الذي بدر من أمهاء فمنذ يومين 
أيقظ هذا الشاب في قلبها عواطف لم تكن تعرفها من قبلء وأحيا قي ذهنها 
خواطر كانت هامدة حتى الآن. لقد مرت خلال الزيارة التي قام بها المعرف 
لتائبنه بعض هذه الأحداث التي لاحس يها لكنها تلعب دورها في الحياة؛ 
ولنتائجها أهميّة تتطلب اظهار صورة هاتين الشخصيتين الجديدتين اللتين 
ظهرتا في محيط العائلة. كان من مبادىء السيدة كلايس أن تتم سراً طقوس 
ورعها الديني في الاعتراف والتناولء وكان مرشدها الروحي غير معروف تقريباً 
في وسطها العائلي: فهذه هي المرة الثانية فقط التي ظهر فيها في بيتها. وقد 
أثار مظهر العم وابن الأخ فيهاء كما في التي سبقتباء إحساساً بالعطف 
والإعجاب؛ فالآب دي سوليس عجوز في الثمانين من العمرء ذى شعر فضي» 
يظهر وجهاً مهزماً كأن الحياة غارت من عينيه. وهى يمشي بصعوبة: إذ أن 
إحدى ساقيه النحيلتين تنتهي بقدم مشوهة بشكل مرعب؛ وهي موضوعة في 
غلاف مخمليء وتلزمه باستعمال عكاز عندما لايستند إلى ذراع ابن أخيه. ظهره 
المقوس وجسمه اليابس يظهران طبيعة متاآمة وواهية» تسيطر عليها إرادة من 
حديد وروح دينية طاهرة حافظت عليها. هذا الكاهن الاسبائي الأصل المتميز 
بمعرفة عميقة وورع حقيقي؛ ومعلومات شديدة السعة كان على التتابع 
دومينيكياً. ثم مرشداً روحياً في طليطلة: فوكيلاً عاماً لبطريركية مالينء ولولا 
الثورة افرنسية لأوصلته حماية آل كازا ‏ ريال» إلى أعلى المراتب الكنسية» لكن 
الحزن الذي خلّفه موت الدوق الشابء تلميذه جعله يسام الحياة العامة, 
وينصرف بكليته إلى تربية ابن أخيه؛ الذي تيتّم في سن مبكّرة. وخلال غزى 


مات 


بلجيكة استقر قرب السيدة كلايس» وقد أظهر منذ شبابه حماساً للقديسة تريز 
قادف مع ميل في تفكيره: إلى الناحية الروحية في المسيحية, وقد وجد فى 
الفلاندر حيث للآنسة بورنييون(١)‏ وكذاك للكتاب أصحاب الرؤيا والمتصوفين 
الطمانينيين) كثير من الأتباع. مجموعة من الكاثوليكيين أولعت يمعتقداته 
واعتبرته بطريركالها فعاش بينهم مستمراً واياهم على اتباع مذهب المتصوقين 
رغم التحريم الكنسي لمؤْلّقات السيدة غيون!) وفنيلون!'). كان صارماً في 
عاداته. ومثالياً في حياته» وقد عرف عنه أنه قدمرٌ بحالات إشراق“)؛ وبالرغم 
من الزهد الذي ينظر به كورع شديد التدين إلى أمور هذا العالم» قإن الحب 
الذي يكئه لابن أخيه جعله يهتم بمصالحه؛ وعندما يتطلب الأمر البذل لإحسان, 
فإن العجوز يحرّض المؤمنين في كنيسته على المساهمة بسخاء قبل أن يلجا إلى 
ورجاحة فكره التى لاتضلء مايدفع الجميع إلى تلبية مطاليه أما التباين بين العم 
وابن أخيه فهو أشيه بالفرق بين شجرة السوحر العجفاء تمد جذورها ترتشف 
الحياة من ضفة التهر وطرد النسرين يمرع بالورد ويسامق بفرعه الزاهي 
السماء وهى يلف الشجرة المطحلبة يحول بينها وبين الإنهيار. 

ربّى العم إمانويل بقسوة. واحتفظ به قريه كما تحتفظ السيدة المسئة 
بالعذراءء فامتلؤت تقس الشاب بهذه الحساسية السريعة الاتفعال؛ وهذه اليراءة 
)١(‏ انطوانيت بورنيون: فتاة من ليل ولدت في العام :١1717‏ وكانت شديدة الدمامة؛ اعتزلت 
الناس منذ صقرها وانصرفت إلى قراءة كتب التصوف والرؤياء تجولت في الفلاندر والمانية 
حتى موتها في العام ١14٠‏ وألفت ما لايقل عن اثني وعشرين كتاباً في التعيّد الداخلي 
والتصوف. 
(؟) الطمانينيين: اتباع مذهب يرى أن الكمال يقوم على حب الله وسكون الروح 
(؟) مدام غيون (1744-/10/19): كانت امرأة رائعة الجمال؛ ترملت وهي في الثامنة 
والعشرين؛ واتصرفت إلى حياة الزهد والتصوف. 
() فنيلون :)١71١ - ١751١(‏ رجل دين وتربية» كان مربياً لدوق دي بورغوني؛ عارض بيانه 
(5) الاشراق: حالة يغيب فيها المتصوف عن الشعور وهالم الحس. 


هاه 


نصف ااحالمة» أزهار تمر على جميع الشباب لكنها ترسخ في النفوس التي 
تتغذّى بالمبادىء الديتية. لقد حشد الكاهن الشيخ خلاصة العواطف المثيرة لدى 
تلميذه فأعده لتحمل آلام الحياة بمشاغل متواصلة: ونظام أشبه بنظام الأديرة. 
هذه التربية التي من شأنها أن يطل منها إمانويل بكامل جذته على المجتمع, 
فينعم بأوائل عواطف الود إن لقي الطيبة؛ أضفت عليه مظهراً ملائكياً أكسب 
شخصيته جاذبية تسحر اافتياتء فعيناه الخجلتان يتضاعف بريقهما بالثعبير 
عن نفس قوية شجاعة فيرف ألقهما في الروح كرنين تموؤجات صوت البلور في 
السمع: ووجهه المعبر رغم انتظامه يستلفت النظر يحسن استدارته» ودقة 
تقاسيمه. والهدوء العميق الذي يكسب القلب الطمأنينة. كل شيء فيه متناسق, 
شعره الأسودء وعيناه وحاجباه بدكنتهما السمراء تبرز بياض بشرته وتلوتها 
النضرء في صوته عذوبة متوقعة عن هذا الوجه الجميل» وحركاته الأنثوية تتوافق 
مع موسيقى صوته؛ والصفاء الحنون في نظرته؛ ويبدو أنه يجهل الجاذبية التي 
يثيرها التحفظ شبه الكئيب في موقفه. والاعتدال في كلامه, والعناية المغلّفة 
بالاحترام التي يحيط بها عمه؛ فبرؤيته يدرس المشية المتعرجة للكاهن العجوز 
ليتلامم مع انعطافاته المؤلة بطريقة لاتعاكسه؛ ويتطلع إلى البعيد ليتقي مايمكن 
أن يسبب الأذى لقدميه» وليقوده في المنحى السائب يسنحيل عدم الإقرار بما 
في نفس إمانويل عن عواطف كريمة تجعل من الإنسان كائناً سامياً. إنه يبدو 
كبيراً بمحبته لعمه دون أن يحاسبه. وبإطاعته له دون مناقشة وبالاسم العذب 
الذي أطلقته عليه عرابته قرأى كل انسان فيه قدراً محبباً له؛ وعندما يفرض 
الغجوز هيمنته كدومينيكي سواء في منزله أولدى الآخرينء فإن إيمانويل يرفع 
رأسه أحياناً بشهامة كأنه يحتج على قوته إن وجدت في صراع مع رجل آخرء 
بحيث أن أصحاب القلوب الكبيرة ينتابهم التأثرء مثلهم مثل الفنانين أمام تحفة 
متميزة, فالعواطف الطيبة ترن أصداؤها في الروح أمام التصرفات الحيّة كمثل 
رنينها أمام إنجازات الفن. 

كان إيماتويل قد رافق عمه عندما حضر لدى المؤمنة بورعه ليفحص 


ةوه - 


لوحات منزل كلايسء وعندما تلقت مرغريت من مرتا نيأ وجود الأب دي سوليس 
في الصالة الكبرى: تذرعت بتعلّة لترى هذا الرجل الشهيرء ولحقت بأمُها لتشبع 
فضولهاء ودخلت بطيش تقريياً متكلفة الخفة التي تتذرع بها الفتيات لإخفاء 
رغباتهن؛ وصادفت قرب العجوز المكتسي بالسواد, والمنحني الظهرء والأورب؛ 
والشبيه بالجثة, وجه إيمانويل النضر العذب؛ وتلاقت نظرات هذين الشايين 
المتماثظين في فتوتهماء وبراعتهماء معبرة عن الدهشة ذاتها. 

لاشك أن مرغريت وإيمانويل قد تصور كل منهما الآخر في أحلامه؛ فقد 
خفض كل منهما عينيه ثم رفعهما بحركة مماثلة معبراً عن شعور مماثل؛ 
وتناوات مرغريت ذراع أمهاء وحدثتها همساً بوقار. فاحتمت إن صم القول 
تحت جناح الأمومة وهي تمد عنقها بحركة التمٌ لترى إيمانويل الذي بقي من 
جهته يسند عمه بذراعه؛ وبالرغم من أن النور كان مورّعاً بمهارة لتظهر من 
خلاله قيمة كل لوحة؛ فإن ضعفه في الصالة كان ملائماً لهذه النظرات العابرة 
التي هي مصدر غبطة الأشخاص الخجولين. لاشك أنّهما لم يصلا حتى في 
التفكير إلى افتراض التجاوب العاطفيء لكن الاثنين كانا يشعران بهذا 
الاضطراب العميق الذي يهن القلب والذي يحتفظ الشاب بسره لنقسه سواء عن 
متعة أى عن حياء إن الانطباع الأول الذي يحدّد فيض الحساسية الكامنة طويلاً 
يتبعه لدى جميع الشبان دهشة شبه رعناء تماثل تلك التي يشعر بها الأطفال 
عند سماع نغمات الموسيقى لأوّل مرّة؛ فبعض الأطفال يضحكون ثم يفكرون بما 
سمعوه: بينما بعضهم الآخر لا يضحك إلا بعدما ينتابه من تفكيرء لكن أولتك , 
الذين فطرت الروح فيهم لحياة الشعر أى الحب فيستمعون طويلاًء ويطلبون النغم 
مجدداً بنظرة تتقد فيها اللدّة أو يفترٌ عنها التوق إلى اللانهائي. إن كنا نَحِنْ 
باستمرار إلى مرابع طفولتناء وقد فطرنا على الإحساس بجمال النقم؛ بحيث 
نتذكر الموسيقى وحتى الأداة بمزيد من اللذَّة. فكيف يمكننا أن نمنع أنفسنا من 
حب الكائن الذي كشف لنا لأول مرة عن نغمات الحياة؟ أليس القلب الأول الذي 
أوحى إلينا بالحب بمشثابة الوطن؟. كان كل من إيمانويل ومرغريت:؛ أحدهما 


ياه _- اليحث عن المطلق م ٠“‏ 


للآخر ذلك الصوت الموسيقي الذي ايقظ الإحساس. وتلك اليد التي أزاحت 
حجب الغيوم وكشفت عن الشواطىء التي تستحم بها شمس الهاجرة. قعندما 
توقفت السيّدة كلايس مع الكاهن العجوز أمام لوحة لغيد(') تمثل ملاكاً. مدت 
مرغريت رأسها لترى انطباع إيمانويل» وبحث الشاب بعينيه عن مرغريت ليقارن 
فكرة اللوحة ااخرساء بفكرة المخلوقة الحية, أحس كل من الشابين بهذه 
الملاحظة اللاإرادية الفاتتة ونعما بهاء وأطرى الكاهن الشيخ برزانة هذه االوحة 
الجميلة. وتجاوبت معه السيدة كلايس لكن الشابين يقيا صامتين, هكذا تم اللقاء 
بينهماء وقد ساهمت إضاءة الصالة العامة المحاطة بالسرية؛ وسكون المتزل» 
ووجود الأهل في نقش المعالم الحساسة لهذا السراب الضبابي في القلب؛ ثم 
أخذت الخواطر المبهمة التي أمطرت نفس مرغريت تهداء وتجلّت في روحها 
كالمدى الرائق» واصطبغت يشعاع متألق. وها أن تمتم إيمانويل ببعض عبارات 
يستادن فيها السيدة كلايس بالانصراف حتى نشر هذا الصوت ذو النبرة 
العذبة المخملية في قلب مرغريت افتتاتاً غريباًء متمتماً التجلّي المفاجيء الذي 
سيبه إيمانويل والذي سيمرع لمصلحته إذ أن الرجل الذي يستخدمه ااقدر 
لإيقاظ الحبّ في قلب فتاة شابة يجهل غالباً ماقام به من عمل ويتركه غير 
مكتمل. انحنت مرغريت وقد تملكها الذهول وأودعت في نظرتها معالم وداع 
اصطبغ بالأسف لفراق هذه الرؤية الصافية الجذابة فكانت كالطفل الذي مايزال 
راغباً في الاستماع إلى الموسيقى التي أطربته؛ تم هذا الودا ع في أسفل الدرج 
القديم أمام باب غرفة الجلوس وعندما رجعت إلى تلك الغرفة تابعت بنظرها العم 
وابن أخيه إلى أن اجتازا بؤابة المنزل المطلّة على الشارع وأغلقت خلقهما. 

كانت السيدة كلايس منشغلة بمواضيع هامة أثارها االتشاور مع موجهها بحيث 
لم تلاحظ تفير سحنة ابنتها؛ وعندما ظهر الأب دي سوليس وابن أخيه لديها 


)١(‏ غيد )١1787 -١010(‏ هو القثان الايطالي غيدو رئيء وله لوحات عديدة تتمكّل فيها 
مشاهد دينية تظهر فيها صور ملائكة, 


هرة_- 


للمرة الثانية؛ كانت مشوشة بشكل شديد بحيث لم تلاحظ الحمرة التي صبغت 
وجه مرغريت معبّرة عن اختمار الغبطة الأولى التي عمرت قلبها البكرء وتناولت 
الفتاة شغل أبرتها عندما أعلن عن حضور الكاهن وابن أخيه.ء ويدت كثيرة 
الاهتمام بما في يديها بحيث وجهت إليهما التحية دون أن ترفع نظرهاء كما أن 
السيد كلايس رد التحيّة التي وجهها إليه السيد سوليس بطريقة آلية وخرج من 
غرفة الجلوس كرجل منصرف إلى مشاغله. 

جلس الراهب الدومينيكي العجون قرب تائبته, وه يوجّه إليها تلك 
النظرات العميقة التي يسبر فيها غور النفوس» وقد أحس بالكارثة لمجّرد رؤيته 
السيد كلايس وزوجته ‏ قالت الأم «اذهبوا إلى الحديقة ياأولادي؛ وأنت 
يامرغريت أطلعي إيمانويل على أزهار خزامى والدك». 

خرجت مرغريت نصف خجلى وقد أخذت بيد فليسيا وهي تنظر إلى 
الشاب الذي تورّد خدّاه وخرج من غرفة الجلوس ممسكاً بجان تجنباً للارتباك: 
وعندما وصل الأريعة إلى الحديقة انفصل جان وفليسيا وبقيت مرغريت ودي 
سوليس الشاب شبه منفردين فقادته إلى أمام مشتل الخزامى الذي رتبه 
لمولكينيه وفقاً لطريقة العام السايق. 

«أتحب أزهار الخزامىي؟» سألت مرغريت إيمانويل يعد فترة صمت لم 
يجرب الشاب. أن يقطعها. إنها أزهار جميلة؛ ياآنسة: ولأجل محبتها يجب توفّر 
الثوق ومعرفة تقدير الجمال؛ إن هذه الأزهار تفتنني ولاشك أن اعتيادي العمل 
قي الغرفة الصغيرة المعتمة التي أسكن بها قرب عمي جعلتني أفضل كل ماهو 
ناعم على النظر» تأمل مرغريت وهو ينطق بالكلمات الأخيرة؛ لكن دون أن 
تتضمن نظرته المليئة برغبات مضطربة أي تلميح إلى البياض الرائق» والهدوء, 
والأكوان الناعمة, التي تحول هذا الوجه إلى زهرة. 

«أنت إذاً تعمل كثيراً» تابعت مرغريت وهي تقود إيمانويل إلى مقعد من 
خشب ذي مسند دهن باللون الأخضر.» انك من هنا لن ترى أزهار الخزامى عن 
قربء ويذلك لن تتعب عينيك؛ فأنت على حقء إذ أن هذه الألوان تبهر البصر. 


ةا 


- أجاب الفتى بعد فترة صمت كان خلالها يسوي يقدمه رمل الممر: «ماذا 
يشغلني؟ أمور كثيرة» إن أن عمي يريد مني أن أصبح كاهنئأ». 

- أوه! قالت مرغريت يبراءة. 

- لقد قاومت إن لا أشعر أنني مهيأ لذلك» ولقد لزمتني شجاعة فائقة 
لمعارضة رغيات عمي فهى طيّب جداً» ويحبني كثيراً» ولقد دقع عني مؤخراً بدل 
الخدمة الالزامية أنا اليتيم الفقير. 

ماهو توجهك إذاٌ سألت مرغريتء التي يدرت منها حركة بدت وكأنها 
تريد العودة عن سؤالها. ثم أضافت «أرجى المعذرة» ياسيدي: على مابدر مني 
من فضول». 

- «أوةء ياآئسة قال إيماتويل وهى ينظر إليها نظرة تحمل من الاعجاب 
قدر ماتحمل من الون, مامن شخص باستثناء عمي وجه إلي حتى الآن هذا 
السؤال. إنني ادرس لأكون أستاذاً. ماذا تريدين أن أعمل؟ لست غنياً» فإذا 
أمكنتي أن اضيع مدين إعد مدازين الفلاقدان فإنني آقندت بطيفلة متا شتعة 
وسأتزوج امرأة بسيطة أخلص لها الحب. هذا ما آمله في الحياة. ريما لهذا 
السبب أفضل زهرة رييع يراها جميع الناس في سهل أورشي على هذه 
الخزامى المليئة بالوان الذهب والأرجوان والسفير والزمرد التي تمثّل حياة 
مترفة؛ بينما تمكّل زهرة الربيع حياة هادئة وأبوية, حياة الاستاذ القانع الذي - 
ساأكونه. 

- قالت «لقد أطلقت دائماً» حتى الوقت الحاضرء على أزهار الربيع» اسم 
المرغريت» احمر ايمانويل دي سوليس بشدة؛ وفتش عن جوابء وهى يحرك 
الرمل تحت قدميه بعصبية» وقد حار في التعبير عن أي من الأفكار التي تواردت 
على خاطره؛ وقد شعر بحمقهاء وأقلقه تأخره في الجواب فقال: «إنني لا أجرق 
على النطق باسمك ..» ولم ينه عبارته. 

«استان!» تابعت القول. 

- أوهء ياآئسة؛ ساصبح أستاناً ليكون لي مهنة؛ لكنتي سجرب وضع 


6 


مؤلفات تجعلني ذ! فائدة كبيرة» إنني أشعر بميل كبير للدراسات التاريشية. 

00 

كانت هذه الآه مليئة بأفكار مبهمة جعلت الشاب يزداد خجلاً ومن ثم 
أخذ يضحك ببلاهة وهى يقول: «إنك تجعلينني أتكلّم عن تفسيء يا آنسة: بينما 
كان الواجب آلا تتحدث إلا عنك. 

- «إن والدتي وعمك قد أنهيا على ما أعتقد محادثتهما.» قالت وهي تنظر 
نحى توافذ غرفة الجلوس. 

- إذني أرى السيدة والدتك متغيرة كثيراً. 
1 - «إنها تتألّم, وهي لا تريد أن تبيّن لنا سيب آلامهاء ولا يمكننا نحن إلا 

أن نعاني من آلامها.» 

كانت السيدة كلايس في الواقع قد أنهت استشارة حسساسة تتعلق 
بمسألة وجدانية يعود التقرير فيها إلى رأي الأب دي سوليسء إذ أنها توقعت 
افلاساً كاملاً. لذلك أرادت أن تحتفظ دون علم بلتزارء الذي لايهتم كثيراً 
بأوضاعه المالية» بمبلغ معتبر مقتطع من ثمن اللوحات تكقل الأب دي سوليس 
ببيعها في هواندة, وستخبيء هذا المبلغ وتحتفظ به إلى الأيام الصعبة؛ ويعد 
مداولة متروية» وبعد أن قدر الراهب الدومينيكي الشيخ الظروف التي تمر بها 
تائبته أقرٌ لها هذا التصرف الحكيمء وعمل على الاهتمام بعملية البيع التي وجب 
أن تتم سراً حتى لاتؤثر كثيراً على مقام السيد كلايس. 

أرسل العجون ابن أخيه مزوداً برسالة توصية إلى امستردام؛ حيث نجح 
الشاب وقد سسره أن يقوم بخدمة لآل كلايسء في بيع لوحات الصالة إلى 
المصرفيين الشهيرين هاب ودونكر بمبلغ ظاهر مقداره خمسة وثمانون ألف 
دوكات هولندية يضاف إليه مبلغ خمسة عشر ألف دوكات تدفع سراً السيدة 
كلايس. وكانت اللوحات من الشهرة بحيث يكفي لإتمام الصفقة أن يجيب السيد 
كلايس على الرسالة التي وجهها إليه محل هاب ودونكرء وقد كلّف إيمانويل دي 
سوليس من قبل كلايس باستلام ثمن اللوحات التي شحنها سراً ليحجب نبأ 
هذا البيع عن مدينة دواي. 


1.1 


نحى نهاية شهر أيلول سدد بلتزار ديونه؛ وحرر من الرهن أملاكه, 
واستانف أعماله, لكن بيت كلايس تجرد من أجمل زينة فيه, لكن بلتزار وقد 
أعماة فوسه العلمي» لم تبدر عنه أيّة بادرة ندم» وكان يبدى على أتم الثقة بقدرته 
على تعويض بيع الوفاء(') هذا. اللوحات المئة لم تعد تساوي شيئاً في عيني 
جوزفين تجاه السعادة المنزلية وغبطة زوجهاء كما أنها ملأت الصالة باللوحات 
المورّعة في أجنحة الاستقبالء ولتغطية الفراغ الذي بقي في القسم الأمامي من 
المنزل فإنها عملت على تغيير الأثاث؛ وقد بقي لبلتزار بعد أن سدد ديونه نحو 
مئتي ألف قرنك يستطيع من خلالها معاودة تجاربه؛ أما الخمسة عشر ألف 
دوكات الخاصة بالسيدة كلايس ققد ائتمنت عليها الكاهن دى سوليس وابن 
أخيه اللذين باعاها مستغلّين ارتفاع قيمتها خلال الحرب القاريّة وخبأًا حصيلة 
البيع البالفة مئة وستين الف فرتك في قب المنزل الذي يسكنه الأب دي سوليس؛ 
ورأت السيدة كلايس بغيطة حزينة زوجها منصرفاً كلياً إلى تجاربه خلال ثمانية 
أشهر تقريباً؛ غير أنها وقد أصيبت بقسوة من جراء الصدمة التي حدثت لها 
وقعت فريسة داء الدّنّف الذي أخذ يتفاقم بينما كان بلتزار غارقاً في علمه فلا 
التقلبات السياسية في فرنسة:؛ ولا هزيمة نابوليون الأول» ولاعودة آل بوريون إلى 
العرش أمكنها أن تصرفه عن اهتماماته, فلم يعد لا زوجاًء ولا أباً, ولا مواطناً, 
إِنْما هى كيميائي فقط. 

وصل الضتى بالسيدة كلايس نحو نهاية العام 1814: إلى درجة لا 
تسمح لها بمغادرة السرير؛ وام ترد أن تستسلم للخمول في غرفتها التي عرفت 
فيها أياماً سعيدة: حيث ذكريات سعادتها المتلاشية توحي إليها بمقارنات لا 
إرادية مع الحاضر الذي ترزح تحته؛ ففضلت البقاء في غرفة الجلوسء؛ وقد 
استجاب الأطباء ترغبتها عندما وجدوا هذه الغرفة مهواة جيداً. ومفرحة, وأكثر 
ملائمة لوضعها من غرفتها؛ فنصب لها سرير بين المدفأة والنافذة المطلّة على 
)١(‏ بيع الوفاء: هى بيع أشياء ثابتة أى منقولة يتصرف بها الشاري لأجل معين يحق خلاله 
للبائع استردادها لقاء ثمن البيع مضافاً إليه مبلغ متفق عليه. حتى إذا انقضى هذا الأجل 
أصبح البيع قطعياً. 

عا أت 


الحديقة؛ تقضي فيه تلك المرأة التعسة حياتهاء فكانت تشغل أيامها الأخيرة 
بتقوى تزرع في روح ابنتيها اشعاع روحها؛ وقد أتاح الحبُ الزوجي الذي 
ضعف في مظاهره للحب الأمومي أن يتجلى. لقد زادت الأم من لطفها بقدر ما 
تأخّرت في التعبير عنه. وكجميع أصحاب النفوس الكريمة برهنت عن رقة في 
العواطف كأنّها ندامة, فياعتقادها أنّها حرمت أولادها من حنان متوجب لهم, 
كانت تسعى إلى التكفير عن أخطائها المتوهمة؛ فبذلت كل عناية: وكل انتياه 
يغمرهم بالفبطة. لقد أرادت بطريقة ما أن تحييهم في قلبهاء ؛ وتظللهم بجناحيها 
الضعيفقين, وتعوضهم في يوم واحد عن كل الحب الذي لم 3 تمتعهم به في أيام 
سابقة. كانت الآلام تمنح لمداعبتها وكلماتها دفئاً عذباً يفيض عن روحها تسكبه 
عيناها على أبنائها قبل أن تنطق به شفتاها بنيرات ملؤها النوايا الطيبة: يينما 
تبدى يدها وكأنها تمسحهم ببركاتها. 

لم تفاجاً مدينة دويء بعد أن عاد آل كلايس إلى عادات ترفهم السابقة, 
أن يرتدوا الآن عنها؛ تحيط بهم العزلة؛ ولا يطأ دارهم زائر» ويستغنى يلتزار 
عن إحياء حفل ذكرى زواجه؛ فقد بدا للمدينة أن مرض السيدة كلايس يعتبر 
سبباً وجيهاً لهذا التغيّر. كما أنْ تسديد الديون أوقف التقولات السيئة؛ أخيراً 
فإن التقلبيات السياسية التي طرأت على الفلاندر» وحرب المئة يوم» والاحتلال 
الأجنبي. أحاطت الكيميائي كلياً بالنسيان. كانت المدينة خلال هاتين السنتين 
معرضة غالباً للاحتلال» يتعاقب عليها مرة الفرفسيون: ومرة الأعداءء وقد وفد 
إليها كثير من الغرياء؛ ولجأ إليها كثير من الريفيون؛ وحرمت من العديد من 
المصالح وطرحت على بساط البحث فيها العديد من القضايا والحركات والنكبات 
بحيث لم يعد أحد يفكر إلا بتفسه؛ فكان الأب دي سوليس واين أخيه؛ والأخوان 
بييركين الأشخاص الوحيدين الذين يأتون لزيارة السيدة كلايس» وتعرضت 
خلال شتاء 1415 181١‏ لأشد الآلام كرياً؛ ونادراً ما يأتي زوجها لزيارتها 
فيقضي سويعات من بعد العشاء قريهاء ويما أنّها لا تمتلك من القوة مايعينها 
على إجراء محادثة طويلة؛ فإنه لم يكن يتلفظ إلا بعبارة أى عبارتين متشابهتين 


ا 


دوماًء ويجلس ويصمت ويسود في غرفة الجلوس سكون مرعب؛ ولم تكن تكسر 
هذه الرتابة إلا في الأيام التي يقضي فيها الأب دي سوليس وابن أخيه السهرة 
في منزل كلايسء وبينما يلعب الكاهن الشيخ وبلتزار بطاولة الزهر؛ تتسامر 
مرغريت وإيمانويل قرب سرير أمها التي تبتسم لقبطتهما البريئة دون أن تظهر 
كم هي طيبة ومتأللة في روحها المعذبة. كانت نسمة هذا الحب العذري الطرية 
تفيض موجة بعد موجة: وكلمة بعد كلمة؛ وكان تهدّج الصوت الذي يفتن هذين 
اأشابين يحطم قلبهاء والالتفاتة العابرة الذكية إلى المودة السائدة بينهماء تردهاء 
وهي شبه ميتة» إلى ذكريات الأوقات السعيدة الفتيّة التي تنعكس الآن مرارة 
كلها. كان إيمانويل ومرغريت من الرقّة بحيث يكبحان مظاهر الحبٌ العذبة. كي 
لا يسيئا إلى امرأة متاثة يدركان فريزياً مدى عمق جراحها. | 
مامن أحد لاحظ حتى الآن أن للعواطف حياة خاصة بهاء وطبيعة تنيثق 
عن الظروف اأتي تتولد فيهاء فهي تحتفظ بطبيعة الأماكن التي ترعرعت فيهاء 
وبانطباع الأفكار التي أثّرت على نموها. هناك عواطف صيغت باضطرام وتبقى 
مضطرمة كعاطفة السيدة كلايس نحو زوجهاء وهناك عواطف خلقت في جى من 
الحبور فهي دائماً جذلى كاستبشار الصباح فجِنَى الغبطة فيها مترافق دائماً 
بالضحكات والأفراح. لكن يصادف أيضاً حب تغلّفه الكآبة دوماً أى تحيط به 
التعاسة. فمسراته شاقة؛ ومكلفة, ومثقلة بالمخاوف ومسممة بالندم: أى مليئة 
بالقنوط. كان الحب الكامن في قلب إيمانويل ومرغريت دون أن يدرك أحدهما أى 
الآخر أنه الحب؛ هذه العاطفة التي تفتحت تحث قبة صالة كلايس العاتمة أمام 
كاهن عجوز قاس في لحظة صمت وهدوء. هذا الحب الرزين المترويء إِنّما 
الخصب بالتلوتات الناعمة: وبالمباهج الصامتة الشهي كعناقيد عنب اختطفت من 
زاوية كرمة؛ كان يتعرض للون رمادي ومسحة قاتمة اصطبغ بهما منذ الساعات 
الأولى. هذان الفتيان بعدم جرأتهما على إظهار أي تعبير عاطفي واضح أمام 
هذا السرير من الألم كانا يزيدان دون أن يدري من متعة تنطيع في قلبيهما. 
إنها الرعاية التي يحيطان بها المريضة وقد أحب إيمانويل أن يساهم بها وهو 


ع .كام 


سعيد بالانضمام إلى مرغريت وكأنه يعتبر نفسه مسبقاً إبتاً لهذه الأم؛ وهي 
مظهر العرفان الكئيب تفثّر عنه شفتا الفتاة بدلاً من لغة العشاق المعسولة. انها 
آهات قلبيهما يمتلئان فرحاً بنظرة متبادلة» دون أن تتميّز كثيراً عن التنهدات 
التي يقتلعها مشهد الألم الأمومي. كانت الهنيهات الطيبة لاعترافاتهما غير 
المباشرة. ووعودهما غير المكتملة, ويشاشاتهما المكبوتة أقرب إلى هذه الرموز 
التي رسمها رافاييل على أرضية سوداء. كانا كلاهما على يقين لا يقصهان 
عنه. إِنّهما يعرقان أن الشمس فوقهماء لكنهما يجهلان أيّة ريح ستطرد الغيوم 
الكبيرة القاتمة المتراكمة حول رأسيهما؛ انهما يشكان بالمستقبل ويخشيان أن 
تلازمهما الآلام باستمرار؛ فهما باقيان بخجل في ظلال هذا الشفق دون أن 
يجرؤا على التساؤل: هل سننهي سويّة هذا النهار؟ غير أن الحتان الذي 
كانت تبديه السيدة كلايس لأينائها كان يخفي بشهامة كل مايتعلق بها؛ فأولادها 
لا يسببون لها ارتعاشاً ولارغباً. يل هم تعزيتها لكنهم ليسوا حياتها. إِنّها تحيا 
بهم لكنها تموت لأجل بلتزار؛ فأياً كانت المشقة التي تعانيها من وجود زوجها 
شارداً خلال ساعات كاملة؛ يرميها من وقت إلى آخر بنظرة رتيبة» فإنها لاتنسى 
آلامها إلا خلال تلك اللحظات القاسية. إِنْ لامبالاة بلتزار تجاه تلك المرأة 
المحتضرة يبدى إجرامياً للغريب الذي قد يشهده؛ لكن السيدة كلايس وابنتيها 
تعودتا على ذلك, فهن يعرفن قلب ذلك الرجل ويعذرنه؛ وإن تعرضت السيدة 
كلايس خلال النهار لأزمة خطرة:؛ إن تفاقمت حالتها وبدت وكأنها تكاد تنتهي, 
فإن كلايس وحده في البيت وفي المدينة يجهل ذلك؛ فلمولكنيه وصيفه يعرف, 
ولكن لا ابنتيه اللتين تلزمهما والدتهما بالصمتء ولا زوجته: يعلمنه بالأخطار 
المحدقة بالمخلوقة التي كان يهيم بها حباً؛ ففي اللحظة التي يسمع بها وقع 
خطواته في الرواق في موعد العشاءء تنتشي السيدة كلايس, فهي ستراه الآن» 
وتجمع قواها لتستمتع بتلك الفرحة؛؛ وفي اللحظة التي يدخل فيها يدب اللون 
يخرارة في تلك المرأة الشاحبة ونصف الميتة, وتستعيد مظهر الصحة, فتبدو 
بهيئة كاذبة أمام العالم الذي يتقدم إلى قرب سريرهاء ويمسك بيدهاء فهي في 


-1١.مه‎ 


حالة جيدة بالنسبة إليه فقط؛ وعندما يسالها: «كيف أنت اليوم» يازوجتي 
العزيزة»؟ تجيب: «إنني أحسنء ياعزيزي» بحيث تجعل هذا الرجل الشارد يظن 
أنها ستنهض في اليوم التالي معافاة؛ فانشغال فكر بلتزار من الأهمية بحيث 
يخيل إليه أن الداء السائر بزوجته إلى الموت ماهى إلا توك بسيط. إنها 
محتضرة بالنسبة لجميع الناس, لكنها حيّة بالنسبة إليه. كانت نتيجة تلك السنة 
فرقةٌ تامة بين الزوجين؛ فكلايس ينام بعيداً عن زوجته؛ وينهض منذ ا لصباح 
لينحبس في مخبره أو في مكتبه, فلا يعود يراها إلا بوجود ابنتيه أو بحضور 
صديقين أو ثلاثة يعودونهاء وبذلك لم يعد يفكر بها. هذان الكائنان اللذان ألفا 
سابقاً التفكير المشتركء لم يعد لهما إلا نادراً تلك اللحظات من التواصل 
والعفوية والبوح التي هي عماد حياة القلبء وجاء حين انقطعت فيه هذه المباهج 
على ندرتها؛ وكانت الآلام الجسمية عاملاً مساعداً لتلك المرأة المسكينة فأعائتها ' 
على تحمل فراغ وفرقة كانا سيقتلانها لو أنها ماتزال في حيويتها ل كانت 
آلامها من الشدة بحيث كان يسعدها أحياناً ألا يشهدها من تكن له الحب 
الدائم, كانت تتأمل بلتزار خلال فترة من السهرة وعندما تدرك أنه سعيد 
بوضعه؛ فإنها تتعلق بهذه السعادة التي سيبتها له. كانت تكفيها هذه المتعة 
العابرة» فلا تتساط عما إذا كانت ماتزال محبوية: إنما تجهد للاعتقاد بذلك, 
وتنؤلق على تلك الطبقة من الجليد دون أن تجرؤ على الضغط عليها خشية أن 
تحطمها وتغرق قلبها في عدم مريع؛ ولا لم يطرأ أي حادث يعكّر هذا الهدوء وقد 
ساهم الداء الذي ينهش تدريجياً اسيدة كلايس في استقرار هذه الهدأة 
الداخلية يمحافظته على المودة الزوجية في وضع راكد, كان من السهل الوصول 
ضمن هذه الحالة القاتمة إلى الأيام الأولى من العام .١1417‏ 

نحى نهاية شهر شباطء جاء موق العقود بييركين يوجه الضرية التي 
ستودي إلى القبر بتلك. المرأة الملائكية التي وصف الأب دي سوليس روحها بأنها 
بدون خطيئة تقريباً. قال هامساً في لحظة كانت الابنتان بعيدتين بحيث 
لاتسمعان حديثه: «سيدتيء لقد كلفني السيد كلايس بأن استدين له مبلغ 
ثلاثمئة ألف فرنك لقاء رهن أملاكه, فخذي حذرك من أجل مستقبل أولادكم». 


-١ __- 


ضمت السيدة كلايس يداهاء ورفعت عينيها إلى السقف. وشكرت موثق 
العقود بانهناءة متسامحة من رأسها وابتسامة حزينة تأثر منها. كانت هذه 
العبارة بمثابة طعنة خنجر قاتلة لببيتا. اقد انصرفت في ذلك النهار إلى أفكار 
حزينة زادت قلبها انتفاخاً. وجعلتها في إحدى تلك الحالات التي يفقدفيها 
المسافر توازنه» فيتدحرج مدفوعاً بحصاة صغيرة حتى أسفل الهوة التي بقي 
فترة يسير بجرأة على حافتها. عندما انصرف موثق العقود طلبت السيدة 
كلايس من مرغريت أن تحضر لها كل مايلزمها للكتايةء واستجمعت قواها 
وانشغلت لفترة من الزمن في كتابة وصية؛ توقفت مرات عديدة تتأمل ابنتهاء لقد 
حان وقت الاعترافات, فمرغريت بإدارتها للمنزل منذ مرض أمها حققت جيّداً 
الرجاء الذي وضعته المحتضرة فيها بحيث أن السيدة كلايس ألقت نظرة خالية 
من القئنوط على مستقبل عائلتها بعد أن رأت نفسها تُبِعَث في هذا الملاك المحبّ 
والقوي. لاشك أن هاتين المرأتين استشعرتا مسارات حزينة متبادلة بينهما. 
ونظرت الفتاة إلى والدتها في الوقت الذي كانت فيه الوالدة تنظر إليها وترقرقت 
الدموع في عيون الاثنتين؛ فلعدّة مرات» وفي اللحظة التي كانت تتوقف فيها 
السيدة كلايس عن الكتابة هتفت مرغريت.» أيا أمي؟ وكأتها تريد البوح بكلام؛ 
ثم تتوقف وقد اختفت الكلمات في حلقهاء دون أن تسالها الأم المنصزفة إلى 
أفكارها الأخيرة؛ عن سبب استفهامها. أخيراً أرادت الأم أن تختم رسالتهاء 
وكانت مرغريت تمسك لها بشمعة: فتراجعت كي لايدفعها القضول إلى قراءة 
العنوان لكن الأم قالت لها بصوت يتفطر ألمأ: «يمكنك أن تقرئيه ياابنتي» ورأت 
أمّها تعنون الرسالة بهذه الكلمات: «إلى ابنتي مرغريت». وأضافت وهي تضعها 
تحت وسادتها «سنتحدث يعد أن أستريح» وتهالكت على مخدتها وقد أضناها 
الجهد الذي بذلته؛ ونامت لعدة ساعات. عندما استيقظت كانت ابنتاها وابناها 
راكعين أمام سريرها يصلون يحرارة. كان ذلك يوم خميس وقد وصل غابرييل 
وجان للتو من كليتهم يرافقهم ايمانويل دي سوليس الذي عين استاذاً للفلسفة 
والتاريخ. 


.ا 


«ياأولادي الأعزاء. حانت لحظة الوداع؛ لن تتركوني الآن! أنتم» ومن ...» 
ولم تنه كلامها. 

هتفت مرغريت وهي ترى شحوب والدتها: «سيد إيمانويل: اذهب وخبر 
والدي؛ أنْ والدتي قد ساءت حالتها.» 

صعد سوليس الشاب إلى المخبرء ويعد أن أخبره لمواكينيه أن بلتزار 
سيأتي ليحدثه؛ وبعد طلب ملع من الشاب أجاب ملتزان بأنه سينزل 

قالت السيدة كلايس لايمانويل عند عودته: «اذهب ياصديقي مع ولدي 
واحضر لي عمكء إذ أن من الضرودري أن أتتاول القريان الأخير وأريده من يده» 
عندما وجدت نفسها وحيدة مع ابنتيهاء أشارت إلى مرغريت التي فهمت ماتريد 
والدتها فصرفت فليسياء وقالت مرغريت التي أم تكن مقدرة لسوء الحالة التي 
أوصلتها إليها صدمة بييركين: «منذ عشرة أيام لم يبق لدي مال أنفق منه على 
البيت ويترتب علي أجر ستة أشهر للخدم؛ وقد حاولت مرتين أن أطلب دراهم من 
والديء لكنني لم أجسر. ألا تعلمين أن لوحات الرواق والقيى قد بيعت؟! 

«إنه لم يقل لي كلمة تتعلّق بذلك» هتفت السيدة كلايس. «ياإلهي إنك 
تستدعيني باكراً إليكء ماذا سيحل بكم يا أولادي المساكين؟ وراحت في صلاة 
حارة لوّنت عينيها بوميض التوبة» ثم قالت بعد أن تناولت الرسالة من تحت 
ووسادتها: «هوذا وصية لن تفتحيها ولن تقرئيها إلا في اللحظة التي تشعرين 
فيها بعد موتي أنكم في ضيق شديدء أي إذا عن عليكم الخبز هنا. ياعزيزتي 
مرغريت؛ أحبي جيداً والدك» واعتني بئختك وأخويك: خلال أيام وريما خلال 
ساعات ستكونين على رأس هذا البيت كوني مقتصدة: وإن وجدت في موقف 
يتعارض مع إرادة والدك» وهذا مايمكن أن يحصلء إذ أنه أنفق مبالغ كبيرة من 
المال سعياً وراء سر يعود بالمجد والثراء الواسع عليه؛ وسيحتاج دون شك إلى 
مال؛ وقد يسالك شيئاً منه. استخدمي عند ذاك كل حنان الابنة واعرفي كيف 
توفقين بين.المصالح التي ترعينها بمفردك ويين ما يتوجب عليك لوالدء لرجل كبير 
ضحّى بسعادته, ويحياته من أجل شهرة عائلته, لايمكن أن يكون مخطئاً إلا في 


سارى ذأ 


الشكل أما غاياته فثبيلة دائماًء وهى فائق الطيبة:؛ وقلبه ملىء بالحب. سقروته 
دائماً طيباً ومحياًء أنتم! يجب أن قزل لكم هذه العقات وآنا على مطاف القير» 
إذا أردت أن تخففي عني سكرات موتي يامرغريت؛ فعديني ياابنتي أن تأخذي 
مكاني في رعاية والدك: لاتسببي له أي حزن لا تلوميه على شيء؛ لاتدينيه! 
أخيراً كوني وسيطة لطيفة ومتسامحة إلى أن يعود بعد إنهاء مهمته, رأساً 
مدبراً لعائلته. 

- «إنني أفهمك ياوالدتي العزيزة: وسافعل ماتريدينه» قالت مرغريت وهي 
تقبل عيني المحتضرة الملتهيتين. 

- لا تتزوجيء ياملاكيء إلا بعد أن يتمكن غابرييل من أن يحل محلك في 
إدارة شؤون المنزل؛ فزوجك قد لا يقاسمك شعورك ويخلق الارتياك فى العائلة, 
ويسبب الألم لوالدك. ْ 

نظرت مرقريت إلى والدتها وقالت لها: «أليست لك أيّة وصية أخرى تتعلّق 
بزواجي؟ 

- أتترددين ياابنتي العزيزة؟ قالت المحتضرة بذعر. 

- كلا إنني أعد بطاعتك. 

- ياابنتي المسكينة؛ لم أعرف أن أضحي بنفسي من أجلكم, قالت الأم 
وهي تذرف الدموع الحارة» وأنا أطلب منك التضحية من أجل الذين لارشد لهم 
هنا. اعملي بحيث لا يدينني اخواك أو أختك أبداً. أحبي جيداً والدك, 
ولاتعارضيه ...كثيراً. ثم ألقت يرأسها على الوسادة ولم تضف كلمة؛ فقد خارت 
قواها؛ قالمعركة الداخلية بين الزوجة والأم كانت عنيفة جداً. 

بعد لحظات حضر كهنة المدينة يتقدمهم الأب دي سوليسء وامتلات غرفة 
الجلوس بأفراد المنزل» وعندما بدأت مراسم القداس تطلّعت | لسيدة كلايس, 
وقد أيقظها معرفهاء في وجوه الأشخاص حولهاء ولما لم تر بلتزار سألت «أين 
السيد؟». 


داه 


هذه الكلمة كانت تختصر حياتها وموتهاء وقد لفظت بلهجة مثيرة للشفقة 
بحيث أحدثت قشعريرة مروعة في الجمع. 

انطلقت مرتاء رغم تقدّمها في السن, كالشهم وصعدت الأدراج وقرعت 
بعنف على باب المخبر وهي تصرخ بعنف ساخطة: «إن سيدتي تحتضر أيها 
السيدء والكل يانتظارك لإقامة المراسم الدينية». 

«إنني نازل» أجاب بلتزار. 

حضر لمولكينيه بعد فترة: وهى يقول أن سيده يتبعه؛ ولم تفتأ السيدة 
كلايس تنظر إلى باب الغرفة, لكن زوجها لم يظهر إلا بعد أن كادت المراسم 

كان الأب دي سوليس والأولاد يحيطون بسرير المحتضرة» وقد احمرت 
جوزفين وهي ترى زوجها داخلاً وانهمرت بعض دمعات على خديهاء وقالت له 
بعذوبة ملاك دبت القشعريرة في الحاضرين «كنت دون شك, على وشك 
تفكيك الآزوت!» هتف بصوت مرح: «لقد تم ذلك فالآزوت يحوي الاوكسجين 
ومادة ذات طبيعة غير وازنة يحتمل أنها_ميداً ....» 

ارتفعت همهمات استنكار تقاطعه وتعيد إليه حضور بديهته فتساط: 
«ماذا يقال لي؟ أأنت في حالة سيئة؟ ماذا حدث؟» 

«إن ماحدثء أيها السيد» أن زوجتك تموت, وأنّك قد قتلتها» همس الأب 
دي سوليس ذلك في أذنه ساخطاً واستتد إلى ذراع إيمانويل دون أن ينتظر 
جواباً وخرج وقد تبعه الأولاد مودعين حتى الفناء. وبقي بلتزار كالمصعوق وهو 
ينظر إلى امرأته» وقد اغرورقت عيناه بالدموع. 

«تموتين» وأنا قد قتلتك! ماذا يقول؟» هتف صائحاً, 

- ياعزيزي؛ لم أكن احيا إلا بحبك؛: وقد سلبت مني الحياة دون شعور 

- «اتركونا» قال كلاس لإيلايية فني اللحظة التي دخلوا فيها. هل انقطعت 
لحظة واحدة عن حيك؟ قال وهو يجلس قرب سرير زوجته ويأخذ يديها مقبلاً. 


- لاألومك على شيء ياصديقيء لقد جعلتني سعيدة, سعيدة جداً لا 
يمكنني أن أتحمل مقارنة الأيام الأولى ازواجنا التي كانت مترعة وهذه الأيام 
الأخيرة التي لم تكن فيها أنت ذاتك: وكانت خاوية. إن حياة القلب كحياة الجسد 
لها فعالياتها. ومنذ ست سنوات وأنت ميت بالنسبة للحبء والعائلة: وكل ما 
يسبب سعادتناء لن أحدثك عن المباهج التي كانت وقفاً على مرحلة الشبابء إذ 
أنها تتوقف في خريف الحياة لكنها تترك ثماراً تتغذى منها الأرواحء وثقة لا 
حدود لهاء وعادات لطيفة رقيقة» والواقع أنك حرمتنا من كنوز عمرنا هذه. إنني 
راحلة في الموعد المحدد: لم نكن نحيا سويةاياة طريفة: لق أخفيك علي إنعارك 
وتصرفاتك. كيف يمكن إذاً أن تخشاني؟ هل وجهت لك يوماً كلمة؛ أى نظرة أو 
حركة مشوية باللوم؟ لقد بعت آخر لوحاتك, لقد بعت حتى خمور قبوككء لقد 
استدنت من جديد على أملاكك, دون أن تقول لي كلمة, 
آه! إنني! إنني أخرج إذاً من الحياة: كارهة الحياة؛ فإن ارتكبت أخطاء. 
وإن ضللت وأنت تتايبع المستحيلء ألم أظهر لك أنني أكن من الحب مايكفي لأجد 
حلاوة في مقاسمتك أخطائك, وأن أسير دائماً إلى جانبك»حتى لى سرت بي على 
طرقات الجريمة! لقد أفرطت في حبي: هذا هى اعتزازيء وهذا هو ألمي. لقد 
استمر مرضي مدة طويلة يابلتزار! إذ بدأمن هذا المكان الذي سأقضي فيه؛ في 
اليوم الذي برهنت لي فيه أنك تنتمي إلى العلم أكثر من انتمائك للعائلة. هوذا 
امرأتك ميتة» وثروتك الخاصة مستهلكة. إن ثروتك وزوجتك يخصانك ويمكنك 
التصرف بهماء ولكن في اليوم الذي أغيب فيه؛ فإن ثروتي ستؤول إلى أولادك» 
ولايمكنك أن تأخذ منها شيئاً فماذا سيؤول إليه أمرك؟ إنني الآن مدينة لك 
بالحقيقة: فالمحتضرون يرون بعيداً! أين هو من | لآن فصاعداً الثقل الموازن 
الذي سيعدل ذلك الهوى الملعون الذي جعلت منه حياتك؟ إن كنت قد ضحيت بي 
من أجله, فإنّ أولادك سيهونون عليك كثيراً» إن يجب أن أتذكر بالتقدير بأتك 
كنت تفضلني على الجميع. لقد رميت في هذه الدوامة مليونين من الفرنكات 
وست سنوات من عمل متواصلء ولم تصل إلى شيء ....» 


كأ 


عند هذه الكلمات: وضمع كلايس رأسه المبيّض بين يديه وخب وجهه. 

«لن تجد شيئاً إلا الخزي لنفسك, والشقاء لأولادك. إِنّهم الآن يلقبونك 
بسخرية كلايس ‏ السيميائي» وفيما بعد قد تصبح كلايس المجنون! 

أما أناء فإنني مؤمنة بك: أعرفك كبيراً وعالماً. ملؤك العبقرية؛ ولكن 
العبقرية بالنسبة للعوام تشبه الجنون؛ والمجد هى شمس الموتى؛ أما في حياتك 
فستكون تعيساً ككل من أصبح كبيراً» وستدمر مستقبل أولادك. إنني أرحل دون 
أن استمتع بشهرتك التي كانت ستعزيني عمًا فقدته من سعادة. الواقع ياعزيزي 
بلتزار لأجل أن يكون موتي أقل مرارة؛ يجب أن أكون على يقين بأن أولادنا لن 
يفتقدوا قطعة الخبزء لكن لاشيء حتى ولا أنت يمكن أن يهدىء هواجسي. 

أقسمء قال كلايس» أن .... 

لا تقسم ياصديقيء حتى لا تحنث بقسمك. قالت مقاطعة له. لقد وجبت 
لنا عليك الرعاية» وقد حرمتنا منها منذ مايقرب من سبع سنوات. إن العلم 
حياتك؛ والرجل الكبير يجب ألا يكون له زوجة أو أولاد. اذهيوا وحدكم في 
طريقكم إلى الشقاء. 

إن فضائلكم ليست فضائل الناس العاديين. إِنّكم ملك العالم» فلا تعرفون 
أن تختصوا بامرأة أو بعائلة. إِنْكم تمتصون الأرض التي تحيط بكم كما تفعل 
الأشجار الضخمة! أما أنا النبتة المسكينة فلا يمكنني الارتفاع عالياً فأنا أنتهي 
عند تصف حياتك, 

لقد انتظرت هذا اليوم الأخير لأعبر لك عن هذه الأفكار الرهيبة التي لم 
اكتشفها إلا على بريق الألم والقنوط. جنب ذلك أولادي! فلترن هذه الكلمة في 
قلبك! سأقولها لك حتى نفسي الأخير. لقد ماتت الزوجة: ألا ترى ذلك؟ لقد 
جرّدتها ببطء وتدريجياً من عواطفها ومسراتها. للأسف نولا هذه العناية 
الشديدة التي اتخذتها لا إرادياً هل أمكنني العيش طيلة هذه المدة؟ لكن هؤلاء 
الأولاد المساكين لم يهجرونيء لقد كبروا قرب آلامي؛ هكذا صمدت الأم. حافظ. 
حافظ على أولادي». 


ب؟11ك- 


«لولكينيه!» صرخ بلتزار بصوت مدو وظهر الخادم القديم أمامه فجأة. 
«اذهب واتلف كل شيء في الأعلى؛ الماكنات والأجهزة؛ اقعل ذلك بخذر ولكن 
حطم كل شيء. «لقد تخليت عن العلم»» قال موجهاً الكلام لزوجته «لقد فات 
الوقت» قالت وهي تنظر إلى لمولكينيه. ثم هتفت وهي تشعر يبدنى الأجل 
«مرقريت!» وبدت مرغريت على عتبة البابء. وأطلقت صرخة ثاقبة وهي ترى 
عينى أمها تصفرانء وردّدت المحتضرة «مرغريت!». 

حوت هذه الصيحة الأخيرة نداءً ملحاً لابنتهاء انّها تقلّدها سلطة كبيرة, 
فهي بمثابة وصية. 

هرعت العائلة مذعورة: ورأت السيدة كلايس تتلاشى بعد أن استئفدت 
القوى الأخيرة من حياتها في حديثها مع زوجها. وجمد بلتزار ومرغريت في 
مكانهما هي قرب رأس السرير وهى عند نهايته. والاثنان لايمكنهما التصديق 
بموت تلك المرأة التي لايعرف .أحد مثلهما كامل فضائلها وحذانها الذي لاينقد؛ 
وتبادل الأب والابنة نظرة مثقلة بالأفكار: الفتاة قد أدانت أياهاء والأب يرتعش 
إذ يرى في ابنته أداة انققامء وبالرغم من أن ذكريات الحب التي ملأت يها 
زوجته حياته قد عادت بكثرة لتستقر في ذاكرته؛ وتمنح للكلمات الأخيرة للمتوفاة 
سلطة مقدسة يجب الإنصات دائماً إلى صوتهاء فإن بلتزار كان يشك قي قلبه 
الضعيف أمام عبقريته؛ ومن ثم فهى يسمع هدير هوى يرفض فيه قوة تدمه, 
ويجعله يخاف من نقسه. 

عندما غابت تلك المرأة؛ أدرك كل واحد أن لبيت كلايس روحاً؛ وأن هذه 
الروح لم تعد موجودة. هكذا كان الألم على أشده في العائلة, بحيث أن غرفة 
الجلوس التي تخيّم عليها روح جوزفين بقيت مقفلة, فما من انسان يجرؤ على 
دخولها. إن المجتمع لايمارس أيَاُ من الفضائل التي يطلبها من الأشخاص؛ وهو 
يرتكب الجرائم في كل ساعة؛ لكنه يرتكبها بالكلام» وهى يهيء التصرفات السيئة 
بالسخرية كما يحط من قدر الجمال بالهزئ. إِنْهُ يسخر من الأبناء الذين يبكون 
كثيراً آباءهم: ويلعن أولتك الذين لايبكونهم كفاية» ومن ثم فهى يتسلى! إِنّه 


0-111 البحث عن المطلق م -8 


' يتسلى بروز جثمان الموتى قيل أن تيرد. في مساء اليوم الذي قضت فيه السيدة 
كلايس؛ نشر أصدقاء تلك المرأة يعض الأزهار على قبرها بين جلستي لعب 
هويست؛ وقرّظوا محاسنها وهم يبحثون في ورق اللعب على «الكبًا والبستوني»؛ 
ثم بعد عدّة عبارات تثير الدمع التي هي ألفباء الحزن الجماعي والتي تقال 
بالنبرات نفسهاء دون أن تتأثر العاطفة زيادة أى نقصاناً في جميع مدن فرتسة, 
وفي كل ساعة؛ فإِنَ كل فرد أخذ يحسب قيمة ذلك الميراث. كان بييركين أول من 
أبدى المتحدثين عن هذا الحدث أن موت تلك المرأة الممتازة هو أفضل لهاء فقد 
أشقاها زوجها كثيراً» لكنه أفضل بكثير لأبنائها أيضاً» فهي لاتتمكن من ردع 
زوجها الذي تعبده عن تبذير ثروتهاء أما اليوم فإن كلايس لايتمكن من التصرف 
يمالها. راح كل واحد يقدّر تركة السيدة كلايس المسكينة ويخمّن مدخراتها (هل 
ادخرت؟ أولم تدخّر؟) ويحصي مجوهراتهاء ويستعرض ملبوساتهاء ويحسب 
ماتحويه أدراجهاء بينما ماتزال العائلة المحزونة تبكي وتصلي قرب سرير 
المتوفاة؛ وينظرة الخيير الوازن للثروات؛ اعتبر بديركين أن أملاك السيدة كلايس 
التي يمكن أن تحصر الآن يمكن أن تبلغ قيمتها نحى مليون ونصف فرنك وهي 
تتمثّل بغابة وينيي التي ارتفعت قيمة أخشابها في الاثنتي عشر سنة الأخيرة 
ارتفاعاً كبيراًء وحسب الضذمة منها والمنتقاة» والقديمة والحديثة؛ كما حسب 
أملاك بلتزار التي ماتزال ذات مردود بالنسبة لأولاده: إذا لم تمتد لاقتطاعها 
ديون التصفية: فالآنسة كلايس هي إذاء وفقاً لمنطق بييركين دائماً» الفتاة ذات 
الأربعمئة ألف فرنك. لكنه أضاف: «أما إذا لم تتزوج سريعاً وذلك مايؤمن لها 
الاستقلال بأموالهاء وإزالة شيوع غابة وينيي؛ وتصفية حصص القّصر من 
الأولاد واستعمالها بطريقة لايتمكن الآب من التصرف بهاء فإن كلايس رجل 
سيبدد هذه الثروة وهي نصيب أبنائه». 
أخذ كل واحد يتسال عن شباب المنطقة المؤهلين لطلب يد الآنسة كلايس 
ولكن مامن أحد تلاطف مع موثق العقود وافترضه من المرشحين لذلك؛ ووجد 
الموئق بدوره الحجج لرفض الفرقاء المقترحين واعتيار كلا منهم غير جدير 


-11١غ‎ 


بمرغريت:؛ وكان المتحدثون يتغامزون باسمين وقد سرهم إطالة هذه المسامرة 
الاقليمية الماكرة. لقد رأى بييركين في موت السيدة كلايس حدثاً ملائماً لطمعه 
وأخذ يقطع في تلك الجثة لمصلحته. 

قال وهى يأوي إلى منزله «كانت هذه المرأة طيبة لكنها مزهوة كالطاووسء2 
ولاشك أنها لم تكن ترضى بي صهراً لها. هيه! هيه! لماذا لا أناور الآن لأتزوج 
هذه الابنة؟ إن الأب كلايس رجل أسكره الكربون» وهى غير مهتم بأولاده, فإذا 
طلبت منه يد ابنته» بعد اقناع مرغريت بضرورة زواجها بسرعة لانقان ثروة 
أخويها وأختهاء فإن الأب سيكون مسروراً لتخلصه من ابنة تريكه. 

نام وهى يحلم بالمحاسن الزوجية في هذا العقدء ويتامل جميع المغانم 
التي ستؤمنها له هذه الصفقة؛ والضمانات المؤمنة لسعادته التي توفرها هذه 
الانسانة التي سيكون زوجاً لها. إِنْ من الصعب أن يجد في الاقليم شابة بمثل 
رقة جمال وحسن تهذيب مرغريت هي في حلاوتها وتواضعها كتلك الزهرة 
الجميلة التي لم يجرق ايمانويل على تسميتها أمامهاء وقد خشي أن يكشف بذلك 
عن أمنيات قلبه الكامنة. إِنّها أبيّة في عواطفهاء ومتديّتة في مبادئهاء ويستكون 
زوجة عقيفة مخلصة, وهي لن تشيع الطموح الذي يخالج نفس كل رجل تقريباً 
عند اختيار امرأة: إِنّما ترضي أيضاً كبرياء موثق العقود للمقام الكبير الذي 
تحظى به عائلتها في الفلاندر؛ وهي النبيلة الأبوين» وسيقاسمها زوجها هذه 
الحظوة. 

في صباح اليؤم التالي سحب بييركين من صندوقه بعض أوراق النقد 
ذات الألف فرنك وذهب يقدمها يمودة لبلتزار ليجنيه المتاعب المالية وهي الغارق 
الآن في ظروف مؤلمة حزينة» وقد توقّع أن يتأثر بلتزار من هذه الالتفاتة الكريمة 
فيمتدحه مشيداً بشخصه وطيبة قلبه أمام ابنته؛ لكن ذلك لم يحدث؛ فقد وجد 
كلايس وإبنته في ذلك الفعل بادرة بسيطة: وكانت الامها من الحصر بحيث لا 
يخطر بييركين في بالهما؛ والواقع أن قنوط بلتزار كان من الشدة بحيث أن 
الأشخاص المتهيئيين الومه على سلوكه الماضي غفروا له؛ ليس باسم العلم الذي 
يبرّر أفعاله؛ إِنّما لما أظهره من أسف لايعوض مافات. 


ال1١6‎ 


إن الناس يكتفون بالتكشيرء وهم يستدون مما يعطونء دون أن يتحققوا 
من العيار. فالألم الحقيقي بالنسبة لهم مشهدء نوع من المتعة تهيؤهم لغفران كل 
شي؛ حتى المجرم, في نهمه للانقعالات: يقي دون تميين ذلك الذي يضحكه, 
وذلك الذي يبكيه؛ دون أن يسالهم حساباً عن الوسائل. 

كانت مرغريت قد أنهت عامها التاسع عشرء عندما عهد إليها والدها 
بإدارة المنزل: وقد دان أخواها وأختها بورع لسلطتها خاصة وأن أمهم في 
اللحظات الأخيرة من حياتهم قد أوصتهم باطاعة اختهم البكر. بدت في ثوب 
الحداد وقد برن بياضها المتالق: كما أظهر الحزن رقتها وصبرها؛ ومنذ الأيام 
الأولى أعطت برهاناً جليَاً عن هذه الشجاعة الانثوية: وهذه الرصانة الثابتة التي 
يتصف بها الملائكة المكثفون بنشر السلامء وهم يلمسون بسعفهم الخضراء 
القلوب المتئلة. لكن إن تعودت:؛ بإدراكها المبكر لواجباتهاء أن تخفي آلامهاء فإن 
هذه الآلام مافتئت تزداد شدة: والهدوء الخارجي الذي يبدى عليها لايتوافق مع 
عمق أحاسيسهاء وقد قدر لها أن تتعرض في سن مبكرة لهذه ااتفجرات 
الرهيبة في العاطفة التي لايتمكن القلب دائماً أن يحتويها. كان والدها يجعلها 
دائماً منحصرة بين السخاء الطبيعي للأرواح الشابة وصوت الضرورة الملحة, 
فالحسابات التي طوقتها غداة وفاة والدتها جعلتها في نزاع مع مصالح الحياة, . 
في احظة لاتتطلع فيها الفتيات إلا للمسرات. انّها تربية الألم تتعرّض لها دائماً: 
الطبائع الملائكية! 

إن الحب الهادف إلى المال والتفاخر يشكل أكثر الأهواء عناداً؛ وهى ما 
دفع بيركين إلى عدم التأخر في خداع الوارثة؛ فبعد عدة أيام من ملازمة الحداد 
بحث عن مناسبة ليحدث مرغريتء وبدأ عملياته بمهارته يمكن أن تغويها. لكن 
الحبّ أكسب روحه يعد نظر منعه من الاعتماد على مظاهر هي أكثر ملائمة 
للغش العاطقيء وجعله يظهر الطيبة» وهي طبع فيه إِنّها طيبة موثق العقود 
يخال نفسه عاشقاً عندما يفوز بالمال؛ واعتمد على قرابته المشبوهة؛ وعلى عادته 
المالوفة في تسيير أمور تلك العائلة والاطلاع على أسرارهاء وعلى ثقته بتقدير 


ا 


الأب وصداقته له, وتقديره أنه وهى في لامبالاته كعالم لم يخطط لأي مشروع 
مستقبلي لابنته. كما افترض أن مرغريت ليس لديها أي اصطفاء عاطفي. فهيًا 
لتقديرها مسعى لا دور فيه للهوى إلا معتمداً على حسايات لم يستطع حجبها 
وهي الأكثر كرهاً لدي النفوس الشاية؛ وتبين بذلك أنه هى الساذج؛ بينما عرفت 
هي كيف تستخدم المواربة؛ ذلك أنه اعتقد أن من السهل التأثير على فتاة عزلاء 
لم يقن زايا الشؤففة. 

قال لمرغريت وهو يتمشى معها في ممرات الحديقة الصغيرة: «يااينة العم 
العزيزة, إنك تعرفين رقة قلبي» وتعرفين كم أنا مستعد لاحترام العواطف التي 
تخالجك في هذه الفترة. إن روحي الحساسة تؤلمني في مهنتي كموثق عقود, 
فأنا انان ذى قلب يضطر إلى الاهتمام باستمرار بمصالح الآخرين: بيتما 
يجب أن انساق مع العواطف العذبة التي تسكب السعادة في الحياة؛ وهكذا 
فإنتي أتالم كثيراً لاضطراري لمكالمتك في مشاريع تتعارض مع حالتك اانفسية؛ 
إنما يجب ذلك. لقد فكرت بكم كثيراً في الأيام الأخيرة» ولا بد أن أعترف بأن 
نكية شاذة تجعل ثروة أخويك وأختك؛ وثروتك بالذات في خطر. آلا تريدين أن 
تنقذي عائئتك من دمار كامل؟. 

ماذا يجب أن أفعل؟ وهي شبه مذعورة من هذه الكلمات. 

- تتزوجين: أجاب بييركين 

- لن أتزوج مطلقاً هتفت. 

- ستتزوجين عندما تفكرين بوعي في الوضع الحرج الذي أنتم فيه 

- وكيف يمكن لزواجي أن ينقذ... 

هذا ما انتظره متك ياابنة العم, إن الزواج يمنحك حقّ التصرف. قال 


م 


مقاطعا 
- ولماذا أسعى إلى هذا الحق؟ سيألت مرغريت. 


ل/اكآك- 


- ليمكنك التملك؛ ياابنة العم الصغيرة: قال موثق العقود يلهجة المنتصر, 
وتابع «وفي هذه الحالة يحق لك بيع غابة وينيي لإزالة الشيوع وبالتالي قجميع 
نيم الميراث تحول إلى رأس مال نقدي وسيضطر والدك كوصي أن يضع أنصبة 
أخويك وأختك بحيث لاتتمكن الكيمياء أن تنال منها . 

- وماذا سيحدث في حال العكس؟ سألت. 

- عند ذلك يدير والدك أملاككم؛ وإذا عاد إلى التفكير بصنع الذهب: 
فيمكن أن يبيع غابة وينيي ويترككم عراة كصغار سان جان. إن غابة وينيي 
تساوي في هذا الوقت نحى مليون وأريعمئة آلف فرنكء؛ ولكن مابين ليلة وضحاها 
قد يقطع والدك أخشابها فلا تعد الألف وثلاثمئة أرينت من الأرض العارية 
تساوي أكثر من ثلاثمئة ألف فرنك. أليس من الأحسن تجتب هذا الخطر المؤكد 
تقريباً» بأن تعجلي باستحقاق القسمة بحقك في التصرق؟ إنك تنقذين بذلك 
القاية من القاع الذي شيوجلهزن لله كنه يدق الخنزي يك دي هك الفترء ة التي . 

تروح الكيمياء فيها في سسبات,. سيضطر والدك قطعاً لوضع أموال التصفية في 
التسليف لأمد طويل, والقيمة الاسمية حالياً هي تسعة وخمسون وهكذا 
سيحصل هؤلاء الأولاد الأعزاء على ريع خمسة آلاف ليرة لكل خمسين ألف 
فرنك» ويما أنه لا يمكن التصرف في رأس مال القصر فإن أخويك وأختك 
سيجدون عند بلوغهم سن الرشد أموالهم وقد تضاعفت.!بينما في الحالة 
المغايرقفواقع الأمر... كما رأيت في السابقء فإن أباك قد أنقص أملاك والدتك, 
وستعرف مقدار 0 ل فإن ظهر عجن يمكنكم أن تضعوا إشارة الرهن 
على أملاكه؛ ويذلك تنقذون شيئاً ما , 

-«أف. إن في هذا د تحقيراً لأبي» والكلمات الأخيرة لأمي لم يعف عليها 
الزمن بحيث لا أتذكرها الآن. إِنْ أبي لا يمكن أن يسلب أولاده؛ إِنّك تتنكرٌ له يا 
سيد بييركين». قالت وقد ترقرقت بعض دموع الألم في عينيها. 


-1١١م-‎ 


- لكن» يا ابنة العم العزيزة: إن عاد والدك إلى الكيمياء ف... 

#سَيكل يخا الدمان الف هنذا ها قر 3و4 

- أوهء الدمار الكلّيء صدقيتيء يا مرغريت: قال وهو يأخذ يدها ويضعها 
على قلبه: «إنني أشعر انني مقصر في واجبي إذا لم أصر على ذلك؛: ومصلحتك 
وحدها...» قالت مرغريت بمظهر بارد وهي تسحب يدها: «أيها السيد؛ إن 
مصلحة عائلتي بالطبع تتطلّب آلآ أتزوج؛ لقد حكمت أمي بذلك.». 

ابنة العم! صاح بيقين رجل المال الذي يشهد ثروة تضيع من يديه: «إنك 
تنتحرين أنّك ترمين في البحر إرث إمك. الواقع سابقى وفياً للصداقة الخالصة 
التي أكتّهالك! إنك لا تعلمين كم أحبك؛ إنني أعبدك منذ اليوم الذي رأيتك فيه 
خلال حفلة الرقص الأخيرة التي أقامها والدتك! لقد كنت رائعة؛ ويمكنك أن 
تفخري بصوت القلب عندما يتحدث عن المصلحة يا عزيزتي مرغريت؛ ويعد أن 
توقف لحظة قال: «نعم سندعى إلى مجلس عائلة, وسنعمل على منحك حق 
التصرّف دون استشارتك». 

- لكن ما معنى حق التصرّف؟ 

- إِنّهِ حقّ حيازة أموالك وإدارتها. 

إذا كان بالإمكان منحي هذا الحق دون زواج: فلماذا تريدني 
أتزوج؟ ومع من؟ 

جرب بييركين أن تحمل نظرته إلى ابنة عمه مسحة من التدلّة لكن هذا 
لين يمافعرو دم تعجر مين ادن صودا جسن الككازي دمع امال مصيية 
أن مرغريت لم تجد في هذا الود غير المتوقّع إلا سعياً إلى مصلحة. 

- ستتزوجين الشخص الذي سيعجبك في هذه المدينة... إن الزنوج 
ضروري إك؛ على الأقلّ من وجهة نظر المصلحة؛ فأنت ستواجهين والدك؛ فهل 
ستتمكنين من الصمود منفردة؟ 

- «نعمء أيّها السيدء سأعرف كيف أدافع عن أخوي وأختي عندما يقتضي 
الأمر ذلك». 


جع 
إذا ان 


1194ل 


«يا للمدعية المزعجة! قال بييركين في نفسه قبل أن ينطق بصوت عال: 
«كلا ان تتمكني من الصمود أمامه.» 

- فلئنه هذا الموضوع» قالت بحزم. 

- وداعاًء يا ابنة العم, سأسعى إلى خدمتك بالرغم عنك: وسابرهن لك 
عن حبي بحمايتي لك ضد نكبة يتوقعها جميع الناس في المدينة. 

- إنني أشكرك على ما أبديته لي من اهتمام لكنني أرجوك ألا تقترح أو 
تعمد إلى أي إجراء يسيب أيّة مضايقة لوالدي.». 

بقيت مرغريت مستغفرقة في التفكير وهي ترى بييركين يبتعدء وقارنت بين 
صوته الذي يرن مصلحة:؛ وطرائقه المشابهة للنوابض في مرونتهاء ونظراته 
المصبوغة بالتذلل أكثر منها بالرقة وبين عواطف إيما نويل التي تتسريل بشجو 
يتغتّى بغزل مكتوم صامت. مهما حدث ومهما قيل يوجد نوع من مغناطيسية 
مدهشة لا تخفى نتائجها أبدأ؛ ورئّة الصوت والنظرة: وحركات الرجل المحب 
المشبوهة العاطفة يمكن تقليدها؛ ويمكن لممثل بارع أن يخدع إحدى الفتيات» 
لكن لأجل أن ينجح ألا يجب أن يكون وحيدا؟ إذا كان إلى جانب تلك الفتاة روح 
تهتز متوافقة مع عواطفهاء ألا تتعرّف سريعاً على تعابير الحبّ الحقيقي؟ إن 
ايماتويل في تلك الفترة» كمرغريت» واقع تحت غيوم شكّلت منذ لقائهماء قضاء 
وقدراً» جواً قاتماً فوق رأسيهما يحجب عنهما منظر سماء الحبّ الزرقاء. فتدلهه 
نحى صفيته يزيده ضعف الأمل حلاوة وغموضماً في مظاهره الورعة» فالفرق في 
المستوى الاجتماعي شاسع بينه ويين الآنسة كلايس. وليس له وهو الفقيرء إلا 
اسم جميل يقدمه لهاء وهو لا يرى أيّة بارقة حظا في قبوله زوجاً لها. لقد انتظر 
دائماً بعض تشجيع أبت مرغريت أن تمنحه له تحت أنظار المحتضرة الخائرة. 
والاثنان بطهرهما المتكافىء لم يتبادلا حتى الآن أية كلمة حب؛ وغبطتهما هي 
تلك الغبطة الأنانية التي يضطر التعساء إلى القناعة بها منفردين. لقد ارتعشا 
منفصلين بالرغم من أنَّهما قد تأكّرا بقبس ينطلق من رجاء واحد؛ ويبدؤ أنهما 
يخافان من نقسيهماء بإحساس كل منهما جيّداً بشعور الآخرء فإيمانويل يرتعد 


بط - 


عندما يلمس يد مليكته التي جعل قلبه صومعة لهاء وأي تماس يينهما مهما كان 
. شأنه يبعث في نفسه أحاسيس كثيرة الإثارة بحيث لا يتمكن من السيطرة على 
آهوائه الجامحة. لكن بالرغم من أنه لم تيدر منهما أيّة دلائل عايرة أو 
مستفيضه: بريئة أى جادة: مما يجيز بها لأنفسهم حتى العشاق الأكثر حياء, ش 
فإن كلا منهما يتريع في قلب الآخرء وكلا منهما يعرف أنه مستعد لبذل أكبر 
التضحيات بالنسبة للآخرء وفي ذلك المسرات الوحيدة التي يمكن أن يتذوقاها. 

منذ وفاة السيدة كلايسء؛ اختنق حبهما الخفي تحت ألبسة الحداد» 
وتحول الج الذي يعيشان فيه من اللون الرمادي إلى اللون الأسودء وانطفات 
النضارة المشرقة بالدموع: وتبدل تحفظ مرغريت إلى شبه برود إذ أنها حرصت 
على الوفاء بقسمها لأمهاء ويالرغم من أنّها أصبحت أكثر حبرية من ذي قبل 
فإنهًا غدت أكثر تصلباً؛ وقد التزم إيمانويل بحداد حبيبته مدركاً أن أيّة أمنية 
حب وأيسط مطلب يعتبر خيانة لشرائع القلب: وهكذا غدا هذا الحب الكبير 
خفياً أكثر من ذي قبلء وهاتان الروحان الناعمتان يصدر عنهما النغم ذاته ولكن 
تباعد بينهما الآلام. كما باعدت من قبل مظاهر حياء مطلع الشباب ثم احترام 
معاناة المحتضرة؛ لقد اقتصرا على لغة العيون الساحرة» والفصاحة الخرساء 
للتصرفات الوفية: وترابط ملتزم؛ وتالقات شباب سامية هي خطوات أولى لحب 
في طفولته. كان ايمانويل يأتي كل صباح ليستفقد كلايس ومرغريت. لكنه لا 
يدخل إلى غرفة الطعام إلا عندما يحمل رسالة من غابرييل أى عتدما يلح عليه 
كلايس للدخولء وتخلق النظرة العابرة الأولى نحى الفتاة في نفسه ألف فكرة 
مليئة بالود, ويعاني مما تتطلبه المناسبة من احتشام لا يتخلى عنه» فيقاسم 
البيت حزنه؛ وينثر أخيراً ندى دموعه في قلب صديقته بنظرة لا يخالجها أي 

هذا الشاب الطيب ارتضى العيش في الحاضر متعلقاً بسعادة يظن أنها 
عابرة حتى أن مرغريت تلوم نفسها أحياتاً لأنها لم تمد إليه يدها بسماحة قائلة 
له: «لتكن أصدقاء». 


15م 


استمر بييركين في هواجسه بذلك العناد المماثل للصبر الفطري لدى 
الحمقى. إِنْه يحكم على مرغريت وفق القواعد العادية التي ينظر بها الجمهور 
إلى النساءء لقد اعتقد أن كلمات الزواج؛ والحريّة» والثروة التي همس بها في 
أذن الفتاة ستنتث ستنتش في روحها وستزهر عن رغبة سيستفيد منهء وتصور أن 
برودها تستر وموارية؛ لكنه بالرغم من إحاطتها بعناية واهتمام رقيقين. لم 
يتمكن من حجب طرائقه الطاغية التي ألفها كرجل تعرّد أن يبت في المشاكل 
الكبرى المتعلقة بحياة العائلات, كان يتحدث لمواساتها يتلك الأقوال المبتذلة 
المألوقة لدى أبناء مهنته, ويلتف كالحلزون حول الاآلام تاركاً عليها سف ف 
عيارات جافة تزيل عنها قداستها؛ فرقته تملّق وهى يترك كآبته المختلفة على 
البابء عندما يستعيد حذاءه المضاعف أو مظلته. ويستخدم لهجة تتيحها له دالته 
الطويلة كأداة ليثبت مكانة في قلب العائلة وليقنع مرغريت بزواج أشهرّ سلفاً في 
كل المدينة, 
كان الحبّ الحقيقيء والملصء والمبجل يشكل تناقضاً واضحاً مع حب 
آناني محسوب. ما من شيء متجانس لدى كلا الرجلين. أحدهما يختلق هوى ' 
ويتسلّح من مزاياه القليلة ليتمكن من الزواج من مرغريت؛ والآخر يخفي حبه 
ويجبزع إذا انكشف وفاؤه؛ وقد أمكن لمرغريت بعد فترة من الوقت من وفاة , 
والدتهاء وفي اليوم ذاته, المقارنة بين رجلين فقط وَحتى أن تحكم عليهماء فالعزلة 
التي حكمت على نفسها بها حتى الآن لم تسمح لها بالاختلاط بالمجتمع: 
والوضع الذي وجدت قيه لا يسمح بأي منفذ للأشخاص الذين يمكن أن يقكروا 
بطلب الزواج منها بإجراء ذلك. ففي عصر أحد الأيام الجميلة من شهر نيسان: 
حضس إيمانويل بعد الغداء. في اللحظة التي خرج فيها السيد كلايس الذي 
تضايق من مسحة الحزن المخيمة على بيته وأراد التنرّه لفترة من الوقت حول 
الأسوار؛ وتردد إيمانويل في اللحاق ببلتزار» مستمداً بعض قواه الذاتية» ونظر 
إلى مرغريت ويقي جالساً؛ وخمنت مرغريت أن الأستاذ يريد محادثتها واقترحت 
عليه المجيء إلى الحديقة:وأرسلت أختها فليسيا لتساعد مرتا التي تعمل في 


0 


البهى الواقع في الطابق الأول؛ وذهبت لتجلس مع الشاب على مقعد على مرأى 
من أختها والمريبة العجوز. قال الشاب وهو يرى بلتزار يمشي متمهّلاً في الفناء: 
«إنْ السيد كلايس يبدى غارقاً في الحزن كما كان غارقاً في أبحاثه العلمية. إن. 
جميع الناس يرثون له في المدينة؛ إِنّه شارد كرجل أضاع أفكارهء فهى يتوقّف 
دون سببء ويتطلّع دون أن يرى. 

إِنْ لكل ألم تعبيره الخاصء قالت مرغريت وهي تحبس دموعهاء ثم 
استأئفت بعد فترة توقّف, ماذا كنت تريد أن تقول لي؟. 

أجاب إيمانويل بصوت غلب عليه التأثر: هل لي الحق يا آنسة: أن 
أخاطبك كما فعلت الآن» أرجى أن تتيقني بأن رغبتي هي في أن أكون مفيداً 
لكم؛ ودعيني اعتقد بأن يمكن للاستاذ أن يهتم بمصير تلاميذه إلى درجة القلق 
على مستقبلهم إِنْ أخاك غابرييل قد أتمم الخامسة عشى من عمره؛ وهى في 
الصف الثاني» وبالتاكيد يجب توجيه دراسته وفق ما يتطلع إليه من عمل في 
حياته» ووالدك هى من يجب أن يقرر هذا الأمرء لكن إن غاب ذلك عن ذهنه؛ ألا 
يعود هذا بالضرر على غابرييل؟ ألا يعتير أيضاً معذباً للسيد والدك إن أبديث له 
ملاحظة عدم اهتمامه بولده؟ وفي هذه الظروف ألا يمكن أن تستشيري أخاك 
حول ميوله؛ وأن تجعليه يختان السبيل الذي عليه أن يسلكه يحيث إن أراد والده 
في المستقبل أن يجعل منه قاضياً أى إدارياً أى ضابطاً وجد لديه المعارق 
الخاصة لذلك. 

إنني اعتقد أنكم لا ترضون لا أنت ولا السيد كلايس ببقاء غابرييل 
عاطلاً... 

- آواه! أبداً» إنني أشكرك يا سيد إيمانويل» فأنت على حقء فوالدتي 


عندما جعلتنا نشتغل بالمخرّمات, وعلّمتنا بمزيد من العناية كيف نرسم؛ ونخيّط. 
ونطرزء ونعزف على البيانى؛ كانت تقول غالباً إنها لا تعرف ماذا يمكن أن يحدث 
في الحياة» وعلى غابرييل أن يكون له اعتباره الشخصي وثقافته الكاملة, لكن 
أي المهن الأكثر تلاؤماً للرجل؟ 


ماما وات 


- قال إيمانويل وقد ارتعش سعادة: «إن غابرييل» يا آنسة: هى في صفه, 
الأكثر ميلا للرياضيات:» فإن أراد أن ينتسب إلى معهد البوليتكنيك؛ فإنني أعتقد 
أنه سيكتسب معارف مفيدة في جميع المهن؛ وسيكون عند تخرجه قادراً على 
اختيار المهنة التي يميل إليها؛ ودون اعطاء حكم مسبق عن مستقبله تكوذون قد 
كسبتم الوقت؛ فخريجى ذلك المعهد بامتياز يستقيلون في كل مكان بالترحاب!"؛ 
لقد خرج إداريين؛ ودبلوماسيين» وعلماء؛ ومهندسين, وقادة» وقباطنة» وقضاة, 
وصناعيين وأصحاب مصارفء فليس من المستغرب إذاً أن يتطلع شاب غني أو 
من أسرة نبيلة في دراسته إلى قبوله في ذلك المعهد, فإذا قرر غابرييل ذلك, 
فإنني أطلب منكء أن تعهدي به إلي! قولي أجل! 

- ماذا تعني بذلك؟ 

- «أريد أن أكون مشرفاً على دروسه» قال وهى يرتعش. 

نظرت مرغريت ملياً إلى السيد دي سوليسء ؤأخذت يده وقالت له «نعم 
ثم أضافت بعد لحظة توقّفء كم أقدّر لك هذا الشعور الذي جعلك تختار بدقة ما 
يمكن أن أقبله منك. إن في ما قلته لي دليلاً على مدى تفكيرك بنا إنني اشكرك» 
بالرغم من أن هذه العبارات قد قيلت ببساطة؛ فقد حول إيمانويل رأسه جانباً 
لكي لا تلاحظ الدموع التي ترقرقت في عينيه لغبطته عن فعلته السارة بالنسبة 
لمرغريت. 

«سآتي إليك غداً بأخويك فهى يوم عطلة» قال بعد أن استعاد بعض 
هدوئه؛ ونهض وحدًا مرغريت التي تبعتهء وعندما أصبح في فناء الدار لاحظ أنها 
ما تزال في غرفة الطعام حيث أشارت إليه إشارة ود. 

بعد العشاء حضر مودق العقود لزيارة كلايسء جلس في الحديقة بين اين 
عمه ومرغريت وعلى المقعد الذي كان يجلس عليه ايمانويل؛ وقال مخاطباً 
كلايس: «لقد جئتك يا ابن العم هذا المساء في موضوع عملء لقد انقضى ثلاثة 
واربعون يوماً على وفاة زوجتك». 

)١(‏ هذه النظرةالمتفائلة حول خريجي ذلك المعهدتتناقض مع ما جاء في رواية «كاهن القرية»على لسان 
غريغوا رجيرار من أن هذا المعهد وقيره من المعاهد الكبرى هي مصانع لتخريج موظفين عاجزين. 


غ194 


- «إتّني لم أحصها». قال بلتزار وهى يمسح دمعة انتزعتها كلمة «وفاة» . 
المقالة شرعاً. 

- «أوه؛ أيها السيد كيف يمكن أن تثير...» قالت مرغريت وهي ترمق 
الموق بنظرة.. 

اكنناء يا ابنة العم» ملزمون: نحن الآخرين: بأن نحصي المهل المحددة 
بموجب القوانين» وهذا ما يتعلّق بك ويشركائك الوارثين. إن أولاد السيد كلايس 
جميعهم قُصرء رعليه أن يقوم بجرد خلال الخمسة وأربعين يوماً التي تلي وفاة 
زوجته, بهدف تحديد قيم التركة المشتركة؛ ألا يِب معرفة وضعهاء وهل هي 
جيدة أى رديئة لقبولها أى تركها كحقوق اسمية فقط للقاصرين». 

نهضت مرغريت عند ذلك لكن بييركين قال: «ابقي يا ابنة العم فهذا 
الموضوع يتعأق بك ويوالدك؛ إنكم تعرفون مدى مشاركتي لكم في حزنكمء ولكن 
يجب الاهتمام في هذا اليوم بهذه التفاصيل التي إن تأجلت سببت لكم جمعياً 
الضرر. إنني في هذا الوقت آقوم بمهمتي كموثق عقود للعائلة. 

- «إنّه على حق» قال كلايس. 

- ستنتهي المهلة خلال يومين: وعلي إذاً أن أبدأ منذ نهار الغد بفتح 
محضر للجرد حتى وإى لم يكن الأمر متعلقا إلا بتخير ضريبة التركة التي 
ستطالبكم بها مصلحة الضرائب. إن هذه المصلحة لا قلب لها ولا تهمها 
العواطفء وهي تنهشنا بأتيابها في أي وقت. إذاًٌ سآتي كل يوم؛ من الساعة 
العاشرة وحتى الرابعة. ساتي مع كاتبي والمحضر المثمن السيّد رابارلينه, 
وعندما ننهي من المدينة سنذهب إلى الريف. أما ما يتعأق بغابة وينيي 
فسنتحدث عنها قيما بعد. يعد توضيح هذا الامر لنتتقل إلى نقطة أخرى؛ عليتا 
أن نستدعي مجلس عائلة لتسمية مشرف على الوصي. إن السيد كونينكس من 
بروج هى أقرب أقاربكم, لكنه قد غداً بلجيكياً! ويجب يا ابن العم أن تكتب إليه 
حول الموضوع لتعرف إن كان هذا النبيل سيستقر في فرنسة حيث أنْ له ملكية 
جميلة؛ ويمكنك أن تقنعه بالمجيء مع ابثته للسكن في الفلاندر الفرنسية؛ فإن 
رفض فإِنْ علي أن أؤلف المجلس وفق درجات القرابة. 


-!16- 


«ماهو الغرض من الجرد؟» سألت مرغريت. 

- لتسجيل الحقوق: والقيم؛ وما لكم وما عليكم؛ وعند ترتيب كل شيء 
يتخذ مجلس العائلة مراعاة لحقوق القاصرين الإجراءات التي يراها... 

- قال كلايس «٠هو‏ ينهض عن المقعد: «بييركين؛ قم بالإجراعات التي تراها 
ضرورية لحفظ حقوق الأولاد؛ لكن جتّينا الأسى الذي سيعترينا إن رأينا ما 
يعود إلى عزيزتنا مطروحاً للبيع.. ولم ينه كلامه؛ إنما قال كلماته بمظهر فيه من 
النيل والتأثير بحيث أن مرغريت تناولت يد والدها وقبلت 

- «تعالوا إلى الغداء». قال بلتزار ثم بدا وكأنه يستعيد ذكرياته وهتف: 
«ولكن وفق عقد رَواجِي الذي أجريته وفق تقاليد مقاطعة هينو(١)‏ لأعفي زوجتي 
في حال وفاتي مما يسيبه الجرد من آلام, لا نحتاج بدورنا على الأرجح في 
حالتنا هذه إلى الجرد... 

- «آه! ياللسعادة هذا الجرد يسيب لنا مزيداً من الألم!» قالت مرغريت. 

- حسنء سنفحص عقدكم غداً, قال الموثق مرتبكاً. 

«ألا تعرفه إذاً» سألته مرغريت. 

قطعت هذه الملاحظة المداولة ووجد موثق العقود نفسه مشوشاً يعد 
ملاحظة ابنة العم بحيث لا يمكنه الاستمرارء وقال في نفسه يعد أن غمادر 
وأصبح في فناء الدار: «إن الشيطان يتدّخلء فهذا الرجل: على شروده يستعيد 
صفاء ذاكرته في اللحظة التي ستتخذ فيها إجراءات ضده إِنْ أولاده سيجردهن 
من كل مالهم. 

إِنْ هذا مؤكد كالقول أن أريعة هي حصيلة اثنين زائد اثنينء ماذا يجدي 
حديث المصلحة مع فتيات في عمر التاسعة عشر لا يفهمن إلا بالعواطف. لقد 
أفرغت كل ما في جعبتي لأنقذ أملاك هؤلاء الأولاد باتخاذ وسائل نظامية 
وبالتفاهم مع الرجل النبيل كونينكسء والنتيجة! لقد صغرت في رأي مرغريت 


)١(‏ هيفى: مقاطعة بلجيكية مركزها هامونس. 


-1155- 


التي ستسمال والدها عن السبب الذي يدفعني إلى المطالية بجرد تعتقد أن لا 
حاجة له؛ وسيجيبها السيد كلايس أن موثقي العقود لديهم هوس الإجراءات؛ 
وأنهم موثقون قبل أن يكونوا أقرياءء أى أولاد عم؛ أو أصدقاءء أخيراً سيعتبرني 
من الحمقي...» أغلق الباب بعنفء وهو يرغي ضد الزيائن الذين يدمرون 
أتنفسهم يرقة حساسيتهم, 

كان بلتزار على حق؛ فلا حاجة لإجراء جرد. ولم يتحدد شيء في وضع 
الأب تجاه أبنائه؛ ومرت عدة أشهر دون أن يتبدل الوضع في بيت كلايس؛ 
فغابرييل يسير بجدٌ في دروسه موجهاً من قبل السيد دي سوليسء وهو يعمل 
بانتظامء ويتعلّم اللغات الأجنبية» ويتهيًأ لإجراء الامتحان الضروري لدخول معهد 
البوليتكنيك؛ وفليسيا ومرغريت تعيشان في عزلة مطلقة؛ ياستثناء ذهايهن خلال 
فصل الصيف إلى منؤل والدهما الريفي اقتصاداً للنفقات؛ وقد اهتم السيد 
كلايس بأعماله وقام بوفاء ديونه مقترضاً مبلغاً كبيراً على رهن أملاكه؛ دون أن 
يتعرض لغابة وينيي إلا بالزيارة؛ وفي منتصف العام 216١17‏ خفت أحزانه 
تدريجياً وتركته وحيداً أعزل أمام رتابة الحياة التي تثقل عليه بفراغهاء لقد قاوم 
أولاً بشجاعة العلم الذي أخذ يستيقظ في نفسه شيئاً فشيئاً؛ ومنع نفسه من 
التفكير بالكيمياءء؛ ثم عاوده التفكير بها لكنه لم يرد الانشفال بذلك بفاعلية, 
واهتم فقط بالدراسات النظرية؛ لكن هذه الدراسات المستمرة أيقظت هواه 
المجادل. لقد تسا عما إذا كان قد تعهد بعدم موإهصلة أبحاثه, وتذكرٌ أن 
ذوجته لم ترد منه أن يُقسم على ذلك؟ وبالرغم من أنه قطع على نفسه وعداً ألا 
يتابع حل مسالته؛ ألا يمكن أن يبدل قراره في اللحظة التي يتوقع فيها نجاحاً. 
نه الآن في التاسعة والخمسينء وفي هذا العمر فإن الفكرة التي تسيطر عليه. 
أكسبته ثباتاً عنيفاً يبدأ عنده الهوس الأحادي: وقد ساعدت الظروف أيضاً على 
مخالفة تلك الأمانة المتأرجحة:؛ فالسلام الذي نعمت فيه أوروية قد أتاح سريان 
الاكتشافات والأفكار العلمية المكتسبة خلال الحرب وتبادلها بين العلماء في 
البلدان المختلفة التي لم تقم بينها علاقات منذ أكثر من عشرين عاماً؛ فالعلم إذاً 


ده 


قد أخذ طريقه؛ وقد رأى كلايس أن تقدم الكيمياء قد توجه, دون علم 
الكيميائيين. نحو الهدف الذي وضعه لأبحاثه؛ والأشخاص العاكفون على العلوم 
الملتعمّمقة يفكرون, كتقكيره, بأنّ الضوء؛ والحرارة» والكهرباءء والغلقانية, 
والمغناطيسية ما هي إلا نتائج مختلفة لسبب واحدء وأن الفروق التي توجد بين 
الأجسام التي اشتهر عثها أنّها بسيطة ناتجة عن اختلاف المقدار الذي تحويه 
من خلاصة مجهولة. زاد الخوف من أن يشاهد غيره يكتشف اختزال المعادن 
والمبدأ المشكل للكهريائية, وهما اكتشافان يقودان إلى حل المطلق الكيميائي2» في 
ما سماه أهل دوي جنوتاً. وحمل رغباته إلى ذروة لا يعرفها إلا الأشخاص 
الذين استهوتهم العلوم أى الذين عرقوا استعباد الأفكار؛ وهكذا فقد تملك بلتزار 
هوى اشتد عثفه بمقدار طيلة زمن رقاده. وكانت مرغريت ترقب الحالات الروحية 
التي يمر بها والدهاء ففتحت عند ذلك غرقة الجلوسء وأيقظت ببقائها فيها 
الذكريات الأليمة التي سببها موت أمهاء ونجحت, في الواقع؛ بإيقاظها تأسقات 
والدها؛ في تأخير سقوطه في الهوة التي كان لا بد مع ذلك أن يسقط فيها. لقد 
أرادت أن تنطلق في المجتمع وألزمت بلتزار على أن يبحث عن وسائل للتسلية, 
وقد تقدم لبها عدة طالبي زواج معتبرين شغلوا كلايسء بالرغم من أن مرغريت 
قد صرحت أنها لن تتزوج قبل بلوغها سن الخامسة والعشرين. 

رغم جهود ابنته. ورغم الصراعات العنيقة في بدء الشتاء عاد بلتزار 
سراً لمزوالة أبحاثه؛ ولما كان من الصعب إخفاء مثل هذه المشاغل عن |انسوة 
الفضوليات» فإن مرتا قالت يوماً لمرغريت وهي تساعدها في ارتداء ثيابها» لقد 
ضعنا يا آنسة, فهذا الغول مواكينيه, الذي أحسبه شيطاناً مقّنعاً إن أنني لم 
. أره يوماً يرسم إشارة الصلئيب. قد صعد من جديد إلى السقيفة, والسيّد والدك 
' قد استقل السفينة التي تبخر إلى الجحيم ؛ أتضرع إلى السماء ألا يقتلك كما 
قتل سيدتي العزيزة المسكينة. 

«هذا غير ممكن»: قالت مرغريت. 

تعالي لتشاهدي البرهان على عمله غير المشروع. 

م1 


أسرعت الآنسة كلايس إلى النافذة, ولاحظت فعلاً دخاناً خفيقاً ينطلق 
من مدخنة المخير. 

فكرت مرغريت في نفسها: «سأكون في الحادية والعشرين من العمر بعد 
عدة أشهر وسأعرف كيف أحول دون تبديد ثروتنا», 

بانقياد بلتزار لهواه؛ أصبح بالضرورة أقل احتراماً لمصالح أولاده عما 
كان بالنسبة لمصلحة زوجته, فالحواجز هنا أقلّ ارتفاعاً. وضميره أكثر تساهلاً: 
وهواه أكثر عنفاً. وهكذا فقد مشى على طريق المجد؛ والعمل؛ والرجاءء والشقاءء. 
باندفاع رجل ملؤه اليقين؛ وقد أخذ بالعملء وهى متأكدٌ من النتائجء ليلاً ونهاراً, 
باندفاع رمى الذعر في قلب ابنتيه اللتين تجهلان قلة ما يحدثه الجهد المتواصل 
من أذىء إن كان الإنسان راغباً في عمله. 

ما أن عاد الأب إلى تجاربه؛ حتى استغنت مرغريت عن كل ما هو غير 

ضروري على المائدة, والتزمت بتقتير البخلاء, وقد ساعدتها على ذلك بشكل 

باهر مرتا وجوزيت؛ ولم يلاحظ كلايس هذا التغيّر الذي يجعل الحياة مقتصرة 
على الضروريات فقطء فهو أولاً لا يتغدى, ثم إِنّه لا يغادر مخبره إلا في موعد 
العشاءء ومن ثم يذهب إلى التوم يعد بضع ساعات يقضيها بين ابنتيه في غرفة 
الجلوس دون أن يوجه إليهما كلمة؛ وعندما ينسحبء يتقدم منهما بشكل ألي 
لتقبلاه على خديه متمنيتين له ليلة سعيدة. إن مثل هذا السلوك كان سيسبب 
أكبر البلايا المنزليّة ل لم تتهيّا مرغريت لممارسة سلطة الأم. وتتقي مساوىء هذا 
التصرف غير المسؤول بهوى خفي. ِ 

كان بييركين قد انقطع عن زيارة ابنتي عمه مستنتجاً إحاقة الدمار 
الكامل بهما؛ فملكيات بلتزار الريفية التي كانت تؤمن دخلاً سنوياً مقداره ستة 
عشر ألف فرنك وتساوي نحو مئتي آلف إكو,؛ غدت مرهونة على ثلاثمئة ألف 
فرنك. كان كلايس قد استدان مبالغ معتبرة قبل أن يرتد إلى الكيسياء يكن 
دخله يكاد يكفي تسديد الفوائد فقط. لكن مع عدم التبصير لدى الأشخاص 
المنصرفين كلياً إلى فكرة فإِنّه قد تخلّى عن إيجار الأرض لمرغريت تآميناً 

0-994 البحث عن المطلق م -8 


لنفقات البيت: وفي حساب موثق العقود أن ثلاث سنوات ستكفي لحرق 
مداخيلهم وأن رجال العدالة سيأتون على ما أبقاه بلتزار. لقد قاد برود مرغريت 
بييركين إلى حالة من اللامبالاة شبه عدوانية» ومن أجل أن يعطي لنفسه حق 
رفض يد ابنة عمه إن ألم بها الفقرء كان يقول عن آل كلايس وبمسحة من ٠‏ 
الشفقة: »إن هؤلاء الأشخاص المساكين قد أفلسواء وقد فعلت كلّ ما أستطيع 
لانقاذهم, ولكن ما العمل؟ إن الآنسة كلايس قد رفضت جميع الترتيبات 
القانونية التي تقيهم من الشقاء». 

أمًا إيمانويل الذي سمي مديراً لثانوية دوي بفضل توسط عمه وبمقدرته 
القائقة التي أهلته لهذا المنصبء فكان يأتي كل يوم مساءً لزيارة الفتاتين اللتين. 
تستدعيان المربية العجوز للبقاء معهما عندما يذهب والدهما إلى النوم. كانت 
قرعة الباب الهادئة المميزة للشاب دي سوليس لا تتأخر أبداً» وقد اكتسب ثقته 
بنفسه منذ ثلاثة أشهرء بعد أن لقي العرفان الرقيق الصامت الذي استقيلت به 
مرغريت رعايته» فشع إشراق روحه النقية كالاسة دون شائبة: وأمكن لمرغريت 
أن تقدر مدى ما تتمتع به من قوة واستمرارية ترد من نبع لا ينضبء وراق لها 
أن ترى أزهارها ل د الأخرى يعد أن استنشقت مسبقاً عطرها. 
في كل يوم كان ايمانويل يحقّق أملاً من آمال مرغريتء ويسكب في ال مناطق 
المتهللة للحب أشعة جديدة تطرد الغيومء وتعيد إلى سمائهما صحوهاء وتلون 
المواهب الممرعة الدفينة حتى الآن في الظل. لقد أمكنه. وقد لاقى التشجيع أن 
يفصح عما في قلبه من مغريات كانت حتى الآن خبيثة برصانة: هذه البهجة 
المتفتحة في زهوة الشباب» وهذه البساطة التي را حياة مليئة بالدراسة, 
وكنوز ذهن مرهف لم يفسده المجتمعء ودعابات بريئة تتلاءم مع شياب مغرم. 
كانت روحه وروح مرغريت تزدادان تفاهماً. فهما يغوصان سوية إلى أعماق 
قلبيهما فيجدان فيهما الأفكار ذاتها: لآلىء ذات بريق واحد» إيقاعات حلوة 
ونضرة مماثلة لتلك التي تزخر بها أعماق البحارء والتي يقال أنها تفتن 
الغواصين. لقد ازداد كل منهما معرفة بالآخر بهذه الملاحظات المتيادلة» وهذا 


بد الات 


الفضول المتناوب الذي يأخذ لدى كليهما أشكال العاطفة الأكثر عذوية. كل شيء 
يتم بدون خجل مرّيف ولكن ليس بدون ملاحظات متبادلة. لقد جعلت الساعتان 
اللتان يقضيهما إيمانويل» كل أمسية: يين هاتين الشابتين ومرتاء مرغريت 
ترتضي حياة المرارة والاعتزال التي التزمت بهاء فهذا الحب المتدرّج يبراءة كان 
سنداً لها. كانت بيّنات المودّة تقترن لدى ايمانويل بتلك الرقة الطبيعية التي تفتن, 
وذلك الذهن الدقيق الصافي الذي ينوع انتظام العاطفة كما تزيل الوجيهات 
رتابة الجوهرة الثمينة وتجعل كل وهجها بتالّق. إِنّها طرق مدهشة لا تعرف 
سرها إلا القلوب العاشقة وتجعل النساء طيّعة أمام اليد الصنّاع التي تجدد 
فيهن دائماً الشكل؛ ومصغية إلى الصوت الذي لا يكرّر جملة واحدة دون أن 
يطرحها بترئّمات جديدة. إِنْ الحبّ ليس فقط عاطفة. إِنْما هو فن أيضاً. كلمة 
يسيطة: احتراسء تفاهة تكشف للمرأة الفنان الكبير السلمي الذي يمكن أن 
يلامس قلبها دون أن يذويه؛ ذلك كان إيمانويل كلما استرسلء كلما زادت تعابير 
حبه جاذبية. 

قال لها ذات مساء: لقد سبقت بييركين؛ فهى آت لينقل إليك نبا سيئاً.' 
ففضلت أن أعلمك به بنفسي. لقد باع والدك غابتكم إلى مضاربين جزؤوها 
وياعوها مجدداًء وقد قطعت أشجارهاء ورفعت روافدها؛ وتلقى كلايس ثلاثمئة 
ألف فبرنك نقداً دفعها تسديداً لديونه في باريس بل واضطر إلى استلاف مئة 
ألف فرنك لاتمام السداد كلياً. على المئة ألف إكى التي تتوجب له على المشترين 
مستقيلاًء دخل بييركين وهى يقول: «إيه» يا ابنة العم العزيزة, ها قد أفلستم لقد 
توقعت لك ذلكء لكنكم رفضتم الإصغاء لي. إن شهية والدك مفتوحة؛ وقد ابتلع 
غابتكم من اللقمة الأولى. إن المشرف على وصيتكم السيد كونينكس في 
امستودامء حيث يقوم بتصفية ثروته وقد استغل كلايس الفرصة ليقوم بضريته, 
والأمر غير جيد وقد كتبت عن ذلك للرجل الطيب كوتينكسء ولكن عندما يصل 
يكون كلّ شيء قد استهلكء. وستكونون ملزمين بملاحقة والدكم قضائياً؛ ولن 
تطول الدعوى إِنّما ستكون شائنة» فالسيد كوتيتكس لن يستطيع اعفاء نفسه من 


-181- 


إقامتها لأن القانون يلزمه بذلك. هذه هي ثمرة عنادك: اتعترفين الآن بمدى 

قال دي سوليس الشاب بصوت عذب: «إنني أحمل إليك تبأ طيّبأ يا 
آنسة, فغابرييل قد قبل في معهد البوليتكنيك؛ وقد ذللت العقبات التي تعترض 
ذلك». 

شكرت مرغريت صديقها بابتسامة وقالت: «لقد أصبح لمدخراتي مقصدا! 
إننا ستهتم يا مرتاء منذ نهار غدء بجهاز غابرييل» وأنت يا عزيرتي فليسيا 
ينتظرك عمل كثير لمعاونتي. قالت وهي تقبل أختها على جبيتها . 

- سيقضي اعتياراً من نهار غد عشرة أيام بينكم؛ إذ يجب أن يكون في 
باريس في ١١‏ تشرين الثاني. 

قال موئّق العقود وهو يرمق مدير الثانوية شذراً: «لقد اتخذ ابن العم 
غابرييل قرار جيداً وسيكون بحاجة إلى تكوين ثروة. لكن يا ابنة ابعم العزيزة: 
إن الأمر يتععلق باتقاذ شرف العائلة. أتريدين هذه المرة الاستماع لي؟ 

- كلاًء إن كان الأمر ما يزال متعلقاً بالزواج. 

- لكن؛ ماذا تفعلين؟ 

- أناء يا ابن العم؟ لا شيء». 

- مع أنّك قد بلغت سن الرشد. 

خلال بضعة أيام؛ هل لديك اقتراح تعرضه علي يمكن أن يوفق بين 
مصالحنا وما يتوجب علينا نحو والدنا؛ ونحى شرف العائلة؟ 

يا ابنة العم, إّنا لن نتمكن من أي تصرف بدون خالك. أما والأمر 
هكذا فقسآتيكم عند عودته. 

- وداعاًء يا سيدي. قالت مرغريت. 

«كلّما ازدادت فقراً, ازدادت تزمتاً,ء قال موثق العقود في نفسه ثم هتف 

1 


بصوت عال» وداعاً يا آنسة. وأنت يا سيدي المدير لك تحيّتي الخالصة: وغادر 
المكان دون أن ينتبه إلى فليسيا أى مرتا. 

«منذ يومين» وأنا أدرس ما يتعلق يهذه القضية قانونياً. وقد استشرت 
محامياً عريقاً فو صديق لعميء وإذا أذنت لي فسأسافر إلى امستردام غداً» 
أصغي إلي يا عزيزتي مرغريت...» نطق بكلمة «عزيزتي» للمرة الأولى: وشكرته 
مرغريت بنظرة مغرورقة بالدمع؛ وابتسامة وإحناءة رأس. لكنه توؤقف واتجه 
بنظرة إلى فليسيا ومرتا. 

قالت مرغريت: «تكلّم بصراحة أمام أختيء؛ فهي ليست بحاجة إلى 
المجادلة لتقتنع بما في حياتنا من حرمان وجهد. إنها غاية في الشجاعة 
واالطف, لكن يجب أن تعرف كم تلزمنا الشجاعة الآن. 

شدت كل أخت بحرارة على يد آختهاء ثم تعانقاً وكأنهما يثبتان عهداً 
جديداً على موقفهما الموحد أمام النكبات. 

«اتركيناء يامرتا». 

استانف ايمانويل وقد أتاح لتغير نبرة صوته أن يعبر عن السعادة التي 
غمرته بفوزه بأدنى حقوق المودة: يا عزيزتي مرغريت: لقد حصلت على أسماء 
وعناوين الشارين المتوجب عليهم مبلغ مئتي آلف فرنك متيقية من ثمن الأشجار 
المقطوعة. فإذا طلبت من أحد المحامين أن يتصرق باسم السيد كونينكس الذي 
لن يتنصل من ذلك. ويبلّغ المحامي الشارين معترضاً على التسديد؛ خلال ستة 
أيامء يكون خال والدتك قد عادء فيدعى مجلس عائلة ويطلب لفابرييل البالغ من 
العمر ثمانية عشر عاماً حق ااتصرفء وينيلك مع أخيك هذا الحق تطلبان 
نصييكما من ثمن أشجار الغابة؛ ولن يتمكّن السيد كلايس من رفض تسليمكما 
المئتي ألف فرنك التي جمّدها الاعتراض. أما المثة ألف فرنك الأخرى المستحقة 
لكما فيمكتكما أن تضعا رهنا على البيت الذي تسكنونه تأميناً لها. كما أن 
السيد كونينكس سيطلب ضمانات لقاء مبلغ ثلاثمئة ألف فرنك الذي هى نصيب 


ا 


فليسيا وجان. قي هذه الحالة سيكون والدك ملزماً بالسماح برهن أملاكه في 
سهل أورشي المثقل سابقاً بدين مئة ألف إكوء لكن القانون يعطي أفضلية ذات 
تكسو لعن للإجراءات المتخذة لمصلحة القاصرين كل شيء سينقذ يذلك» 
وسيكون السيد كلايس مقيد اليدين» فأراضيكم غير قابلة للتصرفء ولن يتمكن 
من الاستدانة على أملاكه المثقلة بديون أكبر من قيمتها؛ كما تتم جميع هذه 
الإجراءات عائلياً» دون فضائح أو قضاياء وسيضطر والدك للتروي في أبحاثه, 
هذا إذا لم يتوقف عنها تهائياً. 

- نعم, لكن أين المداخيل إن المئة آلف فرنك المسجّلة لقاء رهن هذا البيت 
لن تدر عليذا لأننا ساكنون فيه, وما تغلّه أملاك والدي في سهل أورشي يسدد 
فوائد ثلاثمثة ألف فرنك المتوجبة للغرباء. فمن أين تنفق على معيشقنا . 

- أولاً بوضع مبلخ خمسين ألف فرتك الباقية من حصة غابرييل في 
الاستثمار العام وسيكون لكم بمعدل الفائدة الحالية دخلاً يقدر بنحى أريعة آلاف 
يرة تكفي لمعيشة غابرييل ومصاريفه في باريسء وهو لن يتمكّن من التصرّف 
بالمبلغ المترتب على رهن متزل والده ٠لا‏ من المبلغ الموضوع في الاستثمارء ويذلك 
لن تخشوا أن يبدد دانقاً عدا عن تأمينكم لنفقاته؛ ومن ثم ألا يتبقى لكم مئة 
وخمسون آلف قرنك؟! 

«سيطلبها والدي ولن استطيع أن أرفض له طلبه». قالت بذعر. 

- حسن ياعزيزتي مرغريتء يمكنك إنقاذها أيضاً بتجرّدك منها. ضعيها 
في الاستثمار الطويل الأجل باسم أخيك. وسيعطيكم هذا المبلغ فائدة اثنتي 
.عشرة أو ثلاث عشرة آلف ليرة سنوياً تؤمّن نفقات عيشكم؛ والقاصرون المفووؤض 
بإدارة أملاكهم لا يمكن التنازل عن شيء منها دون العودة إلى مجلس العائلة, 
وهكذا فستريحون ثلاث سنوات من الطمأئيثة؛ قد يجد خلالها والدك ما يبحث 
عنه أى سيِتخْلَى عنه على الأرجح ويمكن لغايرييل الراشد أن يسترد المبالغ 
الموضوعة في الاستثمار لتتقاسموها فيما بينكم أنتم الأربعة. 


14 


استفهمت مرغريت من جديد عن إجراءات قانونية أغلق عليها قهمها 
سريعاً؛ وكان مشهداً جديداً رؤية الحبيبين منكّبين على دراسة المرجع القانوني 
الذي أحضره إيمانويل لشرح الأسس الناظمة لإدارة أملاك القاصرين؛ وقد 
أدركت سريعاً مضمونها بقضل ما قطرت عليه النساء من فطنة يزيد الحب من 
نياهتها. 

في اليوم التالي عاد غابرييل إلى البيت الأبوي وقد رافقه السيد دي 
سوئليس معلنا لوالده قبوله في معهد البوليتكنيك. فثجاب الوالد شاكراً المدير 
بإشارة من يده وهى يقول: إنني جد مرتاح لهذا التي سيصبح غابرييل عالماً 
إذاً. 

- «آهاا يا أخي» قالت مرغريت وهي تشاهد والدها يصعد إلى مخيره. 
«اعمل جيداًء لا تبر في الانفاق! قم بواجباتك؛ وكن مقتصداً» في الايام التي 
تخرج بها إلى باريس؛ اذهب إلى أصدقائنا أى أقربائنا كي لا تتعرض إلى 
الإغراءات التي تفسد الشباب. ستصل مخصصاتك إلى نحو ألف إكوء سيتيقي 
لك منها تحى ألف فرنك لقضايا لهوك؛ ويجب أن تكفيك. 

«إنني أضمنه» قال ايمانويل دي سوليسء وهى يرتّب على كتف تلميذه. 

بعد شهرء تمكّن السيد كونينكس, بالاتفاق مع مرغريت؛ أن يحصل من 
السيد كلايس على الضمانات المرغوية. وتمت الموافقة على جميع الترتيبات التي 
هيأها. بحكمة ايمانويل دي سوليس ووضعت موضع التنفيذ؛ فبموجب القانون, 
وأمام استقامة قريبه الخالصة التي لا تتساهل أبداً في قضايا الشرفه كان 
بلتزار خجلاً من البيع الذي وافق عليه في فترة ضايقه فيها دائنوه فاضطر إلى 
الإذعان إلى جميع مطالبهم. كان مغتبطاً لأن بالإمكان استدراك الخطأ الذي 
سببه بشكل لا إرادي تقريباً لابنائه, فوع على جميع الصكوك بانشغال العالم, 
لقد أصبح عديم التبصر تماماًء على طريقة ذلك العبد الذي يبيع امرأته صباحاً 
في سبيل كأس من خمرء ثم يبكيها مساءء لم يكن يلتفت حتى لمستقبله الأكثر 
قرباً» ولا يفكر بموارده التالية وهى ينفق آخر إكى معه. لقد تابع أبحاثه؛ واستمر 

- ١0 


في مشترياته, دون أن يدرك بأته لم يعد إلا المالك ظاهرياً لمنزله ولأملاكه» وأن 
ضوابط القوانين القاسية تجعل من المستحيل عليه أن يحصل على قلس واحد 
من الأملاك التي هى حارسها القضائي. 

- انقضت سنة 18١8‏ دون أي حادث مكررء إن تمكنت الفتاتان من 
تسديد نفقات دراسة جان وتامين مصاريف المنزل من ريع المبلغ الذي وضع في 
الاستثمار باسم جان, وقد بلغ هذا الريع ثمانية عشر ألف فرنك سنوياً يرسل 
نصفها كل ستة أشهر بانتظام من قبل الأخ. 

توفي الكاهن عم دي سوليس في شهر كانون أول من ذلك العام؛ وفي 
ذات صباحء أنيات مرتا مرغريت أن والدها قد باع مجموعته من أزهار 
الخزامى الفريدة» وأثاث المنزل الأمامي: وجميع الفضيات؛ فاضطرت أن تشتري 
أطباقاً وأدوات مائدة ووسمتها بتحرف اسمها الأولى. 

لقد التزمت حتى الآن بالصمت؛ تجاه جميع التبديدات التي قام بها 
' والدهاء لكنها في ذلك المساء. ويعد العشاء. طلبت من فليسيا أن تتركها منفردة 
معه؛ وعندما جلس وفق عادته في زواية قريبة من مدقاأة غرفة الجلوسء قالت له 
مرغريت: «يا والدي العزيزء أنت حر في أن تبيع كل شيء هناء حتى أولادك: 
ونحن هنا سنطيعك دون تذمرء ولكنني ملزمة بأن ألفت نظرك إلى أننا بدون أي 
مبلغ من المالء وما لدينا لا يكفي لاستمرار معيشتنا هذه السنة, ومسأضطر أنا 
وفليسيا للعمل ليلاً ونهاراً في ثوب من الدانتيل لنتمكن بواسطة ثمنه من تسديد 
أقسساط المدرسة الداخلية لجان. إنني أتوسل إليك» يا أبي الطيب» أن توقف 
تجاربك. 

نك على حق يا ابنتي: خلال ستة أسابيع سينتهي كلّ شيء, فإمًا أن 
أجد المطلق. وإما أن يكون هذا المطلق غير قابل للوجود. ستصبحون كلكم 
أغنياء. من أصحاب الملايين. 

«اترك لنا الآن قطعة الخبز فقط» أجابت مرغريت. 


1 


«ألا يوجد خيز هناء قال كلايس مذعوراً»». ألا يوجد خبز في منزل آل 
كلايسء؛ آين أملاكنا وريعها؟ 

لقد قطعت أشجار غابة وينيي من الجذورء وماتزال الأرض مشغولة بهذه 
الأعمالء ويااتالي لا يمكن الاستفادة منها بشيء؛ أما أجور أراضيك في أورشي 
فهي لا تكفي لدفع فواتير المبالغ التي تديتها. 

- «مم تعيش إذا؟» سأل. 

أشارت مرغريت إلى أيرتها وأضاقت: «من هذه مع مساعدة ريع المبلغ 
السنة بواسطتها لى لم تثقل علينا بهذه الفواتير غير المتوقعة. إِنّك لا تقول لي 
شيئاً عن مشترياتك من المدينة؛ وعندما أعتقد أن لدي ما يكقيئي للقصل الواحد 
واتخذ ترتيباتي على هذا الأساس,» تردني أشعار عن مشتريات صودا ويوكاس 
وزنك. وكيريت: وقيرها مما لا أعرفه! 

يا ابنتي العزيزة» اصبري ستة اسابيع فقط؛ ويعدها سأتصرف بكل 
تعقل. وستشاهدين العجائب, يا صغيرتي مرغريت. 

لقد حان الوقت لتفكر بوضعك. لقد بعت كل شيء: اللوحات: والخزامى, 
والفضياتء ولم يبق لدينا شيء. على الاقل لا تركّب علينا ديوناً جديدة. 

- «سأتوقف عن ذلك» قال الرجل الكهل. 

- ستتوقف! هذا يعنى أنك استندنت من جديكد؟ صاحت الفتاة. 

«لاشيء يثير المخاوف» أجاب وقد خفض بصره واحمنٌ وجهه. 

وجدت مرغريت نقسها لأول مرة مهانة بِذّل والدهاء ويلغ بها الالم حداً لم 
تجروء عنده على سؤاله عن الدين الجديد؛ ويعد شهر من هذه الواقعة, تلقى 


مصرفي من المدينة كمبيالة موقعة من كلايس بميلغ عشرة آلاف فرنك. رجت 


5 


المع . اماع مور - اح يبصبحر : 10[ 


مرغريت المصرفي أن ينتظر خلال ذلك اليوم معبّرة عن أسفها لأنها لم تُعلم 
بهذه الدقعة, فنيهها المصرفي بأآن محل بروتز وشيغرفيل له تسع كمبيالات 
أخرى كل منها بالقيمة نفسها وهي' تستحق شهراً بعد شهر. 

«لم يعد السكوت ممكناً ولا بد من مجابهة هذا الواقع» صاحت مرغريت ' 
بحرقة» وأرسلت تستدعي والدها وهي تزرع غرفة الجلوس جيئة وذهاباً بخطوات 
سريعة وهي تحدث تفسها «يجب إيجاد مئة آلف فرنكك؛ أى أن السجن ينتظر 
والدنا! ما العمل؟ لم ينزل بلتزار» وحلّت مرغريت من الاتتظار قفصعدت إلى 
المخبرء حيث وجدت عند دخولها أباها وسشط قاعة فسيحة:؛ شديدة الإضاءة, 
مليئة بالماكتات والزجاجيات المغبّرة وقد تناثرت هذا وهناك الكتب؛ والمتاضد,ٍ 
المليئة بمنتجات موسومة ومرقمة؛ في كل مكان تشهد القوضى على انشقال 
العالم الذي تخلّى عما تميّزت به العادات اافلمندية من اهتام بالترتيب. كانت 
هذه المجموعات من المطرات؛ والمعوجات,. والمعادن والمتبلورات الملوئة بشكل 
عجيبء والعينات المعلّقة على الجدران. أى المحشوة في الأفران تبدى وكأن صورة 
بلتزار كلايس تهيمن على كلّ واحدة منها وهى في وسطها وقد تجرد من معظم 
ثيابه؛ وبدت ذراعاه اللعاريتان كذراعي أحد العمال وصدره المكشوف وقد غطاه 
الشعر الأبيض كشعر رأسه. عيناه تحدقان بشكل ثابت رهيب في ماكنة لتفريغ 
الهواء وقد تغطى حوضها بعدسة تتالف من قطعتي يلور محدبتين وهي تلم 
أشبعة الشمس الداخلة عندئذ من إحدى حجيرات نجمية السقيفة: كان الحوض 
المعزول الصفيحة متصلاً بواسطة أسلاك مع بيل فولطا ضكمء وقد انشغل 
لمولكينيه بتحريك صفيحة تلك الماكنة القائمة على محور متحرك بحيث تبقى 
عدستها في اتجاه عمودي على أشعة الشمسء وصاح الوصيفء الذي بدا وجهه 
أسود مغيراً: «آه! لا تقتربي يا آنسة!». 1 

رأت والدها شبه راكع أمام ماكنته وقد تسلّطت عليه أشعة الشمس 
عموبية وانتثر شعر رأسه فيدا كأسلاك من فضة:؛ وقد تحدب قحف رأسه 
وتغضين وجهه بتأثير انتظار رهيبء وتفرد الأشياء ااتي تحيط به؛ والظلال التي 


م1 


تحتجب خلفها أقسام السقيفة الواسعة التي تبرز منها ماكنات غريبة قد. 
ساهمت جميعاً في ااتأثير على مرغريت التي قالت في نفسها برعب «لقد جن 
والدي» واقتربت منه وهمست في أذنه: «اصرف لولكينيه». 

كلاء كلاًء يا ابنتي» إنني بحاجة إليه, إنني انتظر نتائج تجربة فريدة لم 
يفكر بها الآخرون. لقد مرت ثلاثة أيام ونحن نترقب أشعة الشمسء بعد أن 
توصلت إلى وسائل أخضع فيها المعادن إلى فراغ تام بتأثير الحرارة الشمسية 
المركزة والتيارات الكهربائية» سترين خلال لحظات تأثير أكبر قدرة استطاع أن 
يتحكّم بها كيميائي» وأنا وحدي.... 

إيه! يا والديء بدلاً من أن تبخّر المعادن كان يجب أن تحتفظ بها 
لتسديد كمبيالاتك... 

- اتتظريء انتظري!. 

- لقد حضر السيد مرسكتس وهى يطالب بعشرة آلاف فرنك في الساعة 
الرابعة. ' 

نعم, نعمء حالاً. لقد وقّعت هذه الأشياء الصغيرة المستحقة هذا الشهر, 
هذا صحيحء كنت أعتقد أنني سأصل إلى الكشف عن المطلق. يا إلهي! لى كان 
لدي أشعة شمس شهر تموز لتمت تجريتي بنجاح! 

شد بلتزار شعره بيديه» وجلس على مقعد قديم مخلوع من القصب, 
وتدحرجت بضع عبرات من عيتيه. 

«إن سيدي على حق» فكل ما أصابنا نتيجة شم هذه الشمس الضعيفة 
جداً, يا لخستها وكسلها. 

لم يبد على المعلم والخادم أنهما يعيران انتباها لمرغريت؛ فقالت: «اتركنا 
يا مولكنيه». 


- «آه! إنني أجرى تجرية جديدة»» هتف كلايس. 


ةط _- 


والدي» ان عليك تسديد مئة ألف فرنك؛ ونحن لا نملك فلساً منها. اترك مخبرك 
فالأمر الآن متعلّق بكرامتك. ما مصيرك عندما تغدى في السجن؟ أتلطخ شيبتك 
واسم أل كلايس بعار تفليسة؟ إِنّنِي أعارض ذلك؛ وسيكون لدي القوة لمصارعة 
جنونك. إنه لأمر مرعب أن أراك جائعاً في أيامك الأخيرة. افتح عينيك وتطلع 
إلى وضعناء ألا تتمالك رشدك أخيراً؟ 

- جنون! صاح بلتزار وقد هب واقفاً» ووجه نظرات ملتهبة إلى ابنته, 
وصالب يديه على صدره. وردّد كلمة «جنون» بمهاية دبت الرعشة في نفس 
مرغريتء ثم قال: «آه! إن أمك لم تتفوه بهذه الكلمة» ولم تكن تجهل أهمية 
أبحاثي, لقد انكبّت على دراسة العلم لتفهمنيء وكانت تعرف انني أعمل من أجل 
الانسانية وأنني منرّه عن كل أنانية أى عيب. إن عاطفة المرأة المحبة» كما أرى, 
هى فوق مودة الأبناء. نعم إن الحب أجمل العواطف! «أمتلك رشدي؟» تابع وهو 
عل م «هل ينقصتي الرشد؟ الست أنا ذاتي؟ إننا فقراء؛ يا ابنتي» 
الواقع إنني أريد ذلك إتني والدك ولي عليك جق الطاعة. سأجعلكم أغنياء عندما 
يروق لي ذلك. إن ثروتكم لم تك إلا شيئاً زهيداً» وعندما أتمكن من إيجاد مذيب 
للكريون فسأملاً غرفة جلوبسكم الماساً. وهذه ترّهة بالمقارنة مع ما أبحث عنه. 
يمكنكم أن تنتظروا إفتاء ذاتي في هذه الجهود الجبارة. 

- يا أبيء ليس من حقي أن أساءلك عن أربعة ملايين بددتها في هذه 
السقيفة بدون نتيجة ٠‏ لن أحدثك عن أمي التي قتلتهاء لى أن لي زوجاً لأحببته 
دون شك بمقدار ما أحببت أمي» وساكون مستعدة لأن أضحي له بكل شيء كما 
ضحت أمي لك بكلّ شيء. إنني أتّبع تعليماتها بانصرافي إليكم كليّة وقد 
برهنت لك عن ذلك بعزوفي عن الزواج حتى لا الزمك بأن تعيد لي ما أفقدتنيه 
وصايتك. لنترك الماضي ولنفكر بالحاضرء لقد أتيث إلى هنا أعرضص ضرورة 
ملحة خلقتها ينفسك. يلزم مال لتسديد كمبيالاتك: أتسمعني؟ وليس هنا ما يمكن 
وضع اليد عليه إلا صورة جد عائلتنا فون كلايس. إنني هنا إذاً باسم أمّي التي 
وصلت إلى حالة من الضعف لم تستطع فيها أن تحمي أولادها من تهور والدهم 


يعم1- 


وطلبت مني أن أصمد أمامككء إنني هنا باسم أخوي وأختي» إنني هناء يا 
والدي؛ باسم جميع آل كلايس أطلب منك أن تتخلّى عن تجاربك وأن تلتفت إلى 
البلاء الذي أنت فيه قبل متابعتهاء وإن كنت تتسلّح بحق أبوتك التي لا نصى إلا 
أنها سائرة بنا إلى الموت فإِنْ إلى جانبي جميع أسلافك والشرف الذين تعلى 
أصواتهم على صوت الكيمياء. إِنْ الالتزام بالعائلات له الأفضليّة على العلم. 
إِتّني في هذا ابنة أبي. 

- «وتريدين أن تكوني جلادي» قال بصوت ضعيف. 

انسحبت مرغريت عند ذلك كي لا تتراجع عن الموقف الذي اتخذته وخيل 
إليها أنها تسمع صوت أمّها عندما كانت تقول لها: «لا تخالقي والدك 
كثيرا ؛ وأحييه جيدا؟» 

«إن الآنسة تقوم في الأعلى بنشاط متميّز»! قال لمولكينيه وهو ينزل إلى 
المطبخ لتناول فطوره.» سنضع يدنا على السن ولن يلزمنا إلا قليل من شمس 
تموز لأن السيّدء آه! ياللرجل! إِنّه تقريباً على خطا خالق الكون» لن يلزمه إلا 
بقدر هذا الأمر التافه لنتوصل إلى مبدأً كلّ شيء؛ قال هذا لجوزيت وهو يطقّ 
ظفر إبهامه على السنْ المسمى شعبياً المضرب. «لكن باتاترا! لقد أتت الآنسة 
وهي تصيح من أجل هذه الكمبيالات التافهة». 

- دحسن؛ لم لا تدفعها من أجورك إذاً؟» قالت مرتا. 

«ألا يوجد قليل من الؤيدة لوضعها على شطيرتي من الخين»؟ طلب 
لمولكينيه من جوريت. 

- وأين الدراهم لشرائها؟ أجابت الطباخة بحدة. إذا كنتما أيها الغول 
العجوز تصنعان الذهب في مطبخكما الشيطاني» فلماذا لا تصنعان قليلا من 
الزيدة؟ لن يكون الأمر صعباً جداً وستبيعان في السوق ما يتحرك في القدر. 
إننا نتناول الخيز الجاف نحن الذين هناء وهاتان الآنستان تكتفيان بالخيز 
والجوزء إذاً ستكون عندئذ وجبتك أقضل من وجبات سيدتي المنزل! إن الآنسة لا 
تريد أن تنفق أكثر من مئة فرنك شهرياً على المنزل بكامله؛ وتحن لا نحضر إلا 


-4181- 


وجبة العشاء. فإذا أردتما الطيبات, فلديكما أفرانكما في الأعلى حيث تقلون 
اللآلىء التي هي حديث الناس في السوقء يمكنكما إذاً أن تحمرا الدجاج». 

تنوال لمولكينيه قطعته من الخبز وخرج فعقبت مرتا على ذلك بالقول: 
«سيشتري شيئاً ما من ماله الخاص؛ هذا أفضلء فهذا يوفر على المنزل. كم هو 
بخيل! هذا الصيني! قالت جوزيت:» يجب تجويعه لتطويعه, لقد مرت ثمانية أيام 
لم يجلٌّ فيها شيئاً وأنا أقوم بهذا العمل عنهء فهى دائماً في الأعلى. كان 
بإمكانه أن يعوضني عن ذلك بإمتاعنا بيعض رتكات يحملها إليناء تقد كنت 
أتقبل منه ذلك يسرور. 

- قالت مرتا: »آه! إتني أسمع صوت نجيب مرغريت. إن أباها المشعول 
العتيق سيبظع المنزل دون كلمة لله. ياللساحر الخبيث. لى أنه في بلادي لأحرق 
حيّاً. لكن الناس هنا اقل إيماناً من.مور أفريقية. 

لم تستطع الآئسة كلايس أن تخنق عبراتها وهي تجتاز الرواق لتصل إلى 
غرفتها حيث فضت رسالة والدتها الأخيرة وقرأت فيها ما يلي: 

ديا ابنتيء ستكون روحي بمشيئة الله معك وأنت تقركين هذه الأسطرء 
وهي الأخيرة التي أخطها! إِنْها مليئة بحبّ صغاري الأعزاء الذين تركتهم بين 
يدي شيطان لم أعرف كيف أقاومه؛ لقد امتص إذاً خبزكم كما قضى على 
حياتي وحتى على حبي. 

تعلمين» يا حبيبتيء انني إن كنت قد أحبيت والدكم» فقد عملت على الآ 
يتلاشى العاشق من نفسي كلياً. لذلك اتخذت حياله احتياطات لم أجروء أن 
أصرح يها في حياتيء نعم لقد احتفظت في قرارة حدثي على مورد أخير 
ادخرته ليوم تصلون فيه إلى منتهى التعاسة: فإن أودى بكم إلى الفاقة» أى وجب 
أن تنقنوا شرفكم, فإتّك ستجدين يا ابنتي» لدى الأب دي سوليس إن كان لا 
يزال حياً» وإلاً لدى ابن أخيه إيمانويلنا الطيب» مبلغ مئة وسبعين ألف فرنك, 
يعينكم على الحياة. إن تعذر ما يكبح جموحه:؛ وإن لم يشكل أولاده حاجزاً أقوى 
لديه مما كانت سعادتيء وإن لم يتوقف عن سيره الإجراميء فاتركو) والدكم, 


- 189 


واحيوا على الأقل! إنني لم أتمكن من تركه لأنني ملتزمة به. وأنت يا مرغريت, 
أنقذي العائلة! إنني أغفر لك كل ما تفعلينه للدفاع عن غابرييل وجان وفليسيا. 
امتلكي الشجاعة؛ وكوني ملاكاً حارساً لآل كلايس؛ كوني حازمة ولا أجروء أن 
أقول بدون شفقة؛ لكن لإمكان رأب الصدع الحاصل يجب الاحتفاظ بقدر من 
المال ويجب أن تحسبي نفسك أنك في غداة يوم المصيبة وما من شيء يكبح 
ثوران الهوى الذي سلبني كل شيء. وهكذا يا ابنتي ستكون كل الطيبة في أن 
تنسي طيبة قلبك, وسيكون كتمانك: إن احتجت لإخفاء أمر عن والدك ممجداً, 
وأفعالك, مهما بدت ملومة؛ ستكون سامية ما دام هدفها حماية العائلة. هكذا 
أفتى لي الأب الفاضل دي سوليسء وما من ضمير في صفائه ويعد نظره مثل 
ضميرهة. 1 

لم أملك الجرأة على قول هذه الكلمات لك حتى وأنا على سرير الموت» 
ومع ذلك أبقى دائماً موقرة وطيبة في هذا الصراع الرهيب! قاومي مع 
محافظتك على الحبء وارفضي مع المحافظة على الرقّة. ستبقى إذاً لدي دموع 
مجهولة, وآلام لن تتفجّر إلا بعد موتي. 

قبلي عني أولادي الأعزاء في اللحظة التي ستصبحين فيها ملاذاً لهم. 

ليكن الله وجميع القديسين معك. 

اقترنت هذه الرسالة بتصريح من الأب دي سوليس واين أخيه يتعهدان 
فيه بتسليم ما أودعته السيدة كلايس لديهما إلى من يقدم لهما هذا التصريح 
من أينائها . 

نادت مرغريت العجوز التي صعدت بسرعة إليها: «مرتاء, اذهبي إلى 
السيد ايمانويل واطلبي منه أن يأتي لزيارتي»؛ وعادت إلى نفسها مفكّرة قائلة:» 
يا للانسان النبيل الكتوم, إِنّهِ لم يقل لي شيئاًء لي أنا التي أصبحت همومي 
ومتاعبي جزءا من متاعيه مهمومه.». 

وصل ايمانويل سريعاً بعد أن سبق مرتا قي طريق العودة؛ فقالت له وقد 
عرضت عليه التصريح «لقد كان لديك شيئاً سرياً يتعلّق بي». 


1# 


أحتى إيمانويل رأسه وهى يقول: «إذاً لقد وصلت إلى منتهى التعاسة, يا 
مرغريت» وترقرقت الدموع في عينيه. 

«أواه! نعم؛ فكن سستدي أنت الذي أطلقت عليك أمّي اسم إيمانويلنا 
الطيب». قالت ذلك وهي تريه الرسالة دون أن تستطيع إخفاء حركة تعبر عن 
قرحها لأن اختيارها قد حاز على قيول والدتها . 

- «إن دمي وحياتي أصبحا ملكا لك غداة اليوم الذي لقيتك فيه في 
الصالة» قال وهى يبكي فرحاً وألماً. «لكنني لم أكن أعلم؛ ولا أجروء على أن آمل 
قبولك لدمي في يوم ما. اذا كنت قد فهمتني تماماً» تدركين أن كلمتي مقدسة. 
اغفري لي هذا الالتزام المطلق لإرادة أمك؛ فليس لي أن أحكم على نواياها .» 

- «لقد أنقذتنا » قالت مقاطعة له. وقد أخذت بذراعه لتنؤل إلى غرفة 
الجلوس. بعد أن عرقت أصل المبلغ الذي يحتفظ به إيمانويل» وأسرت له 
بالضائقة المؤسفة التي ألمت بالمززل. 

- «يجب السعي لدفع الكمبيالات» قال ايمانويل «وإذا كانت جميعها لدى 
مرسكتوسء فستريحين الفوائد. سأسلّمك مبلغ السبعين ألف فرنك المتبقية يعد 
ذاك؛ ولقد ترك لي عمي المسكين مبلفاً مماثلاً بالدوقيات من السهل نقله خفية.» 

- «نعمء احمله ليلاء عندما يكون »الدي نائماًء وسنخفيه نحن سوية: فقد 
يستخدم معي العنف » إن عرف أن لدي مالاً. أوه» يا إيمانويل» يالصعوبة أن 
يحترس المرء من والده!» قالت ذلك وقد انهمرت دموعها وأسندت جبيتها إلى 
صدر الشاب. 

هذه الحركة الرقيقة الحزينة التي سعت فيها مرغريت لتلقي الحماية كانت 
أول تعبير عن هذا الحبّ المغلّف دائماً يالكآبة والمحاط دائماً بج من الألم لكن 
هذا القلب المترع وجب أن يفيضء وكان ذلك تحت تأثير البلية, 

ماذا يفعل؟ وماذا سيلّم به؟ إنه لا يرى شيئاً» ولا يهتم لا بنفسه ولا بتا 
ولا أعلم كيف يتمكّن من العيش في هذه السقيفة حيث الجىٌّ خانق. 

- ماذا تتتظرين من رجل يصرخ في كل لحخلة كريشار الثالث: «أقدم 


-8غ18- 


مملكتي لقاء حصان!()». سيكون دائماً قاسي القلب؛ ويجب أن تكوني مثله 
ادقعي كمبيالاته. اعطه إن شئت نصييك من المال: أما نصيب أختك ونصيب 
أخويك فهي ليست لك وليست له 

«أعطه نصيبي؟» قالت وهي تشد على يد إيمانويل وترميه بنظرة من تار؛ 
«أتقصحني بذاك أنت؛ بينما خلق لي بييركين ألف كذبة للمحافظة عليه. 

- للأسف! ريما كنت أنانياً على طريقتى: فأنا أحياناً أريدك بدون ثروة, 
إن يبدو لي عندئذ أنك أكثر قرياً مني» وأحياناً ا أن 

من الصقر أن نعتقد بإن الوجاهات التافهة للثروة ستفرق بيثثا . 

- يا عزيزي لا تتحدث عنا... 

- «عنا» ردد بنشوةء ثم أضاف بعد توقف:» إن البلية كبيرة ولكن ليس من 
المتعذر إصلاحها. 

- إِنْها ستصلح من قم قبلنا وحدنا؛ فعائلة كلايس قد خسرت سيّدها الذي لم 
يعد أباً أى رجلاً, وفقد كل مفهوم عن العدل واالظلم؛ إذ أنه على كبره وشهامته 
واستقامته؛ قد بدد رغم القاتون أملاك أولاد كان يجب أن يصونها! فإلى آية 
هوة قد وصل؟ يا إلهي! عم يفتش إذا؟!. 

- للأسف يا عزيزتي مرغريت: إن كان على خطأ كرب عائلة؛ فهو على 
صواب علمياً» وفي أوروبة نحو عشرين رجلاً يتطلعون إليه باعجاب بسيب 
الأعمال ذاتها التي يرميه عنها جميع الآخرين بالجنون. لكن يمكنك دون أي 
تردد أن تحولي بيئه وين رزق أولاده» وللاكتشافات دائماً صدفتها السعيدة: 
فإذا قدّر لوالدك أن يحظى بحل لمعضلته فسيهتدي إليه دون كلّ هذه النفقات, 
وريّما في اللحظة التي سيفقد بها الأمل بذلك! 

- إن والدتي قد نعمت بالسعادة, إذ أنّها قضت مع مواجهتها الأولى للعلم 

ولو أنها صمدت لعانت البالية عر را 001 لكن اليس لهذا 
الصراع نهاية؟. 


)١(‏ كلمة تاريخية هأخوذة من مسرحية «ريشار الثالث» لشكسبير. 


همع وه البحث عن المطلق م ١٠١.‏ 


- إن له نهاية: ونهايته عندما تفقدون كل شيء؛ ولا يجد السيد كلايس أي 
اعتماد فيضطر للتوقف. 

- «فليتوقف إذاً منذ اليوم؛ فقد أصبحنا بدون أي مورد»» هتفت مرغريت 
ذهب السيد دي سوليس فسدد قيمة الكمبيالات واستردها وأتى بها إلى 
مرغريت؛ وتزل بلتزار خلافاً لعادته قبل العشاء بفترة من الوقت؛ ولأول مرّة» منذ 
سنتين تلاحظ ابنته على ملامحه علائم حزن رهيب: لقد عاد أب فالرشد قد 
أزاح العلم. تطلّع إلى الغناءء وإلى الحديقة: وعندما تأكّد أنّه وحيد مع ابنته, 
أقبل إليها بحركة تملؤها الكآبة والطيبة» فتناول يدها وشدّ عليها بحنان فائق 
قائلاً: «يا ابتتي, اغفري لوالدك الكهل؛ نعم يا مرغريت: لقد كنت على خطأء 
كانت وه نان ادق وما دمت لم أكتشف ما سعيت إليه» فأنا انسان بائس,. 
سأذهب من هنا؛ لا أريد أن أرى قون كلايس يباعء قال هذا وهى يشير إلى 
صورة الشهيد» وتايع: «لقد مات مئ أجل الحرية:» وأتا سأموت من أجل العلم» 
إِنّه مبجل وأنا محتقر». 

إيه! ما دهاك ياأبي؟ كلاًء قالت ذلك وارتمت على صدره. «إننا نعبدك 
جميعاً. أليس كذلك يا فليسيا؟ منادية أختها التي دخلت في تلك اللحظة. 

مابك يا أبي العزيز؟ قالت الابنة الصغرى. 

- لقد سببت خرايكم. 

«ايه! إِنْ أخوتي سيجمعون ثروة لنا فجان هو الأول دائماً في صفّه» 
قالت فليسيا. 

قادت مرغريت والدها بحركة مليئة بالرقّة والملاطفة البنيوية إلى قرب 
المدفة حيث تناولت عن حافتها بعض أوراق كانت تحت الساعة الجدارية وقالت: 
«خنء هوذا كمبيالاتك, لكن لا تسجل غيرهاء فلم يبق لدينا ما تسدد يه... 

- «هذا يعني أنّك تمتلكين مالاً» همس بلتزار في أذن مرغريت بعد أن 
تغلب على دفشته. 

خنقت الغصة الْمرّة من هذه الكلمة حَلّق الابنة الشجاعة. سيما وقد 


-5غ8!ك- 


لاحظت الحبور والأمل وشيساً من الهذيان على وجه والدها الذي أخذ يتلقْت 
حولهء كأنه يحاول اكتشاف الذهب. 

ديا أبي؛ إن ما معي هى لي» قالت بلهجة تخالطها المرارة. 

- «أعطني إناهء وسارده لك مئة ضعف» قال وقد أفلتت منه حركة جشعة, 

«نعم, سأعطيك إياه» أجابت مرغريت وهي تتامل بلتزار الذي لم يدرك 
المعنى المبطن فى كلمة ابنته. 

- آد! يا ابنتي العزيزة: إن تنقذين حياتي! لقد قصوّرت التجرية الأخيرة, 
التي يغدى بعدها أي شيء غير ممكن؛ فإن لم أجد المطلق هذه المرة» فيجب 
العدول عن البحث عنه نهائياً؛ فسساعديني يا ابنتي العزيزة وخذي بيدي؛ إنني 
أريد أن أجعل منك أسعد امرأة على وجه الأرض,ء إِنْك تعيدين لي السعادة, 
والمجدء إنّك تؤمنين لي القدرة لأغمرك بالكنوزء ساملأ دنياك مجوهرات وثروات.» 

هرع إلى ابنته يقبل جبينهاء ويشد على يديهاء ويعبر لها عن غبطته 
بملاحظات بدت لمرغريت أشبه بالمذلّة» ولم يحول عنها عينيه خلال العشاءء كان 
يتطلّع إليها بمبادرة واهتمام وحيوية العاشق الذي يعبر لحبيبته عن عاطفته: فإن 
بدرت منها حركة؛ هب ليعرف مدلولها ويدرك رغبتها ويسرع لخدمتها بحيث 
أحست بالخجل يغمرهاء لقد تبت في عنايته روح الشباب التي تتناقض مع 
شيخوخته المبكّرة. لكن مرغريت كانت تناقض هذه التمقات مع لوحة الضيق 
السائد حالياًء سواء بكلمة تشكيكء؛ أى بنظرة تلقيها على وأجهات الخزائن 
الفارغة في غرقة الطعام. 

قال الأب: «هيّاء خلال ستة أشهر سنملا كل هذا بالذّهُب ويالعجائب: 
ستكونين كملكة, ياه! إن الطبيعة بكاملها ستكون تحت تصرقناء وسنكون فوق 
الجميع... ويفضلك انت... يا مرغريتي» يا مرغريتا! قال وهو يبتسم «إن اسمك 
هى نبوءة» فمرغريتا تعني لؤلوة. لقد ذكر سترن!') ذلك في مكان ما؛ هل قرأت 
سترن؟ هل تريدين أحد كتبه؟ إنه يسرّك. 
سن 19010009 كانس الطيدى موك نالزقلا لاقان و ودريطة نتفي 
وبلزاك من المعجبين به ويذكره مراراً في مؤّلفاته. لكن اسم مرغريت المذكّر بالزهرة الشبيهة 
باللؤلؤة هى من أصل فلمندي. 

1 41- 


إن اللؤاؤة. على ما يقالء هي ثمرة علّة مرضية في الصدفة؛ ونحن قد 
عانينا كثيراً من الآلام. 

لا تحزني ستحققين السعادة لكل من تحبين؛ ستصيحين قادرة جداًء 
وثرية جداً. 

- «إِن للآنسة قلباً طيّباً» قال لمولكينيه وهى يكشر بوجهه المجدر يصعوية 
عن ايتسامة ياهتة. 
بسط بلتزار خلال تتمة السهرة على ابنتيه كل ما تميّز به طبعه من ظرف ومن 
سحر في الحديث. كان مُضلاً كحيّة تسعى: ينساب من كاماته ونظراته وميض 
سيالة مغناطيسية؛ وقد استغل كل الاستغلال هذه القدرة المبدعة لديه. وهذه 
الروح العذبة التي فتنت سابقاً جوزفين. لقد وضع» إن صم القولء ابنتيه في 
قلبه. وعندما حضر إيماتويل دي سوليسء وجد لأول مرة؛ ومنذ مدّة طويلة» الأب 
وابنتيه مجتمعين؛ وقد استسلم مدير الكلية الشابء رغم تحفظه: لفتنة هذا 
المشهد فحديث بلتزار وأساليبه كانت ذات جاذبية أخاذة لا تقاوم. 
إن رجال العلم بالرغم من أنهم غارقون دائماً في لجج الفكر وينشغلون دون 
انقطاع في ملاحظة العالم المعنوي» فهم مع ذلك يلاحظون أدقّ تفاصيل المحيط 
الذي يعيشون فيه إِنّْهِم في غير زمنهم أكثر منهم شاردون؛ وهم ليسوا أبداً في 
انسجام مع ما يحيط يهم؛ يعرفون وينسون كل شيء؛ يحكمون مسبقاً على 
المستقبلء يتنبؤون من أجل أنفسهم فقطء يعيشون الحدث قبل وقوعه لكن دون 
أن يتحدثوا عنه بشيء؛ وإن استخدمواء في صمت التأملات؛ قدرتهم للتعرف 
على ما يدور حولهم فإنهم يكتفون بالتيقن من تخمينهم له. يستغرقون في العمل 
ويطبقون بشكل خاطىء تقريباً» وفي معظم الأحيان: المعارف التي اكتسبوها من 
شؤون الحياة. أحياناً» عندما يستيقظون من لاميالاتهم الاجتماعية؛ أى عندما 
يهبطون من أبراجهم العاجية إلى عالم الواقع؛ فإِنّهِم يعودون إليه بذاكرة غنية 
دون أن يفوتهم شيء. 
هكذا كان بلتزارء الذي يجمع نفاذ الفكر الذهني إلى دقة الملاحظة العاطفية, 


سرع 1- 


يعرف كل ماضي ابنته. فهى قد ادرك أى من أدقّ أحداث هذا الحب الخفي 
الذي يربط بينها وبين إيمانويل؛ ودلل على ذلك بمهارة موافقاً على رابطتهم 
العاطفية بإشعارهم بمباركته لهاء فكان ذلك أعذب إطراء يمكن لآب القيام به, 
وقد تلقاه العاشقان دون ممانعة؛ فعم الحبور تلك السهرة بالتضاد الذي شكّته 
مع الكآبات التي كانت ترهق حياة هؤلاء الأولاد التعساء؛ وأخيراً اتسحب 
بلتزارء بعد أن سكب عليهم أنواره وأفعمهم بحنانه؛ إن صح القول؛ فأسرع 
إيمانويل دي سوليسء الذي كان يبدو متضايقاً. إلى التخلّص من ثلاثة آلاف 
بوقيّة من الذهب :مورعة في جيوية اند خفني آن ياحظ الأب وجودهاء ووضضعها 
على طاولة شغل مرغريت التي غطتها بقطعة قماش كانت ترقوها بينما ذهب 
إيمانويل ليأتي ببقيّة المبلغ» عندما عاد كانت فليسيا قد ذهبت للنوم: ومرتا 
مشغولة معها ساهرة تنتظر لتساعد سيدتها في خلع ملابسها. 

دقت الساعة الحادية عشرء وتساطت مرغريت «أين نخبىء هذا المبلغ؟» 
دون أن تستطيع مقاومة غبطة اللعب بتحريك بعض الدوقيات في عبَث فقدته 
ا 

قال ايمانويل: «سازيح هذا العمود من المرمر ذي القاعدة المفرغة حيث 
تضعين هذه الصرر ولن يهتدي حتى الشيطان إليها هنا .». 

في اللحظة التي كانت مرغريت تقوم بنقلتها ما قبل الأخيرة بين منضدة 
الشغل وعمود المرمرء أطلقت صرخة ثاقبة وتركت الصرر تسقط منها فتثقب 
القطع الذهبية الورق وتتناثر على أرضية الغرفة: فقد كان آبوها واقفاً على باب 
غرفة الجلوس ويطل برأسه وعلى ملامح وجهه تعبير جشع أرعبها. 

«ماذا تفعلان إذا هنا؟» قال وهى ينقل نظرة بين ابنته التي سمرها الفزع 
قي مكانها والشاب الذي انتصب فجأة: لكن وقفته إلى جانب. العمود كانت 
معبرة تقريباً. كانت قرقعة الذهب على أرضية الغرفة رهيبة؛ وبدا تناثره تنبوئياً, 
وقال بلتزار بعد أن دخل وجلس: «لم أكن منخدعاًء لقد سمعت رنين الذهب». 
لم يكن أقلّ تاثراً من الشابين اللذين كان قلبأهما يخفقان متجاويين حتى أن 


-148- 


وجيبهما كان يسمع كضريات نواس وسط الصمت العميق الذي ران فجأة على 
غرفة الجلوس. 

«إثني أكرر شكري لك يا سيد دي سوليس» قالت مرغريت لأيمانويل وفي 
ترميه بنظرةء وكأنها تقول: «أعني لانقاذ هذا المبلغ». 

«ماذاء هذا الذهب...» قال بلتزار وهى ينظر بجلاء مرعب إلى ابنته وإلى 
ايمائويل. 

«هذا الذهب للسيد الذي تكرم بإعارته لي لتسديد ديوتنا» أجابت. 

- احمرّ السيد دي سوليس خجلاً وأراد الخروج؛ فامسك بلتزار بذراعه 
قائلاً:: «لا تتهرب أيها السيد من إبداء شكري لك». 

- «سيديء أنت لست مديناً لي بشيء. إن هذا المال للآنسة مرغريت التي 
استدانته مني برهن أملاكها» قال وهى ينظر إلى حبيبته التي شكرته برفة جفنين 
غير ملحوظة. 

- «لن أشكو من ذلك» قال كلايس وتناول قلماً وورقة عن الطاولة التي 
تكتب عليها فليسيا والتفت إلى الشابين اللذين عرتهما الدهشة قائلاً: «ماهى 
المبلغ؟» لقد جعل الهوى بلتزار أكثر مكراً من أمهر أمناء الصتاديق في الخيث؛ 
إن هذا المبلغ سيكون له. وتردد سوليس ومرغريت فقال كلايس: «لنعد» وأجاب 
دي سوليس: «هنا ستة آلاف دوقية». 

«سيعون ألف قرنك» تابع كلايس, 

شجعت النظرة التي وُجهتها مرغريت حبيبها فقال وهى يرتجف: «سيدي: 
إن تعهدك دون قيمة, اغفر لي هذا التعبير التقني الخالصء لقد أقرضت الآنسة 
هذا الصباح مئة ألف فرنك لتسترد الكمبيالات التي لم تكن قادراً على 
تسديدهاء فلا يمكنك إذا أن تقدم لي أية ضضممانة. إن هذه المثة وسبعين ألف 
فرنك هي للآنسة ابنتك التي يمكن أن تتصرف بها كما يحلو لهاء لكنني لم 
أقرضها إياها إلا بعد وعد منها بتنظيم عقد برهن حصتها في أرض وينبي 
الجرداء ضضماناً لمالي. 


حل هات 


أزاحت مرغريت رأسها كي لا تَلْحَظ الدموع التي ترقرقت في عينيها 
إِنّها تعرف نقاء قلب إيمانويل الذي أنشاه عمه متقيداً بأشد الفضائل الدينية 
قسوة؛ فهذا الشاب يروعه بصورة خاصة اللجوء إلى الكذب: وهكذا فيعد أن 
قدم حياته وقلبه لمرغريت؛ ها هو الآن يضحي براحة ضميره. 

قال بلتزار: «وداعاً أيْها السيدء لقد ظننت أنك أكثر ثقة برجل كان 
يعتبرك بمثابة ابن له». 

خرج إيمانويل بعد أن تبادل مع مرغريت نظرة ملؤها الأسف» ورافقته 
مرتا حتى الباب الخارجي وأغلقته بعد خروجه. 

ما أن أصبح الأب والابنة منفردين» حتى التفت كلايس إلى ابنته قائلاً: 
«أتحبينني أليس كذلك؟» . 

-«لا تنج إلى الموارية» يا أبي» إنك تريد هذا المبلغ» ولن تحصل عليه 
أبدأ». 

أخذت تجمع الدوقيات: ووالدها يساعدها بصمت وهى يتحقق من المبلغ 
المتجمعء ومرغريت تتركه يفعل دون أن تخالجهاأية ريبة. ويعد جمع الستة آلاف 
دوقية ولقها في صدرهاء قال بلتزار بلهجة القانط: «مرغريتء إنتي بحاجة إلى 
هذا الذهب!». 

- «ستكون سرقة إن أخذته» أجابت ببرود» ثم تابعت: «اسمع يا أبي» من 
الأفضل أن تقتلنا جميعاً دفعة واحدة؛ بدلاً من أن تذيقنا الموت كل يوم ألف 
مرّة. فانظر من منا الذي يجب أن يستسلم. 

- إذن ستقتلين والدك. 

- «سيكون في ذلك انتقام لأمي». قالت وهي تشير إلى المكان الذي توفيت 
عليه السيدة كلايس. 

- يا ابنتي؛ لى تعرفين ما الأمرء لما رميتني بهذه الكلمات. اسمعي, 
ساشرح لك المسالة... لكنك لن تفهمينني؟ صاح بيأس. أخيراًء هات! ثقي بأبيك 
مرة. نعم إنني أعلم أنني أسات إلى أمكء وإنني بددت ثروتي كما يقِول 


أإهمط!ا- 


الجاهلون؛ وأنني اختلست أموالكم؛ وإنكم تعملون جميعاً من أجل تجنيبي ما 
تسمونه جنوناً؛ ولكن يا ملاكي» يا حبيبتيء يا حبّيء يا مرغريتي. ألا تستمعين 
إلي؟ إذا لم أنجح؛ ساضحي بنفسي من أجلك: ساطيعك كما يجب أن تطيعيني 
أنتء سأمتثل لإرادتك. ساترك لك حرية التصرف بثروتي: ساتخلى عن وصاية 
أولادي» ساتنازل عن كل سلطة لي أقسم بذكري والدتك» قال ذلك وهى يدرف 
الدموع. فأزاحت مرغريت رأسها كي لا ترى هذا الوجه الباكي. وألقى كلايس 
بنفسه على ركبتي ابنته معتقداً بأنها قد امتثلت لرغبته. 

- مرغريتء مرغريت! أعطنيء اعطني! ما قيمة ستين ألف فرنك تتجنبين 
معها تبكيت ضمير أزلي؟ أترين: سأموتء رفضك يقتلنيء ألا تسمعيتني؟ 
ستكون كلمتي مقدسة:؛ إن فشلتء سأتخلى عن تجاربي: سأترك الفلاندر يل 
فرنسة بكاملها إن طلبت ذلك؛ وأذهب لأعمل عاملاً يدوياً وأجمع الفلس يعد 
افلس لأحمل يوماً إلى أولادي ما أخذ العلم مثهم». 

أرادت مرغريت أن تنهض أباهاء لكنه أصرٌ على البقاء جاثياً عند 
ركبتيهاء وأضاف وهو يبكي: «ألا تكونين لآخر مرّة رحيمة ومضحيّة؟ إذا لم 
أنجح,» فإئني أعطيك أنا بافذات الحق في قسوتك. ناديني عجوزاً مجنوناً! 
سميتي أباً سيئاً؛ أخيراً قولي إنني انسان جاهل! وآنا عندما أسمع كلماتك 
فإنني أقبل يديك. يمكنك ضربي إذا شئتء وعندما تضريين سأياركك كتحسن 
البنات متذكراً أنك قد أعطيتتي دمك. 

«لى أن الأمر يتعلّق بدمي فقط لأعطيته لك؛ لكن هل يمكنني أن أترك 
أخي وأختي يذبحان بالعلم؟ كلا توقّف, توقّف» قالت وهي تمسح دموعها وتدقع 
عذها يدي والدها المداعبتين. 

- قال وهى ينهض غاضباً: «ستون ألف فرنك وشهران: هذا ما يلزمني: 
لكن ابنتي تقف حائلاً بيني وبين المجد والغنى. عليك اللعنة, فلست ابنة:'ولا 
امرأة: وليس لك قلبء ولن تكوني أماً أى زوجة. 


مهاه 


ارتد بعد ذلك قائلاً: «ألا تتركيني أخذها؟ قولي يا صغيرتي العزيزة» يا 
ابنتي العزيزة. سأعبدك» أضاف وهو يمد يده إلى الذهب بحركة قوية شرسه. 

- إنني عزلاء ضد القوة» لكن الله وكلايس الكبير يرياننا! قالت مرغريت 
وهي تشير بيدها إلى صورة الجد. 

- «حسنء» جربي أن تعيشي مضرجة بدم أبيك» صاح بلتزار وهى يرميها 
ينظرة مرعبة؛ ثم نهض وتأمل غرفة الجلوس وخرج بهدوء؛ وعند وصوله إلى 
الباب؛ التفت كما يفعل الشحاذ مادا يده بحركة استجداء؛ ردت عليها مرغريت 
بإشارة نفي من رأسها فقال بعذوية: «وداعاً يا ابنتي» جريي أن تعيشي 
سعيد 8)». 

عندما ايتعد» بقيت مرغريت في خدر أحست فيه انها انعزلت عن الأرض» 
فهي لم تعد في غرفة الجلوسء وإم تعد تشعر يجسنمهاء فكأن لها أجنحة تحلّق 
بها في أجواء عالم الروح حيث كل شيء واسع وحيث الفكر يقرب الملسافات 
والأزمان» وحيث توجد يد إلهية ترفع الحجب التي تغطي المستقبل. لقد بدا لها 
أن أياماً كاملة تنقضي بين كل خطرة وأخرى يجريها والدها وهى يصعد السلّم: 
وأحت بقشعريرة مرعبة في اللحظة التي سمعته فيها يدخل إلى غرفته. قادها 
حدس سكب في روحها جلاء البرق الحاد, فهرعت تجتاز السلالم» دون نور, 
ودون ضجة:؛ وبسرعة السهم إلى حيث وجدت أباها يسدد إلى صدغه مسدساً, 
فصاحت وهي ترتمي عليه «خذ كل شيء». ثم تهالكت على مقعد. 

نظر إليها بلتزار وهي شاحبة فئخذ ييكي كما يبكي الشيوئء لقد عاد 
كطفلء وقبّل جبينهاء وقال لها عبارات لا انسجام بينهاء لقد كان مستعداً لأن 
يقفز طرياً» وبدا وكأنه يريد أن يداعب ابنته كما يداعب العاشق حبيبته بعد أن 
ملت تفسه سعادة. 1 

«كفىء كفىء يا والديء فكّر بومدك» وبوجوب اطاعتي عندما يخيب 
مسعاك» 

قعم, 


سا6 أ 


-«آه! يا أمي» كنت ستعطين كل شيء أليس كذلك؟» قالت وهي تلتفت 
نحى غرقة أمها . 

- «نامي بسلام. إِنّك ابنة طيّبة» قال يلتزار. 

- أنامء لقد فقدت ليالي الشبابء لقد أهرمتني يا والدي. كما أذبلت ببطء 
قلب أمي. 

يا ابنتي المسكينة؛ أريد أن أطمئنك بأن أشرح لك نتائج التجرية الفريدة 
التي تصورتهاء أتدركين. 

«إنني لا أدرك إلا خراينا» قالت وهي تغادر الفرفة, 

في صياح اليوم التالي. كان يوم عطلة أحضر إيمانويل دي سوليس جان 


«ماذا حدث؟ قال بحزن وهى يلقى مرغريت. 

«لقد استسلمت» أجايت. 

قال بحركة ممزوجة يغبطة كئيبة: ديا حياتي العزيزة؛ لى أنك قاومت 
لأعجبت يك. أما وَأَنّك ضعفت فاأنا أعيدك.» 

مسكين, مسكين يا إيمانويل: ماذا سيتبقى لنا؟. 

- «اتركيني اتصرّفء يكفي أننا متحابان» وسيتم كل شيء على ما يرام» 
هتف الشاب وعلى سيمائه ملامح الإشراق., 

مرت بضعة أشهر في هدوء تام: وأفهم دي سوليس مرغريت أن 
توفيراتها الشحيحة أن تشكل أبداً ثروة؛ ونصحها بأن تعيش في يسر فتاخذ 
من أجل رقاه المنزل بعض ما تبقى من المبلغ الذي أؤتمن عليه. 

خلال تلك الفترة استسلمت مرغريت للقلق ذاته الذي أكّر على والدتها 
في ظرف ممائل؛ فأيًا كانت درجة جحودهاء لا بد من أن يعتريها شيء من 
الأمل المعقود على عبقرية والدها. هذا الأمل الذي يخامر كثيراً من الناس دون 
أن تعتمر نفورسهم بالايمان: وتلك ظاهرة لا تفسيرء فالأمل هى زهرة الرغبة 
المتفتحة؛ أما الإيمان فهى ثمرة اليقين. كانت مرغريت تقول في نفسها: «إن تجح 


164 


أبي سنعيشء, سعداء. وكلايس ولمولكينيه وحدهما يقولان سننجيم. للاسف يوماً 
بعد يوم؛ أخذ وجه هذا الرجل يكتئبء وعندما يحضر العشاءء لا يجروء أحياناً 
أن ينظر إلى ابنتهء وأحياناً يتطلع إليها أيضاً بنظرات الظفر. كانت مرغريت 
تقضي أمسياتها مستفهمة من دي سوليس الشاب عن بعض الصعويات 
القانونية. وكانت ترهق والدها بالأسئلة عن صلاتهم العائلية. أخيراً فإنها أنهت 
ثقافتها الرجولية(). كانت تحضر دون شك لنفيذ خطة فكّرت بها في حال فشل 
والدها مرة أخرى في صراعه مع 'المجهول «س» 

في مطلع شهر تموز (') قضى بلتزار نهاراً كاملاً وهى جالس على مقعد ٠‏ 
في حديقته في تأمل كثيب. نظر عدة مرات إلى تلّة الخزامى العارية؛ وإلى نواقذ 
غرفة زوجته, كان يرتعش دون شك وهى يفكر إلى كل ما بذله في هذا الصراع: 
وكانت حركاته تنم عن أفكار لا علاقة لها بالغلم: جاءت مرغريت وجلست قريه 
تطرن بغض الوقت قبل موعد العشاء. 

«حسينء يا أبي» يبدى أن النجاح لم يحالقك». 

كلا يا ابنتي. 

آهء قالت مرغريت بصوت ناعم؛ لن أوجه إليك أدنى لوم: فنحن جنعياً 
مدانون. لكنتي أطلب فقط تنفيذ كلمتك التي وجب أن تكون مقدسه؛ فأنت سليل 
كلايس وأولادك يغمرونك حباً واحتراماً» لكنك منذ الآن تعود لي وتتوجب عليك 
طاعتي. لا تقلق» فملكيتي أن تكون جائرة وسأعمل على إنهاء عهدها بسرعة. 
ساترككم لمدة شهر تقريباً وسترافقني مرتاء ولأمر يتعلّق بك إن أنك ولدي 
المحبّب؛ قالت ذلك وقبلت جبينه. غداً ستدير فليسيا المنزل والفتاة المسكينة ما 
تزال في ربيعها السابع عشر ولت تعرف التصدي لك فكن شهماً ولا تطلب _ 
منها فلساً لآأن ليس لديها لاما يكني اتانين تفدات النزل. تجراً وتخل لمدة 
سنتين أى ثلاث سنوات عن تجاربك وأفكارك. وستنضج الفكرة خلالهاء وأكون 
قد أمّنت لك المال اللازم لحلها وستحلّها. حسن, أليست ملكتك متسامحه. 
)١(‏ المقصود يذلك الثقافة التي تتطلبها إدارة المنذل وشؤون العائلة بعد أن أصبحت مرغريت 


هي المديّرة لها عوضاً عن والدها. 
(؟) يبدى هذا مستغرياً بعد أن عير بلتؤار سايقاً عن أهله بحرارة شهر تموز لنجاح تجاريه. 


دمهةط1ا- 


- دلم يضع إذا كل شيء» قال العجون. 

كلا إذا كنت أميناً على وعدك. 

«ساطيعك يا ابنتي» أجاب كلايس يانفعال عميق. 

في اليوم التالي حضر السيد كونينكس دي كامبري ليقل قريبته 
الصفيرة؛ وكان في عربة سفرء وإم يرد أن يبقى لدى قرييه إلا الوقت اللازم 
لمرغريت ومرتا لتهيئة متاعهما. استقبل السيد كلايس ابن عمه بيشاشة وكان 
الحزن والمذلٌ ظاهران عليه. خمن كونينكس العجوز ما يدور في خاطر بلتزار من 
أفكارء فقال له على مائدة الغداء بصراحة متثاهية: «إِنّْ لدي بعض لوحاتك يا 
ابن العم. فأنا من هواة اللوحات الجميلة؛ إنه هوى مدمرء ولكن هذا الجثون 

أيها الخال العزيزا قالت مرغريت. 

إِنّك تعتير نفسك مفلساً؛ يا ابن العم, لكن سليل آل كلايس يمتلك دائماً 
كنوزاً هناء وأشار إلى جبينه؛ وهنا؛ أليس كذلك؟ وأشار إلى قلبه؛ وهكذا فأنا 
أعتمد عليك! لقد وجدت في كيس تقودي بعض إكى أضعها تحت تصرفك. 

آه!ا هتف بلتزار ساردها لك كنوزا. 

«إن الكنوز الوحيدة التي نمتلكها في الفلاندر» يا ابن العم, هي الصبر 
والعمل؛ أجاب كونينكس بقسوة. فسلفنا الكبير نقشت على جبينه هاتين 
الكلمتين» قال ذلك وأشار إلى صورة الرئيس قون كلايس. 

قبلت مرغريت والدها مودعةء وأعطت تعليماتها لجوزيت ولفيليسيا 
واستقلّت العرية إلى باريس. كان العم الكبير أرملاًء وليس له إلا ابنة في الثانية 
عشرء ويمتلك ثروة واسعة؛ لذلك لم يكن مستحيلاً تفكيره بالزواج؛ وهكذا ظن 
سكان دوي أن الآئسة كلايس ستتزوج قريبها العجونء وقد أحدثت شائعة هذا 
الزواج الغني ضجة دفعت بييركين موثق العقود إلى المجيء إلى منزل آل 
كلايس» بعد أن طزات عن أفكار هذا الحسئاب الممتاز تفيرات كبيرة؛ فمنذ 
سنتين انقسم مجتمع المدينة إلى معسكرين متعادين يتألف الأول من النبلاء 


ل 


والثاني من البورجوازيين المعادين بشدة للفريق الأول. هذا الفصل المفاجىء 
الذي حدث قي كل فرنسة فقسمها إلى أمتين متعاديتين تصاعدت حساسيات 
التحاسد بيتهما متزايدة فكانت إحدى أهم الأسباب التى دفعت إلى تبني ثورة 
تمون 1410 في الأقاليم. بين هذين المجتمعين المتطرقين أحدهما في ملكيته 
والآخر في مطالبته بالحريات تورّع الموظفون وفق درجة أهميتهم: في هذا 
المجتمع أى ذاك. أما في حال سقوط السلطة الشرعية فإنهم يقفون على الحياد. 
في بدء الصصراع بين النبلاء والبورجوازيين عرفت المقاهي الملكية فخامة خارقة, 
وتنافست بامتياز مع مقاهي الأحرارء حتى أن هذه التظاهرات الذواقة قد أودت» 
على ما يقالء بحياة عدة أشخاص بدوا ممائلين لملاط سيء السبك فلم 
يستطيعسوا الصمود أمام هذه التجارب؛ وبالطبع فإن المجتمعين تصفيا 
باتحصارهما . 

استيعد بييركين؛ بالرغم من غتاه الفاحش كرجل إقليم» من حلقات 
الارستقراطيين ودفع إلى تلك العائدة للبورجوازيين» وقد أحس بطعنة في كبريائه 
من الإخفاقات المتتابعة التي تلقاها وهى يرى نفسه يستبعد تدريجياً من قبل 
أشخاص كانوا يرحبون بمعاشرته منذ عهد قريب. لقد بلغ الأريعين من العمرء 
وهي المرحلة الأخيرة من الحياة التي يبقى فيها للرجال المرشحين للزواج الأمل 
بقبول احدى الشابات الاقتران بأحدهم؛ والمرشحات اللواتي يمكن أن يرتضين 
به ينتمين إلى البورجوازيه؛ بينما يمتد به الطموح إلى البقاء بين علية القوم حيث 
يمكن لمصاهرة نبيلة أن تدخله وتثيته, 

كانت العزلة التي تعيش فيها عائلة كلايس قد جعلتها غريبة عن هذه 
الحركة الاجتماعية؛ وبالرغم من أن كلايس ينتمي إلى الارستقراطية العريقة في 
المقاطعة يبدى أن مشاغله قد حالت بينه وبين الامتثال إلى هذه التنافرات التي 
خلقها التصنيف الجديد للأشخاص؛ ومهما بلغ الفقر يفتاة من آل كلايس فإنها 
تحمل إلى زوجها هذه الثروة من الزهى التي يتمتاها جميع محدثي النعمة. عاد 
بييركين إذا إلى آل كلايس وقد أضمر رغبة خفية بالقيام بكلّ التضحيات 


لاه 


الضرورية للتوصل إلى عقد زواج يحقق جميع طموحاته؛ فلازم بلتزار وفليسيا 
اخلال غياب مرغريت:؛ لكنه أحسُ متآخراً بوجود منافس خطر له في شخص 
إيمانويل دي سوليسء إذ بدت تركة عمه المتوفي معتبرة, وفي عيني رجل يقيم 
كل أمور الحياة بسذاجة من خلال الأرقامء بدا له الوريث الشاب أكثر قدرة 
بماله منه بإغواءات القلب التي لم تكن تقلق أبداً بييركين. هذه الثروة ردت إلى 
اسم دي سوليس كل قيمته. فالذهب والنبل هما كثريتين تستضيء إحداهما 
بالأخرى فيتضاعف بريقها. كان الود الصادق الذي يبديه مدير الكلّية الشاب 
لفيليسيا ومعاملته لها كئخت يثير روح المنافسة لدى موثق العقوده.فيجرب أن 
يكسف ألق أيمانويل بمزجه اللغة الدارجة مع الموضة وتعابير الملاحظة السطحية 
ذات المظاهر الحالمةمع المراثي القلقة التي تتماشى جيداً مع شكله. كان يعبّر 
عن خيبة آمله من كل شيء من العالم ويتوجه بعينيه إلى فليسيا بطريقة يريد 
فيها أن يجعلها تعتقد أنّها الوحيدة القادرة على مصالحته مع الحياة؛ وكانت 
فليسيا التي يوجه إليها رجل لأول مرّة الإطراء, تستمع إلى هذه التعالبير الحلوة 
دائماً حتى عندما تكون كاذبة؛ وقد اعتبرت الخواء عمقاً. وهي في إحساسها 
بالحاجة التي تدفعها إلى تحديد العواطف المبهمة التي يزخر بها قلبهاء اهتمت 
بابن العم ريّما عن غيرهء دون أن تدري» سبّبتها الاهتمامات المتدلهة التي كان 
. بيديها ايمانويل لأختها. لقد أرادت دون شك أن ترى تقسهاء كآختها؛ هدقاً 
للنظرات والأفكار والاهتمامات التي يوجهها إليها رجل. 
أحس بييركين بسهولة بالتفضيل الذي منحته إياه فليسيا على إيمانويل, 
واعتيره سبّباً لمواصئة جهوده بحيث أنه ارتبط أكثر مما أراد؛ وكان إيمانويل 
يرقب بدايات هذا الهوى الكاذب على الأرجح: لدى موثق العقودء والبريء لدى 
فليسيا رغم أن الأمر يتعلّق بمستقبلها. قامت بين آبناء العم بعض محادثات 
لطيفة؛ وبعض كلمات يُهمس يها بعيداً عن سمع إيمانويل: آخيراً» هذه الحُدّع 
الصغيرة التي تعطي للنظرة والكلمة تعبيراً قد تسبّب حلاوته الماكرة أخطاءٌ 
ساذجة. جرب بواسطة العلاقة التي ينشئها بييركين مع فليسيا أن يصل سر 


ةماه 


الرحلة التي تقوم بها مرغريت ليعرف إن كان الأمر يتعلّق بزواج؛ وإن كان يجب 
أن يتخلّى عن آماله. لكن بالرغم من نباهته الكبيرة لم يتمكن بلتزار أى فليسيا 
من إعطائه أي قبس عن هذا الأمرء لأنهما لا يعلمان شيئاً عن مشاريع مرغريت 
التي بدا أنها منذ تسلّمت السلطة تتبّع حكمة التكتّم على هذه المشاريع. كانت 
الأمسيات تمر ثقيلة عبر حزن يلتزار القاتم وشعوره بالاحباط بالرغم من أن 
ايمانويل قد نجح في جذبه إلى اللعب بطاولة الزهر لكن الكيميائي كان شارداً 
معظم الوقت حتى يكاد؛ وهو الرجل الفائق الذكاءء يبدى بليداً. إِنّه الخائب في 
آماله, المذلول لتبديده ثلاث ثروات»؛ المقامر يدون مالء ينحني تحت ثقل ما حل به 
من خراب» وتحت وطأة آماله المخدوعة أكثر منها متيددة؛ هذا الرجل؛ وقد كممه 
العوز وشعر بفداحة الذنب كان يمل صورة مأساوية تؤثرٌ على أشد الرجال 
صلابة؛ فحتى بييركين لم يكن ينظر إلا بعاطفة الاحترام إلى هذا الأسد 


وقد أتعبهما الضوء. في نظراتهما استجداء لا يجسر اللسان على النطق به. 
تمر أحياناً على هذا الوجه اليابس بارقة تصوّى تجربة جديدة فتدبّ فيه الحياة. 
ثم إن استقرت عينا بلتزار» بتأمل غرفة الجلوسء على المكان الذي قضت فيه 
زوجته؛ ترقرقت دمعات خفاف كحبات الرمل المتوهفجة في صحراء هاتين 
الحدقتين اللتين جعلهما الفكر أكثر اتساعاً الرأس الرأس متثاقلاً على الصدر. 
لقد العالم كتيتان, لكن العالم ارتد إلى صدره أكثر ثقلاً. هذا الألم العملاق» 
المتممل برجولة كان يوثر على بييركين وإيمانويل حتى ليكاد يدفعهما أحياناً إلى 
أن يعرضا على هذا الرجل تقديم بعض المال الذي يعينه على القيام يبعض 
تجاربه؛ فتحت سريان قناعات العبقرية اليقينية؛ أدرك الاثنان كيف أمكن للسيد 
كلايس ومرغريت أن ترميا الملابين في هذه الهوة. لكن التعقّل أوقف بسرعة 
نوازع القلبء وتجلت انفعالاتهما بمظاهر مواساة زادت من متاعب هذا التيتان 
المتهار, 

كان كلايس لا يتطرق أبداً إلى ذكر ابنته البكر, ولم يبد أي قلق لغيابها 
أى لملازمتها الصمت وعدم مكاتبتها له آو لفليسياء وعندما يسال دي سوليس أو 
بييركين عن أخبارها تظهر عليه علائم الانزعاج؛ أهو الشعور بآن مرغريت 


هما 


تتصرّف معاكسة له؟ أم هى الخزي لتنازله عن حقوق الأبوة الموقرة لابنته؟ هل 
خف حبّه لها لأنّها تكاد تصبح هي الأب وهى الولد؟ ريما وجدت كثير من هذه 
الأسباب: وكثير من هذه العواطف المبهمة العابرة كالغيوم في سماء الروح 
لتنسج زوال الحظوة الصامت الذي يرئّق على مرغريت. 

مهما بلغ كبر الرجال العظام المعروفين أى غير المعروفين؛ المحظوظين أو 
التحساء في مساعيهم,؛ فإن لهم يعض التفاهات التي هي من مظاهر الضعف 
الإنساني؛ وهم في بلائهم المضاعفء لا يتالّمون من مزاياهم بأقل مما يتأ مون 
من عيويهم. ربّما كان على بلتزار أن يأتلف مع آلام كبريائه الجريحة؛ فالحياة 
التي يمارسهاء والأمسيات التي يجتمع فيها هؤلاء الأشخاص الأريعة في غياب 
مرغريت»؛ كانت حياة وأمسيات يخيّم عليها الحزن؛ وتملؤها تخوفات مبهمة. إِنّها 
أيام جدباء كارض بور جافة لا تفشرٌ تربتها إل عن بعض زهيرات تندر 
مواساتها؛ فالجى يبدى لهم عاتماً بغياب الإبنة البكر التي غدت روح ورجاء وقوة 
هذه العائلة. 

مر شهران هكذاء كان خلالهما بلتزار ينتظر بأناه ابنته التي عادت 
بعدها إلى دوي يرافقها خال العائلة» وقد بقي في المنزل بدلاً من أن يعود إلى 
كامبري؛ ليدعم دون شك بسلطته انقلاباً أمدته قريبته الصغرى؛ وكانت عودة 
مرغريت بمثابة عيد صغير احتفلت به العائلة. فدعت فليسيا وبلتزار موثق العقود 
والسيد دي سوليس إلى العشاءء؛ وعندما وصلت عربة الرحلة وتوقفت أمام باب 
المنزل هرع الأشخاص الأربعة يستقبلون القادمين بمعظاهر غبطة كبيرة: وبدت 
مرغريت سعيدة لرؤيتها البيت العائلي مجدداً. واغرورقت عيناها بالدموع وهي 
تعبر القناء لتتصل إلى غرفة الجلوسء وبدت في ملاطفاتها كشابة وهي تقيل 
أباها لا تخلى من قصد خفيء فقد احمرت كزوجة مذنبة لا تعرف الاختلاق؛ لكن 
نظراتها عادت إلى صفائها عندما رأت السيد دي سوليسء فكأثها تستمد منه 
القوة لتنهي المشروع الذي أعدته خفية؛ وخلال العشاء؛ ورغم الحبور ااذي ساد 
الملامح والأحاديثء كان الأب والابئة يعاين كل منهما الآخر باحثراس وفضول. 
لم يوجه بلتزار إلى مرغريت أي سؤال حول إقامتها في باريس: حفاظاً على 
الوقار الأبوي على الأرجح؛. وسار إيمانويل دي سوليس على منواله في هذا 


كع ك1- 


التحفظ؛ لكن بييركين الذي تعود أن يتدخل في شؤون العائلة وأسرارها 
سسأل مرغريت مغطياً يمسحة طيبة زائفة: «حسن يا ابنة العم العزيزة» ماذا 
أعجيك في باريس: العروض المسرحية... 

أجابت مقاطعة: «لم أر شيئاً في باريس؛ فأنا لم أذهب للتسلية؛ وقد مرت 
الأيام فيها حزينة بالنسبة لي: وكنت أنتظر بفارغ الصبر العودة إلى دوي. 

- «لى لم أظهر تكدريء لما أتت معنا إلى الأوبراء حيث يدا عليها رغم ذلك 
الضيق» قال كونينكس. 

كانت السهرة مملّة, فكل واحد متضايقء يتكلّف الابتسام أو يجهد نفسه 
للتعبيس عن غبطة مفترضة بها قلق حقيقي. كانت مرغريت وبلتزار فريسة 
تخوفات قاسية ومبهمة تتفاعل في نفسيهما؛ »كلما طالت السهرة كلما بدا الأب 
والابنة يققدان رباطة جأشهما. كانت مرغريت تجرب أن تبتسم أحياناً؛ لكن 
حركاتها ونظراتها ورنة صوتها ملوها القلق الظاهر؛ ويدا أن كونيتكس ودي 
سسوليس يعرفان سيب هذه الانفعالات الغامضضة المؤثرة في نفس تلك الفتاة 
النبيلة, ويدا أنهما يشجعانها بنظرات معبرة. أما بلتزار» وقد آلمه الاحساس بأته 
وضع في معزل عن ترتيب وإجراءات تمت بشأئه. فقد انفصل تدريجياً عن 
ابنتيه وأصدقائه بالتزامه الصمت. إِنْ مرغريت ستكشف له دون شك ماذا قررت 
مئ أجله؛ إنه وضع لا يحتمل بالنسبة لرجل كبير ولأب» وصل إلى عمر لا يكتم 
فيه شيء وسط أولاده حيث سعة الأفكار تمنح القوة للعواطفء ولاحظ اقتراب 
موعد إدانته باعتزال يماثل الموت الاجتماعي فازداد رصانة وتفكيراً ركآبة. 
اتطوت تلك السهرة على إحدى أزمات الحياة العائلية التي لا يمكن أن تتوضح 
إلا بالصور, فالسحب القاتمة, ودلائل الصاعقة تتراكم في السماء. بينما 
الطبيعة باسمة, لكن كل واحد أحس بالحر وتوقع العاصفة؛ فرفع رأسه وتابع 
طريقه. كان السيد كونينكس أول المنصرفين إلى النوم؛ وقد أوصله بلتزار إلى 
الغرفة المخصصة له؛ وفي أثناء ذلك انصرف بييركين ودي سوليس؛ وودعت 
مرغريت موثق العقود بملء المودة؛ ولم تقل شيئاً لايمانويل, لكنها ضغطت على 


-9381-- البحث عن المطلق م١١‏ 


يده وهي ترمقه بنظرة مخضللة بالدمع؛ ثم صرقت فليسيا؛ وعندما عاد كلايس 
إلى غرفة الجلوس وجد ابنته وحيدة فيها. 

قالت مرغريت بصوت مرتعش: أبي الطيّبء لقد أوجبت الظروف الخطيرة 
التي نحن فيها أن آغادر المنزل» ولكن بعد فترات قلق عديدة ويعد التغلب على 
صعويات خارقة: أعود إلي المنزل مع بعض حظوظ بالانقان لنا جمعياً؛ فيقضل 
شهرة اسمكء ونفوذ خال العائلة» وحماية السيد دي سوليسء تمكنا من 
الحصول لك على وظيفة محصل مالية في مقاطعة بريتانية» وراتبهاء على ما 
يتوقع» من ثمانية عشر الف إلى عشرين ألف قرنك سنوياً» وقد قام النا بتقديم 
الكقالة. ‏ وهو ذا قرار تعيينك ‏ قالت ذلك وأخرجت من حقيبة يدها ورقة 
مخطوطة. إن إقامتك هنا خلال سَّنوات الحرمان والتضحيات أن تتحمل؛ فوالدنا 
يجب أن يبقى في وضع مماثل على الأقلّ للوضع الذي عاش فيه داكماً. لن أطلب 
شيئاً من دخلك, ويمكنك أن تتصرّف به كما يحلى لك. إِنّما أرجوك أن تفكّر فقط 
بأن. ليس لدينا أي دخلء وأننا نعيش جمعياً مما يرسله إلينا غوستاف() من 
دخل ماله المودع. أن تعرف المدينة شيئاً عن حياتنا المتقشفة.كأننا في دير فإذا 
بقيت هنا فستكون عائقاً فيما ستس تخدمه من وسائل أنا وأختي لنستعيد 
الوضع الطبيعي السابق. هل أسات استعمال السلطة التي منحتني إياهاء 
عندما أمنت لك وضعاً لتستعيد أنت يالذات تكوين ثروتك؟ فخلال عدة ستوات: 
إن أردت» يمكنك أن تصل إلى رتبة مدير جباية عام. 

«أهكذاء يا مرغريت, تطردينني من المنزل؟!» قال بلتزار بهدوء. 

اعابت الفداة ردي تمصن 4 يجيش في صدرها من انفعالات عاصفة: 
«إنني لا استحق مثل هذه الملامة العنيفة. فستعود إلينا عندما يمكتك أن تسكن 
مدينة مسقط رأسك بالمظهر اللائق بك. عدا عن ذلك يا أبي ألم تعدني وعدا 
قاطعاً؟ ثم تابعت ببرود: «يجب أن تطيعنيء فخالنا قد بقي هنا ليرافقك إلى 

بريتانية كي لا تقوم بهذه الرحلة منفرداً. 

)١(‏ سها عن بال الؤاف ان اسم الآخ غابرديل ويس غوستاق؟ فيد الاسم الآخير مرتين في 
موضعين متتلقين. 


2-05 


صماح بلتزار وهى ينهض: «لأن أذهب؛ ولست بحاجة لأي كان لتجديد 
ثروتي. ودفع ما يترتّب علي لأبنائي». ٠‏ 

«سيكون من الأفضل ذلك؛ لكن أرجو أن تفكّر بوضعنا المتبادل الذي 
سأاشرحه لك بكلمات قليلة. إذا بقيت في هذا المنزل فإن أولادك سيخرجون منه 
لتبقى فيه السيد المدبر» قالت مرغريت دون أي انفعال, 

«مرغريت!» هقف بلتزار. 

تابعت دون أن يبد عليها الانتباه إلى انفعال والدها:» ثم يجب إعلام 
الوزيرء عن رفضك. إذا كنت لا تقبل هذا المنصب المربح والمشرف الذي لم: 
نتمكن من الحصول عليه رغم مساعينا ووسائطنا ‏ إلا يعد أن وضع الخال 
بمهارة عدة أوراق مالية من زات الألف فرنك في ققاز إحدى السيدات... 

- أتتركينني؟ 

- إما أن تتركناء آو أن نهرب؛ لو كنت ابنتك الوحيدة؛ لسرت على متنوال 
أمي دون أن أتدّمر من الوضع الذي توصلني إليه. لكن أختي وأخوي لن يهلكا 
جوعاً أو شيبة رجاء إلى جانبك: فقد قطعت وعدا لتلك التي ماتت هناك - 
وأشارت إلى موقع سرير أمها ‏ لقد أخفينا عنك آلامناء وتعذبنا بصمت؛ أما 
الآن فقد استنقذت قوإناء إننا لسنا على حافة الهاوية» إِنّما نحن في قعرها يا 
والدئ! وسحيذا منها لا يتطلب فقط الشجاعة وإنما بذل جهود يجب ألا تتعرض 
للاحباط دون انقطاع بتأثير نزوات هوى جامح... 

- صاح بلتزار وهى يمسك بيد ابنته ديا أولادي الأعزاء. سأعينكم, 
ساشتغل»... 

«هى ذا الوسيلة» أجابت وهي تمد له الرسالة الوزارية, 

- لكن» يا ملاكي: هذه الوسيلة التي تقدمينها لي لإعادة تكوين ثروتي» 
بطيئة جداً وتجعلينني أضمّيع ثمرة عشر سنوات من التجاربء والمبالغ الهائلة 
التي يمكلها مخبريء هناك في الأعلى ‏ وأشار إلى السقيفة ‏ تكمن كل ثرواتنا . 

سارت مرغريت نحى الباب قائلة: «يا والديء عليك أن تختار!». 


مت 


دآها يا ابنتي كم أنت قاسية!» أجاب وهو يجلس على مقعد مفسحاً لها 
المجال للانصراف. 

في صباح اليوم التالي أنباً لمواكينيه مرغريت أن السيد كلايس خرج 
مبكّراً: قدب الشحوب في وجهها عند سماع هذا الني البسيطء إذ أن في مغزاه 
دلالة قاسية؛ لكن الخادم العجوز أضاف:» كوني مطمئنة: يا آنسة, فسيدي قد 
قال أنه سيعود في الساعة الحادية عشر لتناول طعام الغداء. إِنّه لم ينم فحتى 
الساعة الثانية صباحاً» كان ما يزال واقفاً في غرفة الجلوسء ينظر من التوافذ 
إلى سقوف المخابر» وكنت أنتظره في المطبخ: ورأيته يبكيء إِنْه حزين وها هو 
شهر تموز الشهير الذي يمكن لشمسه أن تغنينا جميعاًء إن أردت... 

- «كفى!» قالت مرغريت وهي تخمّن جميع الأفكار التي تلاحق والدها. 

«لواقع لقذ اكتملت لدى بلتزار تلك الظاهرة التي تستحوذ على جميع 
الأشخاص ال مقيمين في مكان ثابت؛ فإن حياتهم تتعلّق, إن صح القول بالأماكن 
التي تحققت فيها شخصيتهم؛ ففكر كلايس المقترن بمخبره وبيته يجعلهما 
ضروزيين له كضرورة البورصة للمقامر الذي يعتبر أيام الأعياد آيتاماً ضائعة. 
هناك آماله؛ هناك تنزل من السماء الأجواء الوحيدة التي يمكن فيها لرئتيه أن 
تستنشق الهواء المحيي. هذا التحالف القائم بين الأمكنة والأشياء وبين البشر 
يزداد وثوقاً لدى أصحاب الطبائع الضعيفة لكنه أشدّ عنفاً لدى رجال العلم 
والفكر. ترك البيت بالنسبة لبلتزار بعني التخلّي عن العلم؛ وعن قضيته؛ يعني 
موته. : 

كانت مرغريت فريسة انفعال عنيف حتى موعد الغداء؛ فقد عاد إلى 
ذاكرتها المشهد الذي أراد فيه والدها الانتحار. وخشيت أن ينتهي الوضع 
القاتط الذي يوجد فيه والدها بشكل مئساوي. كانت تسير جيئة وذهاباً في غرفة 
الجلوس» وهي ترتعد في كل مرّة تسمع فيها رنين جرس الباب؛ أخيراً عاد 
بلتزار؛ ويينما كان يجتاز الفناءء لم تجد مرغريت؛ التي كانت تدرس ملامحه 
بقلق, إلا التعبير عن ألم عاصف وعندما دخل إلى غرفة الجلوسء؛ تقدمت منه 


- ط١!‎ 


محيية؛ فأحاط خصرها بحنان: وضمها إلى صدره؛ وقبل جبيتها؛ وهمس في 
أذنها: «لقد ذهبت أطلب جواز سفري0). 

رنّة الصوت, والنظرة المستسلمة, وحركة الأب المتثاقلة كل ذلك سحق قلب 
الفتاة المسكينة التي حولت رأسها كي لا تشاهد عبراتهاء لكنها لم تستطع 
حبسهاء. فذهبت إلى الحديقة حيث ذرفت الدمع مدراراً وعادت لتشهد وائدها 
خلال الغداء وقد يدا مطمئناً كرجل اتخذ قراره؛ وقد التفت إلى السيد كونينكس 
قائلاً: «سنذهب إذا إلى بريتانية» أيّها الخال. لقد كنت راغباً دائماً في أن أرى 


تلك البلاد», 
أجاب الخال العجوز: «يمكن العيش هناك بنفقات قليلة فالأسعار 
معتدلة». , 


هتفت فليسيا: «هل سيتركنا والدي؟». 

حضر السيد دي سوليس مرافقاً لجان. 

- قال بلتزار: «ستتركه لتا هذا اليوم: إنتي مسافر غداً وأريد أن أودعه» 
قال ذلك وأجلس اينه قريه. 

نظر إيمانويل إلى مرغريت التي غضت ببصرهاء وكان نهاراً قاتماً بدا 
كل فرد فيه حزيناً. يحبس أفكاره أى دموعه؛ فهذه ااسفرة ليست غياباً وإنما هي 
نفي؛ ثم كان الجميع يشعرون غريزياً بما في تصريح الأب علناً بنكيته من خزي 
تبدى في قبوله؛ وهى في هذا العمرء وظيفة, واضطراره لترك عائلته. وحده كان 
كبيراً بمقدار ما كاتنت مرغريت حازمة؛ وبدا يتقبل بنبل هذه العقوية تكفيراً عن 
الأخطاء التي دفعه نزق العبقرية إلى ارتكابها. 

عند انقضاء السهرة: بقي الأب وابنته وحيدين» بعد أن ظهر بلتزار طيلة 
ذلك النهار حنوناً وودوداً كعهده في الأيام السعيدة من حياته الأبوية» قمد يده 
إلى مرغريت وقال لها بحنان ممزوج بالقنوط: «هل أقت مسرورة من والدك؟». 


)١(‏ كان جوان السفر ضرورياً للتنقل في فرنسة وخارجها منذ العام 1755 واستفر ذلك 
الوضع حتى العام الاثى١‏ . 


-116- 


«إنك جدير بحمل هذا الاسم!» أجابت مرغريت وهي تشير إلى صورة 
في صبيحة اليوم التالية صعد بلتزار يتبعه لمواكينيه إلى مخبره كاته 
يريد أن يوبّع الآمأى التي داعبهاء وكأن التجارب التي بدأها ما تزال ماثلة 
أمامه حيّة. ألقى المعلم والخادم نظرة مليئة بالكتبة وهما يدخلان السقيفة التي 
سيتخليان عنهاء ريما إلي الأبد . تأمّل يلتؤار هذه الماكنات ار اليك لكاو 
حولها طويلاً.وكل منها ترتبط لديه بذكرى بحث أو تجربة؛ ثم طلب من لمولكينيه 
بمظهر حزين أن يبخر الغازات أى الحموض الخطرة:» وأن يبعد المواد التي يمكن 
أن تحدث تفجيرات. وكان وهى يتخذ هذه الاحتياطات يتطق بكلمات أسف مريرة 
كتلك التي ينطق بها محكوم بالإعدام قبل ذهابه إلى المقصلة. 1« 
قال وهى يتوقّف أمام كبسولة غُمس فيها طرفا سلك بيل قولطا: «هودذا 
تجرية يجب انتظار نتيجتهاء فإن نجحت؛ يا للفكرة المرعبة! إن أولادي لن 
يطردوا يا من بيته وهو يلقي الألاميس على أقدامهم. هوذا اتحاد كربون مع 
كبريت: حيث الكربون يلعب جسم كهريائي مؤجب ‏ قال وهى يحدث نفسه ‏ 
والتيلور يجب أن يبد على القطب السالب؛ وقي حال التفكك فإن الكربون سيرد 
إليه متبلوراً. 
آه! هكذا سيتم ذلك قال لمولكينيهوهى يتامل معلمه بإعجاب. 
والحال. تابع بلتزار بعد توقف. فإن الاتحاد خاضع لتأثير هذا البيل 
الذي يمكن أن يعمل عمله. 
- إذا أراد سيدي فيمكنني أن أزيد تأثيره... 
كلاء كلاء يجب تركه كما هوء فالراحة والزمن شرطان رئيسان 
للتيلور... 
- «قسماً» يجب أن تأخذ الزمن اللازم لهاء هذه العملية من التبلور» صا 
الخادم. 
«إذاً انخفضت الحرارة سيتبلور كبريت الفحم» قال بلتزار؛ وهى مستمر 


- 15- 


في التعبير بدّتف عن أفكار غير متميزة لتأمّل كامل في مفهومه؛ ولكن إذا تمكن 
تأثير البيل من تشغيل التفاعل في بعض شروط أجهلها... يجب مراقبة ذلك... 
إن من الممكن... ولكن يماذا أفكر؟ إِنْ الأمر لم يعد يتعلّق بالكيمياء يا صديقي, 
إذ يجب أن نذهب لإدارة تحصيل ضرائب في بريتانية.». 

خرج كلايس مسرعة ونزل ليشترك في آخر غداء عائلي يحضره بييركين 
ودي سوليس. كان بلتزار مستعجلاً لينهي احتضاره العلمي, ثم صعد إلى 
العربة مع الخالء بعد أن ودع أولاده؛ وقد رافقته كل العائلة حتى عتية المنزلء 
وهناك؛ وعندما عائقت مرغريت والدها في عناق طويل يائسء رد عليه بأن همس 
في أذنها: «إِنّك فتاة طيبة» ولن أحقد عليك أبداً». اجتازت الفناء وهريت مسرعة 
إلى غرفة الجلوس حيث ركعت في المكان الذي توفيت فيه أمها وصلت لله صلاة 
حارة لتطلب منه القوة اللازمة لها لإتمام الأعمال الشاقة التي تنتظرها في 
حياتها الجديدة» وقد تقوت بصوت داخلي أحسست أنه يحضن في قابها تصفيق 
الملائكة استحساناً وشكر أمّهاء وعندها رأت أختهاء وأخافهاء وإيمانويل, 
ويييركين يدخلون بعد أن تأملوا العربة حتى غابت عن أبصارهم. 

سال بييركين: «والآن يا آنسة ماذا تنوين أن تفعلي». 

- أجابت ببساطة: «أن أنقذ المنزل» إننا نمتلك ألف وثلاثمئة أرينت في 
وينيي وأنا أهدف إلى إصلاحها وتقسيمها إلى ثلاث مزارع: وإنشاء الأبنية 
الضرورية لاستثمارهاء وتأجيرهاء وأنا أعتقد أثنا خلال بعض سنوات وبكثير 
من الصصسبر والتوفيرء: فإن كل واحد مناء وأشارت بيدها إلى أخيها وأختهاء 
سيكون له مزرعة من أربعمئة أربنت وذيف؛ يمكن أن تعطي في يوم ماء دخلاً 
يقدر بتحى خمسة عشر ألف فرنك في العام؛ أما أخي غوستاف فسيكون 
نصيبيه هذا المنزل وما يملكه في صندوق الاستثمار؛ ومن ثم فسنعيد إلى والدي 
أملاكه وقد تحرّرت من كل التزام وذلك بأن نخصص مداخيلنا لتسديد ديونه. 

قال موثق العقود وهو مندهش من هذه الخبرة في إدارة الاملاك 
والمحاكمة الهادئة التي عبرت عنها مرغريت: «ولكن يا ابنة العم العزيزة: يلزمك 


/15ا- 


ما يزيد عن مثتي ألف فرنك لإصلاح أراضيكء وبتاء مزارعك وشراء الماشية, 
قمن أين تستمدين هذا المبلغ؟. 

- «هنا تبدا متاعبي» فأنا لا أجرئ على طلبها من خالي الذي قام بكفالة 
والدي» ثم تطلّعت بالتناوب إلى موثق العقود وإلى السيد دي سوليس. 

- «إن لك أصدقاء» هتف بييركين وهى يلحظ فجأة أن آنستي آل كلايس 
ما تزال كل منها تمتلك أكثر من خمسمئة ألق فرنك. 

كان ايمانويل دي سوليس ينظر إلى مرغريت بحتان: لكن لسوء حظه, 
بقي بييركين وسط حماسه يتصرف بعقلية موثق العقود الذي أعلن: «أنا أقدم لك 
هذه المثتي ألف فرنك!». 

تشاور إيمانويل ومرغريت بالنظرات واعتبرها بييركين بارقة أمل, 
واحمرّت فليسيا بشدة وقد اسعدها أن ترى ابن عمها شهماً كما تتمثاه. 
وتطلّعت إلى أختها التي خمنت فجأة» أن الفتاة المسكينة قد وقعت في غيايها 
تحت تأثير بعض مغازلات بييركين المبتذلة» وتابع بييركين: 

«إنّك لن تدفعي لي فوائد إلا خمسة بالمئة, وستسددين لي ديوني متى 
شئتء ويستؤمنين لي على ديوني بوضع إشارة رهن على أراضيككء ولكن كوني 
مطمئنة قلن تدفعي إلا نفقات عقودك. وسأجد لك مزارعين أكفاء وأدير أعمالكم 
مجاناً لمساعدتكم كما يتوجب علي كواحد من أهلكم». 

كان إيمانويل يشير إلى مرغريت ليشجعها على الرفضء لكتها كانت 
مشغولة بملاحظة التغيرات التي تبدى على ملامح أختها بحيث لم تنتبه إلى 
اشارته. بعد توقّف. نظرت إلى موثق العقود نظرة ساخرة وقائت له من نقسهاء 
مما أثلج قلب دي سوليس: هإنّك فعلاً قريب طيّبء وأنا لا أنتظر أقل من ذلك 
منك؛ لكن فائدة الخمسة بالمثة ستؤخر كثيراً إبراعنا من الديون؛ سأنتظر بلوغ 
: آخي سن الرشد وسنيبع عائداته». 

عض ببيركين على شقتيهء وابتسم ايمانويل بهدوء. 

قالت مرغريت وهي تشير إلى أخيها: «فليسياء يا اختي العزيزة, أوصلي 
جان إلى كليته. وسترافقك مرتا». 


اكات 


والتفت إلى جان: «جان, يا ملاكي: كن عاقلاًء لا تمرّق ثيابك: فلسنا على 
درن من الغتى تتسعيخ آنا يتجديدها غالبا كسا كنا تقعل متايفا! هيا با 
صغيري» ادرس جيّداً. وخرجت فليسيا مع أخيها. 

قالت مرغريت لبييركين وللسيدة دي سوليس: «يا ابن العم؛ وأنت يا 
سيديء لقد كنتما دون شك تأتيان لزيارة والدي خلال غيابي وأنا أشكركما على 
مشاعر الصداقة هذه؛ ولا شك أنكما ان تنقطعا عن فتاتين مسكينتين تحتاجان 
دون شك إلى النصائح. فلنتفاهم حول هذا الموضوع!... عندما أكون هنا في 
المدينة» فإنني استقبلكما دائماً بسرور كبيرء ولكن عندما تكون فليسيا بمفردها 
هناء مع جوزيت ومرتاء فلست بحاجة للقول لكما بأن يجب ألا تستقبل أحداً؛ 
حتى ولى كان صديقاً قديماً أى أكثر الأقارب إخلاصاً لنا؛ ففي الظروف التي 
نحن موجودون فيهاء يجب أن نلتزم في سلوكنا يصرامة لا مأخذ عليهاء وهكذا 
تنذر أنفسنا لمدة طويلة للعمل والعزلة». 

ساد الصمت للحظات كان خلالها إيمانويل غارقاً في تأمل رأس مرغريت 
الذي يبدى صامتاً: ولم يعرف بييركين ماذا يقول؛ آخيراً استأذن من ابنة عمه 
وقد بدرت منه حركة غضب يلوم فيها نفسه: لقد خمن فجأة أن مرغريت تحب 
إيمانويل وأنه قد تصرّف كأحمق كبير». 

قال عندما أصبح في الشارع معتفاً نفسه: «آه! ماذا فعلت؟ يا بييركين! 
يا صديقي! إن قال لك أحدهم» إنك حيوان كبير» فهى على حق». هل أنا بهيم؟ 
إِنْ لدي اثنتي عشر ألف ليرة دخلاً سنوياء عدا نفقاتي» ودون أن أحسب تركة 
عمي دي راكه وأنا وريثه الوحيدة: وهي ستضاعف ثروتي بين يوم وآخر (أخيراً 
آنا لا أتمنى موته» فهى مقتصد جداً!)... وكنت من الدناءة بحيث طلبت فوائد من 
الآنسة كلايس! إنني متاكّد أن الاثنين يسخران مني الآن. يجب ألا أفكر مطلقاً 
بمرغريت؛ كلاء بعد كل حسابء إن فليسيا مخلوقة صغيرة ناعمة طيبة» إنها 
أكثر ملائمة لي» فمرغريت ذات طبع حديديء إنها تريد السيطرة علي» 

تسيطر علي! هيّاء فلنظهر الشهامة:؛ لندع جانباً موثق العقود, ألا يمكن إذا 

أن أتحرّر من هذه العدة قليلاًة يا كيساً للورق!. 


-و5طا_- 


سأسعى إلى حب فليسياء وإن أتزحزح عن هذه العاطفة! أيّها المذراة! 
سيكون لها مزرعة من أريعمئة وثلاثين آربنت ستعطي في فترة ما خمسة عشر 
إلى عشرين ألف ليرة دخلاً سنوياً؛ إذا أن أراضي وينيي جيدة: فليمت عمي دي 
راكه؛ الرجل الطيب المسكين! وسابيع مكتبي فأنا رجل ذى دخل خمسين ألف 
ليرة سنوياً» وزوجتي من آل كلايسء فأنا صهر البيوتات الصغيرة؛ ياللشيطان! 
سنرى إن كان آل كورتفيل: وآل ماغالف» وآل ساقارون دي سافروس يمتنعون 
عن زيارة عائلة بييركين ‏ كلايس ‏ مولينا ‏ نورى» سأصبح عمدة دوي» 
وستحصل على وسام جوقة الشرفء ويمكتني أن أصير نائياً. ساصل إلى 
شيء. آه! هذا! بييركين يافتاي» اصمد جيّداً ولا ترتكب حماقات: خاصة وأن: 
وأقسم لك بشرفيء أن فليسيا... الآنسة فليسيا ون كلايس... تحيك». 

بعد أن أصبح العاشقان وحدهماء مد إيمانويل يده إلى مرغريت فلم 
تستطع أن تمتنع عن أن تشد عليها بيدها اليمنى؛ ونهضا سوية وبحركة موحدة 
متوجهين نحى مقعدهما في الحديقة؛ لكن وفي وسط غرفة الجلوس لم يستطع 
العاشق أن يقاوم غبطته؛ فقال بصوت يرتعش من الانفعال إلى مرغريت: «إن 
لدي ثلاثمئة ألف فرتك لك!...». 

هتفت: «كيف؛ هل أودعتك أمي المسكينة شيئاً آخر؟ كلاء ماذا.؟ 

- أوه يامرقريتي, أليس مالي هو مالناء نحن الاثنان؟ ألست أنت أوّل من 
قالئحن . 

- «ياعزيزي إيمانويل» قالت وهي تشدٌ على يده التي ما تزال ممسكة بها؛ 
ويدلاً من أن تذهب إلى الحديقة ألقت بنفسها على الأريكة. 

- «إن علي أنا أن أشكرك؛ لأني لقيت لديك القبول» قال بصوت الحب. 

- هذه اللحظة:؛ أيها الحييبء تمسح كثيراً من الآلام وتقرب المستقبل 
السعيد! نهم, إنني أقبل ثروتكء قالت وقد ارتسمت على شقتيها ابتسامة ملاك, 
وسأعرف الوسيلة التي تجعل منها ثروة لي» وتطلّعت إلى صورة قون كلايس 
كأنها تريده شاهداً. لم ينتبه الشاب الذي كان يتابع نظرات مرغريت إلى أنها 


اس 


قد انتزعت من إصبعها خاتم العزوبية, ولم يلاحظ هذه الحركة إلا في اللحظلة 
التي سمع بها هذه الكلمات: «في وسط مآسينا العميقة؛ تنبجس السعادة, لقد 
ترك لي أبي, لامبالاة منه. حرية التصرف بذاتيء فخذ يا ايمانويل ميثاقي لك 
إِنْ أمي قد أحبتك واختارتك» وناولته الخاتم. 

ترقرقت الدموع في عيني ايمانويل وشحب لونه, وجثا على ركبتيه. وقال 
لمرغريت وهى يقدّم لها محبساً كان يحمله دائماً معه : «إليك محبس أمي يا 
مرقريتي, فليس لي غيره عربون وفاء لك» وقدّم الخاتم إليها بعد أن قبله. 

انحنت لتضع حجبينها في متناول شفتي ايمانويل وقالت: 

للأسف! يا حبيبي المسكين, ألا نرتب شيكاً مؤلأ؟ إن علينا أن تنتظر 
طويلاً. 

- كان عمي يقول إن العبادة هي الخبز اليومي للصبر وذلك في معرض 
حديثه عن المتدين الذي يحب اللهء ويمكنني أن أحبك هكذاء فأنا منذ مدة طويلة 
قد وحّدتك مع الخالق في جميع الأشياء: «وأنا لك كما أنني له». 

بقيا للحظة منصرفين لأحلى تمجيد؛ لقد كان بوحاً رصيناً هادئاً لباطفة 
أشبه بينبوع أترع ففاض على دفقات لا تنقطع. 

كانت الأحداث التي باعدت بين هذين الحبيبين موضوع كابة جعلت 
سعادتهما أكثر حيوية إذ منحتهماشيئاً مبرحاً كالألم. 

.. لم يحسنًا بمرور الوقت إلا عند عودة فليسياء ورأى إيمانويل المستنير 

بالحساسية العذبة التي تخمن كل شيء في الحبّ أن يترك الأختين منفردتين 
فغادر المنزل بعد أن تبادل مع مرغريت نظرة أمكنها أن ترى فيها كل ما عاناه 
من ذلك الكتمان؛ إذ أنه عبر فيها عن مدى تلهفه لهذه السعادة المشتهاة منذ 
زمنء والتي تكرست الآن بخطبة القلب. 

قالت مرغريت وقد أمسكت فليسيا من عنقها «تعالي إلى هناء أيتها 
الأخت الصغرى» وقادتها إلى الحديقة حيث ذهبتا تجلسان على المقعد الذي 
ركن إليه كل جيل وهى يعبر عن كلمات حبّه؛ وتنهدات آالامه؛ وتأملاته ومشاريعه. 


لاا 


وبالرغم من اللهجة الفرحة والنعومة المحببة المتجلية في ابتسامة أختهاء فقد 
أحست فليسيا باتفعال يشبه حركة الخوف بدت على يدها التي شعرت بها 
مرغريت ترتعش وهي تتناولهاء 

«يا آنسة فليسياء قالت الأخت البكر وهي تقترب من أذن أختهاء إنني 
أقرأ نفسككء لقد جاء بييركين غالباً إلى هنا خلال غيابيء لقد حضر كل مساء. 
وقال لك كلمات حلوة: واستمعت له». احمرت فليسياء وتابعت مرغريت: 

لا تدافعي عن نفسك. يا ملاكيء فطبيعي أن تشعري بالحب! وريما 
تمكنت روحك الغالية أن تغيّر قليلاً من طبيعة ابن العم, إِنّه أناني» نفعي» لكنه 
رجل شريفء وبدون شك يمكن الاستقادة من عيويه لسعادتك؛ إنه يحبك كتجمل 
قطعة في أملاكه. وسيجعل منك جزءاً من مشاريعه. ألا تغفري لي هذا التعبير, 
يا صديقتي العزيزة؟ عليك أن تصححي العادات السيئة التي تعود من خلالها 
ألا ينظر في كل مكان إلا إلى المصالحء وذلك بتعليمه الاهتمام بقضايا القلب». 
لم تستطع عند ذلك فليسيا إلا أن تقبّل أختها التي استأئفت حديثها. «مع ذلك 
فهو ضاحب ثروة؛ وعائلثه من أعرق وأقدم العائلات البورجوازية؛ لكن أأكون أنا 
التي ستعارض سعادتك إن أردت أن تجديها في شروط هزيلة؟...» 

لم تبدر عن فليسيا إلا عبارة: «أختي العزيزة!». 

- أودء نعم يمكنك أن تكشفي عن قلبك لأختك, فكم هى طبيعي أن نتيادل : 
البوح بأسرارنا». 

هذه الكلمة المليئة بالاخلاص حددت إحدى هذه المحادثات العذبة التي 
تصارحت فيها الشابتان: وياحتا يكل شيئ؛ وعندما اعترفت مرغريت» التي 
جعلها الحب خبيرة: بحالة فليسيا العاطفية انتهت إلى القول: «حسن. يا أختي 
العزيزة. لتتأكد من أن ابن العم يحبك حقيقة, و... عندكذ... ١‏ 

- اتركيني أتصرفء أجابت فليسيا وهي تبتسم فإن لدي نماذجي. 

- «مجنونة!» قالت مرغريت وهي تقبلها على جبينها . 

بالرغم من أن بييركين ينتمي إلى ذلك الصنف من الرجالء الذين يرون 


110/5 


في الزواج التزاماتء وتنقيذاً للقوانين الاجتماعية» وطريقة لنقل الملكيات: بحيث 
أن لا فرق لديه في أن يتزُوج فلسيا أى مرغريتء ما دام للاثنتين الاسم العائلي 
ذاته والدوطة ذاتها؛ غير أنه لاحظ مع ذاكء وفقاً لأحد تعابيره. أن الاثنتين من 
الفتيات الحالمات العاطفيات؛ صفتان يستخدمهما من لا قلب لهم للهزء من 
الهبات التي تبذرها الطبيعة بيد شحيحة, عبر أثلام الانسانية؛ إن موثق العقود 
قد قال بدون شك بأن يجب العواء مع الذئابء إن أنه في اليوم التالي حضر 
لرؤية مرغريت واختلى معها في الحديقة الصغيرة؛ وأخذ يتحدث حديث العاطفة, 
إذ أنه رأى فيه أحد شروط العقد البدائي الذي يجب أن يسيبق في قوانين 
المجتمع العقد الموئّق. قال لها: ١‏ 

ديا ابئة العم. لم نكن دائماً على رأي واحد حول الوسائل التي يجب 
الأخذ بها للوصول إلى نتيجة موفقة في مشازيعك؛ لكن يجب أن تتأكّدي هذا 
اليوم أن رغبة كبرى في أن أكون ذا فائدة لكم هي التي توجهني دائماً. لكن 
الواقع أنني شوهت البارحة عرضي بعادة مشؤومة تسيطر علينا نحن أصحاب 
الفكر التوثيقي الإجرائي. أتفهمينني؟... إن قلبي لم يكن متواطئاً مع حماقتي. 
اقد همت بك حباًء لكن لناء نحن الآخرين؛ بعض تفوذ البصرء وقد لاحظت أنني 
لا أعجبك. هذه غلطتي! فقد كان شخص غيري أكثر براعة مني. الواقع أنني 
جئت الآن اعترف لكء بالشكل الساذج أنني أكن حباً حقيقياً لأختك فليسياء 
فعامليتي إذاً كا! إِنْ ثروتي تحت تصرفك؛ خذي ما تشاعين مباشرة: هيّاء 
بقدر ما تآخذينء: بقدر ما تبرهنين لي عن مودتكم؛ كل مالي لكم؛ دون فائدة, 
أتسمعينني؟ لا أريد أثني عشرء ولا ربع بالمئة. ما يهمني أن أكون جديراً 
بفليسيا. اغفري لي عيوبيء فهي ناتجة عن الممارسات المالية؛ أما القلب فطيب. 
إنني سأرمي بنفسي في تهر السكارب إذا لم أكن قادراً على إسعاد زوجتي. 

- هوذا التصرف الطيّب؛ يا ابن العم! قالت مرغريت: لكن أمر أختي 
يتعلق بهاء ويوالدنا ... 

- إنني أعرف هذاء يا ابنة العم العزيزة» لكنك أم لجميع العائلة, وما من 
شيء أقرب إلى القلب من أن تكوني أنت الحكم على قلبي. 


- 


هذه الطريقة في الكلام تمل جيداً روح موثق العقود الشريف؛ وقد 
أصبح بييركين فيما بعد شهيراً بجوابه لقائد ثكنة سان - أومر الذي جاء يرجوه 
حضور أحد الاحتفالات العسكرية: هل المناسية والمستقبل على مستوى 
السيد بييركين - كلايس دي مولنا ‏ نوروء عمدة مدينة دوي, الحائز 
على مدالية جوقة الشرف من رتبة فارس. الخ.... 

ارتضت مرغريت بمعونة موثق العقود, إِنّما فيما يتعلّق بمهنته فقط, 
بحيث لا تتعارض بشيء مع جدارتها كامرأة: أى مع مستقبل أختهاء أى مع 
مقررات والدها؛ وقد عهدت في ذلك اليوم بالذات بتوجيه أختها في غيابها إلى 
جوزيت ومرتا اللتين نذرتا الروح والجسد لسيدتهما الشابة سيما في مساهدتها 
على تنفيذ خططها في التوفير. 

انطلقت مرغريت إلى وينيي حيث بدأت بسرعة عملياتها التي قادها 
بمهارة بييركين وقد تبدى الوفاء في ذهن الموئق كأفضل المساهمات فكانت 
اهتماماته وجهوده التي لم يدخر وسعاً في بذلها وكأنّها رأس مال مستخدم؛ فقد 
عمل أولاً على تجنيب مرغريت نفقات إصلاح وحراسة الأراضي المخصصة 
للمزارع: فأحضر ثلاثة من أبناء المزارعين الأغنياء الشبب الذين يرغبون في 
تأسيس مشاريعهم المستقلة, وأغراهم بالأمكانية التي تقدمها لهم تلك الأراضي 
الخصبة ونجح في تأجيرهم مسبقاً المزارع الثلاث التي ستبنى متنازلاً عن أجرة 
ثلاث سنوات لقاء نفقات التأسيسء وتعهد المزارعون الشياب بدفع أجرة عشرة 
آلاف فرنك في السنة الرايعة» واثني عشر ألفاً في السنة السادسة, وخمسة 
عشر ألفاً بعد ذلك وطيلة مدة العقدء وأن يجروا الحقّر ويفرسوا الأشجار 
ويشتروا المواشيء وبينما كانت المزارع تبنى؛ جاء المزارعون لاصلاح الأرض. 

لم تمض أربع سنوات على رحيل بلتزار. حتى تمكّنت مرغريت أن 
تستعيد تقريباً ثروة أخيها وأختهاء وكان مبلغ مئتي ألف فرنك كافياً لإنشاء 
المزارع» إذ لم يبخل أحد بالمساعدات أو النصائح على هذه الفتاة الشجاعة التي 
حازت على إعجاب المديثة بسلوكها. 


ع /اا- 


أشرفت مرغريت على أبنيتها وتنفيذ صفقاتها واتمام مكاراتها بذلك 
الوعي والنشاط والمثابرة التي تتميّز بها النساء عندما تحفرّهن العواطف 
السامية؛ وقد أمكنها منذ السنة الخامسة أن تخصص ثلاثين ألف فرنك من كراء 
المزارع وريع استثمار إيداع أخيها ودخل أملاك والدها لتسديد الرهنيات 
وإجراء الاصلاحات في المناطق التي تضرًرت في المنزل من جراء أهواء بلتزار, 
وهكذا سار استهلاك القروض سريعاً مع تناقص الفوائدء وقد قدم لها إيمانويل 
دي سوليس مبلغ المئة ألف فرنك الباقية من تركة عمه والتي لم تلزمهاء كما 
وأضاف إليها مبلغ عشرين ألف فرنك من مدخراته بحيث أنّها تمكّنت منذ السنة 
الثالثة من إدارتها أن تسدد قسماً كبيراً من الديون. هذه الحياة المفعمة شجاعة 
وحرماناً ووفاء لم تخب أبداً خلال خمس سنوات, بل كانت كلها نجاحاً وتقدماً 
تحت إدارة وتفوذ مرغريت. 

تخرّج غابرييل مهندساً مختصاً بالجسور والطرقات وتمكن بمساعدة 
الخال الاسرة على جمع ثروة يسرعة نتيجة تعهد شق قناة وعمرف كيف يستميل 
قلب قريبته الآنسة كونينكس التي يعبدها والدها والمعتبرة من إحدى الوريثات 
الأكثر غنى في مقاطعة الفلاندر؛ وفي العام 1875 فكّت كامل الرهون عن أملاك 
كلايس؛ وأصلحت شؤون البيت في شارع باريس» وطلب بييركين يد فليسيا 
رسمياً من والدها وكذلك فعل السيد دي سوليس بالنسبة لمرغريت. 

في مطلع شهر كانون الثاني 1854 ذهبت مرغريت والسيد كونينكس 
للمجيء بالأب المنفي الذي تمثى الجميع بحرارة عودته. فقدم استقالته ليتسنى 
له اليقاء وسط عائلته حيث ستلقى السعادة تصديقاً لها؛ وخلال غياب مرغريت 
التي عبّرت مراراً عن أسفها لأنها لم تتمكن من إملاء الأطر الفارغة في الصالة' 
الكبرى وقاعات الاستقبال من أجل اليوم الذي سيستعيد فيه والدها منزله؛ قام 
بييركين ودي سوليس بالاتفاق مع فليسيا بتحضير مفاجأة لمرغريت أرادت من 
خلالها أيضاً الأخت الصغرى أن تساهم في ترميم بيث كلايس. واشترى 
الشابان يعض اللأوحات الجميلة'التي قدماها لفيلسيا لتزين القاعة الكبرى. كما 


به/ا1ك- 


أن السيد كوئيتكس خطرت لديه الفكرة نقسها إذ أراد أن يعبر لمرغريت عن 
رضاه لسلوكها النبيل وتضحيتها من أجل إنجاز المهمة التي عهدت إليها بها 
أمها فأوصى أن تتقل إلى بيت كلايس نحو خمسين لوحة من أجمل لوحاته 
وبعض اللوحات الأخرى التي كان كلايس قد باعهاء وهكذا أعيد تأثيث الصالة 
الكبرى في المنزل. ١‏ 

كانت مرغريت قد زارت أبوها عدة مرات ترافقها أختها أى أخوها جان؛ 
وكانت تلاحظ في كل مرّة آنه يتغيّر تدريجياًء ولكن منذ زيارتها الأخيرة. بدت 
الشيخوخة لدى بلتزار تظهر بأعراض مقزعة زاد دون شك من حراجتها التقتير 
الذي كان يعيش فيه بلتزار ليوفر النصيب الأكبر من راتبه من أجل إجراء بعض 
التجارب التي كانت تخيب ظلئّه دائماًء وبالرغم من أنه لم يكن قد تعدى الخامسة 
والستين من العمرء؛ فقد كان يبدى وكأنه في الثمانين. كانت عيناه قد غارتا بعمق 
في محجريهماء وقد ابيض حاجباه. ولم يبق في رأسه إلا شعرات قليلة تكان لا 
تغطي قذاله؛ وقد أرسل لحيته. إِنّما كان يقصها من وقت إلى آخر بالمقص عندما 
تضايقه؛ وانحنى ظهره ككرام عجوزء: كما أتخذت الفوضى في هندامه مظهر 
البؤس الذي زاده الضعف بشاعة. بالرغم من أن فكرة قوية تسكب الحياة في 
هذا الوجه الكبير الذي تختقي ملامبمه تحت التجاعيد, فإن النظره الجامدة, 
والسحنة القانطة والقلق المستمر تحفر فيه كل تشخيصات العته أو بالأحرى 
الأعتاه كلها سوية» فمرة يتجدد فيه الأمل فيظهر بلتزار مثالاً معبّراً عن الهوس 
الأحاديء ومرة أخرى يخلع عليه نفاذ الصبر لعدم كشفه سير ؛ يبدى له وكأته أمر 
تافه, كل علائم الغضبء ثم تكشف ضحكة مجلجلة عن مظهر جنوني فيه؛ أخيراً 
فإن الوهن الكامل في معظم الوقت يختصر تجليات هواه بكآبة الحمق الباردة. 
مهما كانت هذه التعابير عرضية وغير محسوس بها من قبل القرياء, فإِنّها 
للأسف كثيرة الحساسية لأوائك الذين يعرفون كلايس السامي في طيبتهء الكبير 
القلب. الجميل الوجه جمالاً لم تبق منه إلا آثاره نادرة, 


سك/7اط! _- 


أما لمولكينيه فقد شاخ وتعب كمعلمه من الأعمال المتواصلة لكنه لم 
يتعرض مه لمتاعب الفكر لذلك فإن سمنته تبدي مزيجاً فريداً من القلق 
والإعجاب بمعلمه؛ الذي قد يسهل أن يخطىءم فيه بالرغم من أنه يستمع لأقل 
كلمة يقولها باحترام؛ ويتبع أقل حركاته بنوع من الحنان يبدى فيه وكأنه يرعى 
العالم كما ترعى الأم ولدهاء وغالباً ما يبدى بهيئة من يحميه؛ لأنه يحميه فعلاً في 
ضرورات الحياة التافهة التي لا يفكر بلتزار فيها أبداً. هذا العجوزان المجتمعان 
على فكرة؛ الواثقان بحقيقة أملهماء المتأثران بنفحة واحدة, يمثل أحدهما 
القشرة والآخر لب وجودهما المشترك؛ ويشكلآن مشهداً رهيباً ومؤثراً في آن 


ل 


معاً. 

عندما وصلت مرغريت والسيد كونينكس وجدا كلايس يقيم في نَرْل إذ أن 
خلفه عجل بالمجىء واستلام المكان. 

إلى جانب اهتمامات العلم, كانت الرغبة برؤية الوطنء والبيت والعائلة 
تهرُ مشاعر بلتزار» فرسالة ابتته تنبئه بأحداث سعيدة؛ وكان يفكر بأن يتوج 
سيرته يسلسلة من التجارب تقوده أخيراً إلى الكشف عن حلّ مسالته؛ لذا كان 
ينتظر مرغريت بفارغ صير شديد.ء وقد ألقت الابنة عند وصولها بنفسها بين 
دراعي والدها وهي تبكي فرحاً؛ فقد جات هذه المرّة سعياً وراء جائزة حياة 
أليمة. وطلباً لغفران عن ظفر عائليء كانت تشعر بالذنب على طريقة أواتك 
الرجال الأمجاد الذين يخالفون الحريات لينقذوا الوطن؛ لكن عند تاملها لوالدها 
ارتعشت لما رأت فيه من تغيرات عن زيارتها السابقة؛ وقد شاركها كونينكس في 
ذعرها الخفي وألح لانتقال قريبه بأسرع ما يمكن إلى دوي حيث يمكن لتأثير . 
الوطن أن يرد إليه الوعي والصحة بالارتداد إلى الحياة السعيدة في البيت 
العائلي» بعد تجليات مشاعر القلب الأولى التي بدت لدى بلتزار أكثر شدة مما 
توقّعت مرغريت: أبدى الأب حيال ابنته اهتمامات فريدة: فأسف لأنه يستقبلها 
في غرفة حقيرة في نزل» واستفهم عما يعجبهاء وسالها عما تريد تناوله من 
ماكل في وجبات طعامها وذلك بعناية اشبه بعناية العاشق المتِيُم؛ تصرف أخيراً 
كمذنب يريد رضى قاضيه. 


لا/اذ- البحث عن المطلق م ١١‏ 


كانت مرغريت تعرف جيداً أباها بحيث منت بسرعة مبعث هذه الرقة, 
مفترضة أن ما يزال عليه في المدينة بعض ديون يريد تسديدها قبل رحيله. 

أمعنت التأمل خلال فترة من الوقت بأبيهاء فتجلّى لها عند ذلك القلب 
البشري عارياً. لقد صغر بلتزارء والشعور بانحطاطه. والعزلة التي وضعه العلم 
فيها جعلاه خجولاً وطفلاً في جميع المسائل الغريبة عن اهتماماته المفضلة. لقد 
فرضت عليه ابنته ذكريات تضحيتها الماضية: بالقوة ألتي أبدتهاء والإحساس 
بالسلطة الذي سمح لها به؛ والثروة التي تصرقت بهاء والعواطف الغامضة التي 
تملكته منذ اليوم الذي تخلى فيه عن سلطتة الأبوية» وقد كانت مهملة؛ والتي 
كبرت دون شك يومأ بعد يوم. بدا كونينكس وكأنه لا شيء في نظر بلتزار» فهى 
لا يرى إلا ابنته, ولا يفكر إلا بهاء وبدا وكأنه يخشاها كبعض الأزواج الضعفاء 
الذين يخشون امرأتهم القوية التي تسيطر عليهم؛ فعندما يرفع عينيه تحوها فإن 
مرغريت تباغت فيهماء بألم, تعبير خوف يشابه خوف الطفل الذي يشعر يذنبه 
فلا تعرف الفتاة النبيلة كيف توفق بين المتعبير المبجل والمروع لهذا الرأس الذي 
تكتسحه التجارب والعلم والابتسامة السخيفة والمذلّة السائجة التي ترتسم على 
شفتي بلتزار وهيئته. لقد تمت لهذا التباين الظاهر بين ذاك الكبر وهذه 
الحقارة؛ وعزمت على أن تستخدم كل تأثيرها ليسترد والدها عزة نفسه في 
اليوم الاحتفالي الذي سيظهر به في وسط عائلته, فاغتنمت أولاً فرصة وجودهما 
منفردين اتهمس في أذنه: «هل يتوجب عليك شيء هنا»؟ احمر بلتزار وأجاب 
بشكل مرتبك: «لا أعلم؛ ولكن لمولكينيه سيخبرك. فهذا الولد الطيب أكثر تتيعاً 
لأحوالي الماديّة مني أنا بالذات». 

قرعت مرغريت الجرس للخادم؛ وعندما حضر درست بشكل لا إرادي 
هيئة العجوزين: «هل يريد سيدي شيئاً؟» سال لمولكينيه. 

شعرت مرغريت. وهي الممتلئة اعتزازاً ونبلاًء بانقباض في القلب, 
ملاحظتها في لهجة الخادم وتصرقه شيئاً من الدالة السيئة بين والدها ورفيق 
مشاغله,ققالت «ألا يمكن لأبي هنا أن يجري حساب ما عليه بدونك؟». 


1١م‎ 


- يتوجب على السيد... 

أشار بلتزار» عند هذه الكلمات؛ لخادمه. إشارة مبطّنة فاجأتها مرغريت 
وشعرت بإهانتهاء قصاحت: «قل كل ما يترتب على والدي هنا». 

- يترتب على سيدي هنا آلف إكو لعطار يدير محل أفاويه بالجملة؛ وقد 
أحضر لنا بوتاساً كاوياً ورصاصاً وزنكاً ومواد فمالة., 

«أهذا كلّ شيء؟» سألت مرغريت. 

- كور بلتزار اشارته المؤكّدة للمولكينيه الذي أجاب وقد أربكه معلمه: 

«نعم يا آأنسة». 

«حسن, سأسدد لك إياها» تايعت. 

قبل بلتزار ابنته بغبطة قائلاً لها: «إِنّك ملاك بالنسبة لي يا ابنتي»؛ ويدا 
عليه الارتياحء وهو ينظر إليها بعين أقل كآبة, لكن رغم هذا الفرح لاحظت 
مرغريث بسهولة على وجهه علائم قلق عميق وحكمت أن هذه الألف إكى تشكّل 
فقط ديون المخير المطالب يها. 

قالت بعد أت تركته يجلسها على ركبتيه مدللاً: «كن صريحاً يا أبي, هل 
تترتب عليك أشياء أخرى؟ اعترف لي بكل شيء.؛ عد إلى بيتك دون أن تحبسن أي 
عامل خشية وسط البهحة العامة». 

قال وهى يأخذ يديها ويقبلهما برقة بدت وكأنّها من ذكريات شبابه 

- يا عزيزتي مرغريت» ستويخيتني... 

كلاء أجايث. 

«صحيع, هل يمكنني ذكر كل شيء؛ هل ستدفعين...» قال وقد بدرت منه 
حركة فرح طفولية. 

- نعم» قالت وهي تحبس الدموع الوافدة إلى عينيها. 

- الواقع يترتب... أودا لا أجرق,... 

- لكن» قل يا أبي! 

«إنّه مبلغ معتبر» وضم يديه بحركة قنوط وقال: «إنني مدين بثلاثين ألف 
فرنك إلى بروتز وشيقرقيل. 


-11/4- 


«إِنْ مدخراتي تبلغ ثلاثين ألف فرنك, ويسرني أن أقدمها لك» قالت وهي 
تقبل جبينه باحترام. 

- نهضء وأخذ ابنته بين ذراعيه ودار حول الفغرفة وهو يرفعها ثم يضعها 
على الأرض كطفل صغير وأخيراً أجلسها على المقعد العريض حيث كانت وهو 
يهتف: «يا ابنتي العزيزة, أنت كنز حب. لم أكن أحيا أبداًء فقد كتب لي آل 
شيفرفيل ثلاث رسائل تهديد وأرادوا ملاحقتيء أنا الذي أخذوا منه ثروة. 

- أبيء إِنّك ما تزال تتابع أبحاثك؟ قالت بلهجة قنوط. 

- ما أزال دائماً. قال مع ابتسامة جنون, سأجده! هيًا... لى تعلمين أين 
نحن أصبحنا , 

من نحن؟ 

- إنني أتحدث عن لمولكينيه» لقد توصل أخيراً إلى فهميء وهى يساعدني 
جيّداً ياللود المسكين, إنه يتفانى في سبيلي! 

قطع كونينكس المحادثة بدخولهء فقد أشارت مرغريت لوالدها بأن يصمت 
خشية أن يفقد اعتباره في نظر خال الأسرة. لقد أرعبها التلف الذي أحدثه 
انشغال الفكر في هذا المخ المتميّز بالذكاء الوقاد المستغرق في بحث مشكلة قد 
تكون غير قابلة للحلٌ؛ فيلتزار الذي كان دون شك لا يرى إلى أبعد من أفراته: لم 
يخمن حتى تحرر أملاكه من الديون. 

في اليوم التالي سافر الجميع إلى الفلاندر» وكانت الرحلة طويلة تقريباً 
أتاحت لمرغريت أن تقتبس بعض المعلومات المشوشة عن العلاقة القائمة بين 
لمولكينيه ووالدها. هل للخادم على السيد تلك الهيمنة التي يعرف كيف يكونها 
على رجال الفكر الكبار الأشخاص الذين لا ثقافة عندهم إلا الشعور يمدى 
الحاجة إليهم والذين من تنازل إلى تنازل يعرفون كيف يسيرون نحو السيطرة 
بالمثابرة التي تمتحها الفكرة الثابتة؟ أى أن المعلم قد أحس تجاه خادمه بنوع من 


-.مط1- 


الود المتولد عن الاعتياد والمماثل لتعلّق العامل بأداته المبدعه, أى معاملة العربي 
مطيّته المحررة؟ ترصدت مرغريت بعض الوقائع لتقرر» وقد عزمت على أن تنقذ 
بلتزار من سلطة مذلّة في حال وجودها. 

عند المرور بباريسء بقيت فيها عدة أيام لوفاء ديون والدها والطلب من 
صانعي المواد الكيميائية عدم توجيه أيّة إرسالية إلى دوي دون إعلامها مسبقاً 
بطلبات والدها؛ وحصلت من والدها على وعد بأن يغير برّته ويتقيد بالهندام 
الملائم لرجل من مستواه. هذا الترميم الجسمي أعاد لبلتزار نوعاً من الهيبة 
الفيزيائية التي اعتبرت طابع يمن من أجل تغيير الأفكار؛ وعمًا قليل تسافر 
الابنة السعيدة مسبقاً بجميع المفاجآت التي تنتظر والدها في بيته الخاصء إلى 
دوي, 

على بعد ثلاثة فراسخ من تلك المدينة وجد بلتزار ابنته فليسيا تمتطي 
حصاناً يواكبها أخواها وايمانويل وبييركين والأصدقاء الخلّص للعائلات الثلاث. 

ألهت الرحلة بالضرورة الكيميائي عن أفكاره المعتادة وأثّر مظهر الفلاندر 
على عواطفه: وبان عليه الانفعال الشديد عندما أبصر الموكب الذي شكلّته عائلته 
وأصدقاؤهء فاغرورقت عيناه بالدموع؛ وارتعش صوته؛ واحمرّ جفناه, وقبل بولع» 
أولاده دون أن يستطيع تركهم حتى أن مشاهدي ذلك المنظر غلب عليهم الدمع 
وعندما شاهد مجدداً منزله. شحب لونه» وقفز خارج عربة السفر بخفة فتى في 
ريعان الشباب» واستنشق هواء الفناء بعذوية» وأخذ يتأمل أدق التفاصيل 
بسرور يطفح من حركاته وانتصب وقد يدت على هيئته ملامح الشباب؛ وعندما 
دخل إلى غرفة الجلوس؛ ترقرقت الدموع في عينيه وهى يرى الدقة التي اعتمدتها 
ابنته في إعادة صياغة شمعدانات فضية مماثلة لتلك القديمة التي بيعت فيهاء 
كما أن آثار النكيات السابقة قد رممت وأصلحت. 

أجريت حفلة غداء رائعة في قاعة الطعام التي امتلآت خزانتها مجدداً 
يالطرّق والفضيّات المعادلة في قيمتها لتلك التي كانت فيها أولاً؛ وبالرغم من أن 


-امك- 


هذه الوليمة العائلية قد استمرت طويلاً. فقد كاد الوقت لا يكفي للعرض الذي 
طليه بلتزار من كل واحد من أولاده. إن الهرّة التي طبعت هذه العودة فيها روحه 
المعنوية جعلته ينسجم مع سعادة العائلة التي احتل فيها مكانته كأب, 
واستعادت تصرفاته مظهر تبلها القديم. لقد استسلم في الفترة الأولى لمتعة 
الحيازة دون أن يسأل عن الوسائل التي استعاد فيها كا ما فقده وهكذا كانت 
فرحته مترعة وتامة. 

بعد انتهاء حفل الغداء انتقل الأولاد الأربعة والآأب وبييركين موثق العقود 
إلى غرفة الجلوس حيث وقع نظر بلتزار: ليس بدون قلق؛ على أوراق مدموغة 
حملها كاتب وققف قرب منضدة كأنه ينتظر مساعدة معلمه؛ وجلس الأولاد أما 
بلتزار فوقف مندهشاً أمام المدفأة. تقدم بييركين قائلاً.: 

«هذا هى حساب الوصاية الذي يقدمه السيد كلايس لأولاده, وبالرغم من 
أنه ليس مسلياً جداً فيجب قطعاً الاستماع إليه» قال ذلك ضاحكاً على طريقة 
موثقي العقود الذين يظهرون بصورة عامة تقريباً روح الدعابة ليتحدثوا عن 
القضايا الأكثر جدية. | 

بالرغم من أن الظروف تيرر العبارة2. فقد رأى فيها كلايسء الذي 
استيقظ في وجدانه ماضي حياته: لومأ له وقطّب حاجبيه. بدأ الكاتب بالقراءة 
تحت دهشة بلتزار التي أخذت تتزايد كلّما ازداد الموضوع بسطاً. 

ذكر أولاً أن ثروة الزوجة: عند وفاتهاء وصلت إلى نحو مليون وستمئة 
ألف فرنك تقريباً. إن خلاصة تقديم هذا الحساب تعطي بشكل صريح لكلّ من 
الأولاد نصيباً كاملاً. كما ينتج عن إدارة اب عائلة طيب ومعتن. كما تبيّن أن 
البيت حر من كل رهنء وأن بلتزار صاحب ملكيته؛ كما أن أملاكه في الأرياف 
طليقة. بعد أن وقعت جميع الصكوك؛ عرض بييركين الوصولات المشعرة بتسديد 
الديون السابقة ورفع الرهن الذي كان مضروياً على الأملاك. في تلك اللحظة 
تهالك بلتزار» الذي استرد في آن واحد شرق الرجل: وحياة الآأب. واعتبار 
المواطن» على مقعد عريض؛ وبدا أنه يقتش بعينيه عن مرغريت التي تغيبت» 


اما 


التزاماً منها بإحدى لياقاتها السامية كامرأة؛ عن تلك القراءة؛ وتذرّعت 
بالإشراف على اكتمال جميع مستلزمات الاحتقال. أدرك كل واحد من أقراد 
العائلة فكرة العجوز في اللحظة التي كانت فيها عيناه المغرورقتان بالدمع على 


ضعفهما تبحثان عن ابنته التي كانوا جميعهم في تلك اللحظة يرونها باعين 
الروح كملاك من قوة ونور 

وذهب لوسيان() يفتش عن مرغريت؛ وبسماع خطواتها هرع إليها بلتزار 
يضمها إلى صدره. 

لك هرقم وي سال الدرع عيذ كان المتدو بت" إلى صدرهة 
شاكراً : أرجوك يا أبي آلا تنقص تنقص شيئاً من سلطتك المقدسة: اشكرني أمام كل 


العائلة لأنني قد نفذت جميع رغباتك: وكن هكذا القاعل الوحيد لهذا الإنجاز 
الخير الذي تم هنا». 

رفع بلتزار عينيه إلى السماءء ونظر إلى ابنته» وصالب يداه وقال يعد 
توقّف ظهر فيه على وجهه تعبير لم يره فيه أولاده منذ عشر سنوات: «قلتكن 
روحك هنا يا ببيتا لتكبري عمل ابنتنا» وضمٌ مرغريت بشدة دون أن يتمكن من 
النطق بكلمة ودخل؛ قخاطب الحاضرين بكل ثبل الهيئة التي جعلت منه سابقاً 
أحد الرجال الأكثر مهابة: 

«يا أولادي» يتوجب علينا جميعاً الشكر والعرفان بالجميل لابنتي 
مرغريت؛ للحكمة والشجاعة اللتين حققت بهما مقاصدي؛ ونفذت مخططاتي 
عندما عهدت, إليها لاستفراقي الكلّي في تجاربي» بمقاليد إدارقن المنذلية, 

- ثم قال بييركين وهو ينظر إلى ساعته: آه! الآن» سنقرأ عقود الزواج؛ 
لكن هذه الصكوك لا تعود إلى باعتبار أن القانون يمنعني من تحرير صكوك 
تتعلّق بأهلي أو بي. لكن العم رابارليه سياتي الآن». 

في تلك اللحظة, أخذ يفد تباعاً أصدقاء العائلة المدعوون إلى العشاء 


)١(‏ اعتمد يلزاك اسم «جان» عوضماً عن اسم «لوسيان» للاين الاصفر في عائلة كلايس؛ هند 
إعدال هذة الرواية لطبيعة شارينتيه؛ ويبدى أنه قد سها عن تصميحه في هذا الموقع. 


ما 


احتفالاً بعودة السيد كلايس, ويمناسبة عقود القران» وبينما كان الخدم يحملون 
هدايا الأعراس كان الجمع يتزايد بسرعة ويغدى أكثر وقاراً لما تميّن به 
الحاضرون من مهابة وغنى في الأناقة, فالعائلات الثلاث التي جمعتها سعادة 
أبنائها أرادت أن تتنافس في الفخامة؛ وخلال لحظات امتلأت الصالة بالهدايا 
الرائعة المقدمة للعرسان وتجلّى الذهب وتلألاً. وعرضت الحرائر. ونشرت شالات 
الكشمير والعقود والحلي فرحاً حقيقياً لدى من يقدّمها ولدى اللواتي يتلقينهاء 
هذا الفرح شبه الطفولي كان يرتسم على جميع الوجوه حتى أن قيمة هذه 
الهدايا الرائعة قد نسيت من قبل خليّي البال: الذين غالباً ما ينشغلون بتقييمها 
وحسابها فضولاً منهم. بدأت عند ذلك المراسم المألوفة لهذه المناسبة ضمن عائلة 
كلايس» حيث يحق للأب والأم فة فقط الجلوسء. أها الحضور قيبقون واقفين على 
مسافة منهمء وقف إلى يسار القاعة ومن جهة الحديقة غابرييل كلايس والآنسة 
كونينكسء وقربهما السيد دي سوليس ومرغريت, ثم فليسيا ويييركين وعلى بعد 
خطوات بلتزار وكونينكس وهما الوحيدان في هذا الجمع اللذان جلسا فجلس 
كل طبعا على مورك فر براق الخقيه الذي حل محل بييركين. كان جان 
واقفاً خلف أبيه. 

كانت حلقة ضمت نحى عشرين امرأة في غاية الأناقة» ويعض الرجال من 
أقارب بييركين وكونيتكس وكلايسء وعسدة دوي الذي سيتم مراسم الزواج» 
والشهود الاثني عشر الذين اختيروا من أقرب أصدقاء العائلات الثلاث ومن 
بينهم الرئيس الأول في المحكمة الملكية؛ وكاهن كنيسة سان بيير» في دائرة 
مهيبة تعطي لهذا المشهد الذي يتجلى فيه التبجيل للأبوة مظهراً فريداً إِنّها 
اللحظة الوحيدة منذ ستة عشر عاماً التي نسي فيها بلتراى بحثه عن المطلق. 

بساأل رابارليه موثق العقود إن كان جميع المدعوين إلى حضور مراسم 
التوقيع؛ وحفل !أعشاء الذي سيعقبها قد وصلوا؛ وعندما أجابت مرغريت واختها 
بالإيجاب أخذ عقد زواج مرغريت ودي سوليس لقراءته أولاًء عندما فتح الباب 
فجأة وظهر لمواكينيه وقد بدا وجهه متوهجاً من شدة الفرح وهو يصيح «سيديء 


-1١488- 


سيدي!» تطلّع بلتزار إلى مرغريت بنظرة قنوط؛ وأشار إليها فتبعته إلى الحديقة, 
وساد الهرج في الجمع. 

همس الأب لابئته: «لم أجرؤ أن أقول لك يا ابنتي كل شيء: لكن بعد كل 
ما فعلته لي» ستتقذينني من هذه البلوى الأخيرة؛ لقد أقرضني لمواكينيه لتجربتي 
الأخيرة التي لم تنجح عشرين ألف فرنك. هي ثمرة مدخراته. وقد جاء التعس 
دون شك يطالب بها بعد أن عرف أنني أصبحت مجدداً غنياً. أعطها له حالاً 
فإن بقاء والدك حيّاً مدين له. فهو وحده الذي واساني في أيام البلوى؛ وهى 
وحده الذي آمن بي» من المؤكد أنني بدونه كنت ميتاً... 

- «سيدي»: سيدي!» هتف لموأكينيه مجدداً. 

ما الأمر؟ قال بلتزار وهو يلتفت نحوه. 

ألاسية!..., 

قفز كلايس إلى الصالة, وقد لاحظ الماسةً في يد خادمه الذي قال له 
بصوت منخفض: «لقد ذهبت إلى المخبر». 

ألقى الكيميائي: الذي كان قد نسي كل شيء على الفلمندي العجوز نظرة 
مبتاملة لايمكن إلا أن تفسير بهذه العبارة: «كنت الأوّل الذي ذهب إلى 
المخير!» تابع الخادم: «ووجدت هذه الألماسة في الكبسولة المتصلة بذلك البيل 
الذي تركناه يقوم بعمله كالمعتاد, وقد فعل يا سسيدي!» ورفع في يده ألماسة 
بيضاء مثمنة الوجوم لفتت ببريقها انظار الجمع المندهشة. 

التفت بلتزار إلى الحاضرين قائلاً: 

«يا أولادي: يا أصدقائيء أغفروا لخادمي العجوز جلبته؛ واغفروا لي ما 
يكاد يفقدني الصواب. لقد انتجت صدفة سبع سنوات» بدونيء اكتشاقاً أفتش 
عنه منذ ستة عشر عاماً. كيف؟ لا أدري. نعم لقد تركت كبريت الكربون تحت 
تأثير بيل فواطا يجب مراقبة تأثيراته كل يومء والواقع أن قدرة الله قد انبثقت 
في غيابي» في مخبري دون أن أستطيع, بالطبع؛ تتبع نتائجها تدريجياً! أليس 
هذا مروعاً؟ يا للمنفى اللعين! يا للصدفة اللعينة! للأسف! لو أنني تتبعت بدقة 


-وم1ا- 


هذا التبلور الطويل... اليطيء... المفاجىء. لا أعلم ماذا أقول... هذا التحول... 
أخيراً هذه الأعجوية...لغدا أولادي أكثر غتى الآن... وبالرغم من أن هذا ليس 
حل المسالة التي آبحث قيه؛ فهى على الأقل الاشعاعات الأولى لمجد أقخر به 
وسينعكس اتنتصاراً لوطني. إن هذه اللحظة التي تجعلها احتفالاتنا العاطفية 
متوهجة بالسعادة تؤداد دفئاً وألقاً بشمس العلم. 
ازم كل واحد الصمت أمام هذا الرجل؛ فالكلمات غير المتسجمة التي 
أقتلعتها منه الآلام كانت معبّرة عن حقائق جليّة إن لم تكن سامية. 
فجأة كبح بلتزار القنوط المعتمل في تفسه وألقى على الحضور نظرة 
جليلة تألّقت لها النفوسء وتناول الألماسة وقدّمها إلى مرغريت هاتفاً: 
«إِنّها لك يا ملاكي!» ثم صرف لمولكنيه باشارة والتفت إلى موثق العقود 
قائلاً: «لنتايع». 
أثارت هذه الكلمة في الجمع رعشة مماتة لتلك التي كان يحدثها تالما(١)‏ 
خلال بعضى أدواره؛ في الجماهير المصغية إليه. 
جلس بلتسزار وهى يقول يصوت منخفض: «يجب ألآ أكون إلا أياً هذا 
اليوم». 
تقدمت مرغريت التي مسمعت هذه الكلمة؛ فتناولت يد والدها وقبلتها 
باحترام. 
«ما من رجل كان يهذا الكير» قال إيمانويل عندما عادت خطيبته إلى 
قريه. «ما من رجل بهذه القدرة؛ فأي واحد غيره يصاب بالجنون». 
قرئت العقود الثلاثة ووقعت»: وأسرع كل واحد يسال بلتزار عن الطريقة 
التي تشكلت فيها هذه الالماسة؛ لكنه لم يستطع الاجابة عن حدث يبدو كثير 
الغرابة» وتطلّع إلى السقيفة: وأشار إليها بغضب. 
«نعمء إن القدرة المروعة الناتجة عن حركة المادة الملتهبة التي شكّلت دون 
شك المعادن, والالاميسء قد تجلّت هنا لفترة: صدفة, 


)١(‏ تالما: (1957 - 1473) ممثل تراجيدي فرتسي اهتم بالحقيقة التاريخية وأعاد اللهجة 
الطبيعية للمغالاة المئساوية. كان أثيراً لدى نابوليون 


كرات 


«هذه الصدفة طبيعية جداً بدون شكء لقد ترك الرجل هنا الماسة 
حقيقيه وقد أنقذت من بين الألاميس الكثيرة التي أحرقها» قال أحد مدّعي الفهم 
والفصاحة. 

- التفت بلتزار إلى أصدقائه وقال: «لننس هذا الأمر, أرجى ألا تحدثوني 
عن ذلك هذا اليوم». 

تأبّطت مرغريت ذراع والدها لتنتقل إلى الجناح الأمامي من المنزل حيث 
يقام احتفال فخم؛ وقد لاحظ عند دخوله الصالة الكبرى بعد ضيوفه جميعاً أنها 
مزدانة باللوحات وماثى بالأزهار النادرة فهتف: «لوحات؛ لوحات! وبينها بعض 
لوحاتتا القديمة!». 

توقّف؛ وانعقد جبينه؛ ومرت لحظة حزن؛ لقد شعر عند ذلك بثقل أخطائه 
وهى بيقيس مدى مذلته الخفية. 

أقالت مرغريت وقد خمنت ما يعتمل في نفس بلتزار: «كل هذا لك يا 
أبي». 

- أيها الملاك الذي يجب أن تصفق له الأرواح السماوية؛ كم من مرة 
أعدت الحياة إذاً إلى والدك؟. 

- ابسط جبينك لا تعتوره أيّة قتامة, ولا تدع أيّة فكرة حزينة تخامر قلبك, 
لقد كافاتني إلى أيعد مما صبت إليه آمالي. 

لقد فكّرت بلمولكنيه ياوالدي العزيز والكلمات القليلة التي حدثتني عنه 
فيها جعلتني أقدره تمام التقدير. إني لاعترف أنني أسات الحكم عليه أولء لا 
تفكّر بما يتوجب له عليك؛ وسيبقى إلى جانبك كصديق محترم. 

إن ايمانويل يمتلك نحى ستين ألف فرنك ادخرهاء وسنعطها لمولكنيه جزاء 
خدماته المخلصة لك. يجب أن يحيا هذا الرجل مطمئناً بقية أيامه. ولا تقلق من 
أجلنا. فدي سوليس وأنا نتبع حياة هادئة عذبة» حياة دون بذخ» فيمكننا إذا أن 
نتخلّى عن هذا المبلغ إلى أن يتسنى لك اعادته إلينا. 

«آه! يا ابنتيء لا تتركيني أبداً! كوني دائماً العناية الإلهية لوالدك». 


لام ا- 


بدخوله إلى جناح الاستقبال؛ لاحظ بلتزار أنه قد رمّم وأسّس بشكل لا يقل عن 
روعته من قبل. دخل المدعوون بعد ذلك إلى قاعة الطعام الكبرى في الطايق 
الأرضي مروراً بالدرج الكبير حيث لاحظوا على كل واحدة من درجاته شجيرات 
مزهرة؛ وفضيات رائعة مبتكرة مقدمة من غابرييل لوالده أدهشت الأنظار: كذلك 
طقم مائدة بدا غريباً بالنسبة للسكان الرئيسين في مدينة يعتير مثل هذا الطقم 
مونسة تقليدية فيها. كان خدم كونينكس وبييركين وكلايس يقومون على خدمة 
المدعوين خلال تلك الوليمة الفخمة:؛ برؤية نفسه في صدر ثلك المائدة المتوجة 
بالأهل والأصدقاء والوجوه المشعة فرحاً عارماً ومخلصاًء أحس يلتزار» ومن 
خلفه يقف لمولكنيهء باتفعال أحانذ حسمت أمامه الجميع: كما يصمت عادة في 
الأفراح الكبرى أو الآلام الكبرى. 

هتف بلتزار «أيّها الأولاد الأعزاءء لقد ذبحتم العجل المسمن عند عودة 
الأب الضال. 

هذه الكلمة التي أدان العالم فيها نفسه. وريما حال بواسطتها عن 
إصدار أحكام أكثر قسوة:؛ قيلت بنيل بحيث رق لها كل واحد من الحضور, 
فمسح دمعه لكنها كانت آخر تعبير عن الكابة؛ فالفرح اتخذ تدريجياً طابعاً 
صاخباً وناشطاً يذكرٌ باحتفالات العائلة؛ ويعد العشاء وصل نخبة سكان المدينة 
لحفلة الرقص التي افتتحت والتي تتداسب مع الأبهة التقليدية لمنزل كلايس 
المجدد. وقد تمت الأعراس الثلاثة بسرعة؛ وأجريت بمناسبتها احتفالات وولائم 
وحفلات رقص دفعت لعدة أشهر العجوز كلايس في دوامة المجتمع؛ وقد ذهب 
ابنه البكر ليستقر في ملكية قرب كامبري تعود الكونينكس الذي لم يرد أبداً أن 
يفترق عن ابنته. كذلك غادرت السيدة بييركين البيت الأبوي لتقيم في القصر 
الذي بناه بييركين وأراد أن يحيا فيه حياة النبلاء بعد أن باع مكتبه عند وفاة 
عمه دى راكه الذي ترك له كنوزاً ادخرها بهدوء». أما جان فسافر إلى باريس 
لينهي دراسته. 

بقي آل سوليس وحدهما إذا قرب واادهما الذي تخلّى لهما عن الجناح 


-1١مم-‎ 


الداخلي من المنزل؛ بعد أن سكن في الطابق الشاني من الشقة الأمامية؛ 
واستمرت مرغريت بالسهر على الوضع المادي لبلتزار يساعدها في هذه المهمة 
اللطيفة إيمانويل. لقد تلقت هذه الفتاة النبيلة من أيدي الحب التاج الأكثر 
اشتهاء؛ ذلك الذي تضفره السعادة؛ ويحفظ بريقه الاستقرارء الواقع أن ما من 
زوجين يقدمان بشكل أفضل صورة عن الغبطة الكاملة؛ المعلنة» النقية؛ التي 
تشتهيها جميع النساء في أحلامهن. إن اقتران هذين الكائنين الشجاعين أمام 
تجارب الحياة, الذين تحابا بقدسية أثار في المدينة إعجاباً محترماً. كان السيد 
دع سداين 45 سن روكذ سد ة طورلة عراف زعاناً قن الفاضة ود استقال من 
وظيفته ليستمتع بشكل أفضل بحياته السعيدة: ويبقى في دوي حيث كل فرد 
فيها يقدر باحترام كبير مواهبه وطبعه, حتى أن اسمه مسجل مسبقاً لدى 
الناخبين عندما يصل إلى العمر الذي يجيز له الترشيح للنيابة. أما مرغريت التي 
ظهرت قوية في الشدة, فقد أصبحت في أيام الرغد امرأة رقيقة طيبة؛ وبقي 
كلايس خلال تلك السنة مشغولاً بشكل رصين دون شككء وإن كان قد قام ببعض 
تجارب قليلة الكلفة؛ يمكن لدخله أن يكفيهاء فقد بدا أنه يهمل مخبره؛ 
واستعادت مرغريت مئ أجله عادات منزل كلايس القديمة فكانت تقيم كل شهر 
حفلة عائلية يحضرها آل يييركين وآل كونيتكسء كما تستقبل نخبة مجتمع 
المدينة في أحد أيام الأسبوع حول فنجان قهوة اكتسب شهرة فائقة؛ وكان 
كلايس يحضر جميع هذه الاجتماعات رغم شروده غالباً» فيعوب بكياسة رجل 
مجتمع إرضاء لابنته البكر حتى أن أولاده اعتقدوا أنه قد تخلى عن اأسعي إلى 
الكشف عن حل لمشكلته. وهكذا مرت ثلاث سئوات على هذا المثوال. 

في العام 14858: اقتضى حدث ملائم من ايمانويل أن يسافر إلى 
اسبانية؛ قبالرغم من أن بينه وبين أملاك ال سوئيس ثلاثة فروع متعدّدة الأفراد 
فإن الحمى الصفراء. والشيخوخة: والعقم, وجميع نزوات الثروة قد توافقت 
لتجعل من إيمانويل وريث اللقب والإنابات الثرية, هو الأخير في العائلة؛وكان 
بيت دى سوليس بإحدى هذه الصدفء التي تبدى غير معقولة في الكتب فقطءقد 


-146- 


ضم كونتية نوروء ولم تشأ مرغريت أن تبتعد عن زوجهاء وقد اقتضت أعماله أن 
يبقى مدة في اسبانية وزادها الفضول في أن ترى قصر كازار ريال حيث قضت 
أمها أيام طفولتهاء ومدينة غرناطة المهد الأبوي لعائلة سوليس» قسافرت بعد أن 
. عهدت بإدارة المنزل لإخلاص مرتاء وجوزيتء ولمولكنيه الذي تعود تسييره. 

عرضت مرغريت السقر على والدها إلى اسيانية قاعتذر بكبر سنه, لكن 
أعمالا عديدة كان قد قكّر يها منذ مدة طويلة» ويؤمل أن تحقق آماله. كانت هي 
السيب الحقيقي لرفضه. 

بقي الكونت والكونتس دي سولي نورى في اسبانية مدّة أطول مما كان 
مترقها نيعا »وردقت موخريت متاك طفلا رفي متتضيف القاع + 187 كانوا في 
قادس حيث توقعوا الإبحار للعودة إلى فرنسة عن طريق ايطالية, لكنهم تلقوا 
رسمالة من فليسيا تنبىء فيها أختها انباء حزينة» فوالدهم خلال ثمانية عشر 
شهراً قد أقلس بشكل كامل. واضطر غابرييل ويييركين إلى وضع مبلغ شهري 
تحت تصرف لمولكنيه ليؤمن نفقات المنزل» وقد ضحى الخادم العجوز مرة ثانية 
يثروته لمعلمه؛ ورفض بملتزار استقبال أي انسان لديه حتى أولاده؛ وتوقفيت مرتا 
وجوزيت. هصرف الحوزي والطباخ ويقية خدم المنزل تباعاًء وبيعت الخيول 
والعربات. ويالرغم من أن لمواكنيه يلتزم الصمت العميق حول عادات معلمه, فمن 
المعتقد أن الألف فرنك التي يقدمها غابرييل كلايس ويبيركين شهريا تستعمل في 
التجاربء والمؤن القليلة التي يشتريها الخادم من السوق تدفع إلى الافتراض 
بأن هذين العجوزين يكتفيان بالضروري العيش. أخيراً وحتى لا يتعرّض المنزل 
للبيع فإن غابرييل ويييركين يدفعان قيمة الفوائد عن المبالغ التي اقترضها 
العمجوز دون علمهما على رهن ذلك البيت» ولم يتمكن أي من أولاد هذا العجوز 
البالغ من العمر سبعين عاماً من التأثير عليه فهى يتمتع بطاقة خارقة تدفعه إلى 
تحقيق كل ما يريد حتى المستحيلة منها؛ وربما أمكن لمرغريت وحدها أن 
تستعيد األسيطرة التي سبق أن مارستها على بلتزار» وقد رجت فليسيا أختها 
أن تحضر سريعاً. وهي تخشى أن يكون والدها قد وقع بعض الكمبيالات؛ 


-19.- 


وغابرييل وكو نيتكس ويييركين مرتاعون كلهم من استمرار هذا الجنون الذي 
استهاك تحى سيعة ملايين دون نتيجة؛ وقرروا عدم دقع ديون السيد كلايس. 

هذه الرسالة غيرت ترتييات سفر مرغريتء فاتخذت الطريق الأكثر قرياً 
للوصول إلى دويء فمدخراتها وثروتها الجديدة تتيحان لها أن تسدد مرّة أخرى 
ديوت والدها؛ لكتها تريد أكثر من ذلك؛ تريد الامتثال لطلب أمها في ألا تسمح 
بنزول بلتزار إلى القبر مسريلاً بالعار. من المؤكد أنها وحدها تستطيع أن 
تمارس على هذا العجوز نفوذاً لمنعه من الاستمرار في عمله المخرّب في عمر لم 
يعد بالإمكان فيه انتظار عمل مثمر من إمكاناته الراهنة. لكنها تريد أن تسوسه 
دون أن تغضبه كي لا تفعل كأبناء سوفوكليس(7©). في الحالة التي يقترب منها 
والدها من الهدف العلمي الذي بذل الكثير من أجله. 

وصل السيد والسيدة دي سوليس إلى الفلاندر في الأيام الأخيرة من 
شهر أيلول 187١‏ وكانا في دوي خلال النهار. توقفت مرغريت أمام بيتها في 
شارع باريسء فوجدته مغلقاً. قرعت الجرس بعنف فلم يرد أحداً. ترك تاجر 
عتبة متجره حيث استلفتت انتباهه قرقعة عربات السيد دي سوليس وحاشيته؛ 
كما أن كثيراً من الأشخاص أطلوا من الثوافذ ليستمتعوا بمشهد عودة تلك 
العائلة المحبوبة في كل المدينة ومنجذبين أيضاً بذلك الفضول المبهم الذي يتعلق 
بالأحداث التي ستنتج في منزل آل كلايس بعد وصول مرغريت. أخبر التاجر 
وصيف الكونت دى سوايس أن العجوز كلايس قد خرج منذ نحى ساعة؛ ولا شك 
أن لمولكنيه ينزه سيده نحو الأسوار. أرسلت مرغريت في طلب حداد ليفتح لها 
الباب لتتجنب المشهد الذي قد تسببه مقاومة والدهاء إن رفض قبولها لديه كما 
كتبث لها فليسيا. خلال هذا الوقت ذهب إيمانويل يفتش عن العجوز لينبئه 
بمجىء ابنته, بيثما ذهب خادمه ليعلم السيد والسيدة بديركين. فتح الباب في 
لحظة ودخلت مرغريت إلى قاعة الجلوس لتضع فيها متاعها فارتعشت هلعاً من 


عليه لاختلال عقله وأن الشاعر أجاب بقراءة بعض أشهار أوديب إلى كولونء: مما دعا إلى 
رفض طلب الابن, 


-19١- 


منظر الجدران العارية كأن النار قد أتت عليها؛ فخشب التغطية الرائع المحفور 
من قبل فون هويزيوم وصورةالرئيس قد بيعتء على ما يقالء إلى لورد 
سينسر(). كانت قاعة الطعام فارغة لا يوجد فيها .إلا كرسيان من قش وطاولة 
عادية لاحظت مرغريت عليها بارتيا ع صحنين وكأسين وأدوات طعام فضية 
لشخصين وفي صحفة بقايا سمكة مملحة لا شك أن كلايس وخادمه قد 
تقاسماهاء وفي لحظة تجولت في المنزل فراعها مشهد العري المماثل لما رأته في 
قاعة الجلوس وقاعة الطعام يسود جميع الغرف الأخرى. لقد مرت فكرة المطلق 
في كل مكان كمرور الحريق. لم يبق من الأثاث إلا سرير وكرسي ومنضضدة في 
غرفة والدها وشمعدان سيء من نحاس بدت فوقه نهاية شمعة من النوع 
الرديء. كان العري كاملاً حتى أن النوافذ كانت بدون ستائرء وقد بيعت جميع 
الأشياء التي يمكن أن تكون ذات قيمة؛ جميعها حتى أدوات المطبخ. دقفعها 
الفضول الذي لا يفارق الإنسان حتى في البلية فدخلت إلى غرفة لمواكينيه فرأتها 
عارية كغرفة سيده. وفي درج الطاولة نصف المفتوح لاحظت وصلاً من مون 
دى - بيته يقيد أن الخادم قد رهن ساعته منذ عدة أيام سابقة. هرعت إلى 
المخبر فوجدته مليئاً بالأجهزة العلمية كما في السابق. ثم انتقلت إلى جناحها 
فوجدته على حاله؛ لم يمس والدها مته شيئاً. 

من النظرة الأولى التي ألقتها على متاعها الخاص نقرت الدموع من 
عينيهاء وغفرت لأبيها كل شيء. ففي وسط هذا الهيجان المدّمر توقف الاب إذا 
أمام العاطفة الأبوية واعترافه بالجميل لاينته! هذا الشاهد على الحنان, المتلقى 
في لحظة وصل فيها قنوط مرغريت إلى ااذروة حدد ل اه 
المعنوية ااتي تقف أمامها القلوب الأشد قسوة دون قوة. : 

نزلت إلى قاعة الجلوس وانتظرت فيها وصول والدها في قلق يزيد الشك 
هلعاً. كيف «ستراه من جدين؟ مهدماً» عاجزاً. متألاً. ضعيفاً من قلة التغذية التي 


النادرة والتحف. 


-1915- 


تعرّض إليها أَنَفةُ؟ لكن: أيكون محافظاً على عقله؟ سالت الدموع من عينيها دون 
أن تلاحظ ذلك عند تمعنها في هذا الحرم المدمر. مرّت أمامها صور كل حياتها, 
وجهودهاء واحتياطاتها التي ذهبت سدى؛ وطفولتها وأمّها في سعادتها 
وشقائهاء كل شيء؛ حتى منظر طفلها جوزيف وهى يبسم أمام هذا المشهد من 
الخراب. فشكلت لديها قصيدة كآيات مؤمة, 

لكن مهما توقّعت من بلايا فإنها لا تنتظر حل العقدة التي يجب أن تتوج 
حياة والدها؛ هذه الحياة العظيمة والبائسة في آن معاً. إن الوضع الذي يوجد 
فيه كلايس لم يعد سرًاً على أحد؛ فمّما يخجل ألا يصادف في دوى قلبان 
شهمان يكتان الاحترام لمواظبة هذا الرجل العبقري. إن بلتزار بالنسبة للمجتمع 
بكامله رجل يجب تحاشيه. إنه أب سيء بدّد ست ثروات تقدر بالملايين؛ وهو 
يفتش عن حجر القلاسفة في القرن التاسع عشرء هذا القرن المستنير هذا 
القرن الجامدء هذا القرن. الخ... لقد افتري على والدها بتعييره باسم 
السيميائي» بمجابهته بهزء «إِنّه تريد صنع الذهب!» أي شيء لا يقال من مديح 
أى رثاء بالنسبة لهذا القرن» حيث كما في القرون الأخرى؛ تتلاشى الموهبة في 
جو لامبالاة بمثل الفظاظة التي كانت سائدة في الأزمنة التي مات فيها دانتي: 
وسرقانتس وتاسو(), الجميع دون استثناء. كل الشعوب تفهم بشكل أكثر تأخراً 
أيضاً ابتكارات العبقرية من فهم الملوك لها. 

هذه الآراء قد تسربت تدريجياً من مجتمع النخبة في دوي إلى 
البورجوازية» ومن هذه إلى عامة الشعب. فالكيميائي السبعيني يثير إذا عاطفة 
عميقة من |اشفقة لدى الأناس المهثبين: وفضولاً ساخراً لدى الشعب؛ 
والتعبيران مليئان بالاحتقار وى «بالويل للمغلوب» التي يرهق بها الرجال الكبار 
من قبل الجماهير عندما يرونهم بؤساء؛ فكثير من الأشخاص يأتون إلى أمام 
منزل كلايس ويشيرون إلى نجمية السقيفة حيث استهلك كثير من الذهب 
(1) دائتي (1710 )185١‏ شاعر ايطالي مؤلف الكوميديا الالهية. 


سرقانتس  ١549/(‏ 1117) كاتب اسباني مؤأف دون كيشوت. 
تاسى )١656  ١644(‏ شاعر ايطالي مؤلف القدس المحرره. 


1915| لبنحث عن المطلق م ١١‏ 


والفحم؛ وعندما يمر بلتزار يشار إليه يالإصبع؛ وغالباً ما تبدر لمظهره كلمة 
سخرية أى إشفاق تتفلت عن شفتي رجل من الشعب أو أحد الأولادء لكن 
مولكينيه يآخذ احتياطه ليفسرها له وكأنها تقريظ وهكذا يتمكن من خداعه دون 
قصد الإساءة؛ ولئن كانت عينا بلتزار قد احتفظتا بهذا الصفاء السامي الذي 
تطبعه عادة الأفكار الكبيرة» فإن حاسة السمع قد ضعفت لديه. إِنّه بالنسبة 
الفلاحين والأناس الفظين والمتطيرين إنسان مشعوذ ساحرء وبيت كلايس النبيل» 
والكبير يسمى في الأرياض والأرياف بيت الشيطان:؛ وكل شيء فيه» حتى وجه 
لمولكينيه يبعث على معتقدات مثيرة للسخرية. انتشرت عن معلمه. وهكذا فعندما 
يذهب هذا المسكين المسترق إلى السوق يفتش عن المؤن الضرورية لاستمرار 
العيشء باحثاً عنها بين الأرخص سعراًء فإنه لا يحصل على شيء قبل أن يتلقى 
بعض ااشتائم على سبيل التسلية وفي وجهه أحياناً؛ وإذا كانت بعض البائعات 
المتطيّرات لا يرفضن بيعه زاده اليومي الهزيل خشية العذاب من مجابهة أحد 
عملاء الجحيم: فإن عواطف كل تلك المدينة كانت بيصورة عامة معادية لهذا 
العجوز الكبير ولرفيقه؛ والفوضى في لباس أحدهما أو الآخر تساعد على ذلك 
أيضاً فهم في أرديتهم يبدون كأولتك المعوزين المستترين الذي يحتفظون يمظهر 
خارجي محتشم ويترددون في طلب الإحسان؛ وعاجلاً أى آجلا يمكن أن يتعرض 
هذان العجوزان إلى الشتيمة. لذلك فإن بييركين: بشعوره كم ستكون الشتيمة 
العامة محقرة للعائلة» كان يرسل دائماً خلال نزهات حميّه اخنين أى ثلاثة من 
اتياعه يحيطون يه عن بعد بمهمة حمايتهء ذلك أن ثورة تموز لم تساهم في جعل 
الشعب أكثر لياقة. 

في أحد هذه الأقدار التي لا تفسير لها خرج كلايس ولموأكينيه في 
ضحوة يومء وفي غفلة عن المراقبة الخفية التي يحيطهما بها السيد والسيدة 
بييركين: ووجدا وحدهما في المدينة» ؤفي عودتهما من نزهتهماء جلسا على مقعد 
في ساحة سان جاك يستمتعان بالشمسء مع مرور بعض الأولاد الذاهبين إلى 
المدرسبة أو الكلية؛ ويرؤيتهم من بعيد لهذين العجوزين الأعزلينء. وقد تألق 


-عو1- 


وجهاهما. في الشمسء أخذ الأولاد يتحدثون, وغالباً ما تنتهي أحاديث الأولاد 
بالضحكات:؛ ومن الضحك ينتقلون إلى المخاتلة الساحرة لكن دون لؤم. وقف 
سبعة أو ثمانية من أوائل الذين وصلوا على مسافة وأخذوا يتأملون هذين 
الوجهين المغضنين وهم يحبسون ضحكات مخنوقة لفتت انتباه لمولكينيه. 

«انتبه» أترى هذا الذي يبدى رأسه كالركبة؟ 

- نعم. 5 ا 

- الواقع أنّه عالم متذ ولادته. 

- إن أبي يقول إنه يصتع الذهب؛ قال آخر. 

«من أين؟ من هناك أ من هنا؟ » قال ثالث وهى يشير يحركة ساخرة 
إلى ذلك القسم الذي يشير إليه التلاميذ غالباً من أنفسهم كناية عن الاحتقار 

تقدّم أصغر أفراد العصابة. وكان يصمل سلّة مليئة بالمؤن ويتلدّذ بتناول 
فطيرة مطلية بالزيدة؛ ببراءة نحى المقعد وقال لمواكينيه: «أصحيح يا سيدي أنكم 
تصنعون لآلىء واألاميس. 

نعم يا ملاكي الصغير: وسنعطيك منها عتدما تصبح عا ماً أجاب 
لمولكينيه باسماً وهى يربت على خدّ الصغير. 

«آدء يأ سيدي؛ أعطني أنا أيضاً» يدرت صيحة هتاف عامة. وركض 
الأولاد كسرب عصبافير وأحاطوا بالكيميائيين» وكان بلتزار غارقاً في إحدى 
التآملات التي أيقظته منها هذه الصرخات.ء فبدرت منه إشارة دهشة سببت 
ضحك الجميع؛ فقال لمولكينيه: «هيًا يا أولاد» مزيداً من الاحترام لرجل كبير!». 

- إلى قناع المساخر() صاح الأولاد. انتم مشعوذون سحرة ‏ نعم 
مشعوذون سحرة: سحرة... 

نهض لمولكتيه على قدميه وهدد بعكازه الأولاد الذين هريوا وهم يجمعون 
الطين والحصى؛ وكان عافل يتغدى على بضع خطوات من هناكك؛ فرأى ل مولكينيه 


)١(‏ قناع المساخر ؛نادءنط© قناع تنكى يلبسه الأولاد في حفلات المرافع لكنهم يلفظون الكامة 
في ضحكاتهم اذا _ هه _ 016 أي تبرز في السرير!». 


-198- 


وهو يرقع عكازه ليدقع الأولاد إلى الهرب فظن أنه يصريهم ونهض لمساعدتهم 
وهو يطلق هذه الكلمة الرهيبة: «ليسقط السحرة!» شعر الأولاد بالمسائدة فرموا 
مقنوفاتهم التي أصابت العجوزين في اللحظة التي ظهر فيها الكونت دي 
سوليس في طرف الساحة يرافقه خدم بييركين لكنهم لم يصلوا بالسرعة 
الكافية ليمنعوا الأولاد من رمي الطين على الشيخ الكبير وخادمه. فالضرية قد 
حصلت. وبلتزار المحتفظ حتى الآن بإمكاناته. يفعل عفة طبيعية لدى العلماء؛ 
الذين تلهيهم اهتمامات الكشف, عن الأهواء, خمّن بظاهرة انغلاف() سر هذا 
المشهدء فلم يستطع جسمه المضنى احتمال الارتكاس المروع الذي عاتت منه 
المناطق الحسئاسة من عواطقه: ٠‏ قسقط بين ذراعي لمواكينيه وقد أصايه الشلل. 
تم حمل العجوز على نقالة محاطأ بصهريه وأتباعهماء ولم تحل أيّة قوة أهل دوي 
من مرافقة العجوز حتى باب منزله حيث كانت فليسيا وأولادها. وجان, 
ومرغريت» وقابرييل الذي وصل من كاميري مع زوجته بعد أن اتصلت به اخته. 

كان مشهداً مروعاً إدخال هذا العجونٌ إلى المنزل» وهى يتخبط في ذعر 
خشية:أن يكشف أولاده سر يؤسه أكثر مما يتخبط من معاناة المرضى القاتل. 

تُصبّ بسرعة سرير في وسط قاعة الجلوس لبلتزار الذي بذلت له 
الإسعافات الفائقة وتبين في نهاية النهار أن حالته تبعث بعض الأمل ياستيعاد 
الخطر واستمرار حياته, لكن الشلل؛ بالرغم من مكافحته بمهارة. سيتركه مع 
ذلك. لمدة طوولة تقريباً في حالة أقرب إلى الطفولة. 

عندما أخذ الشلل يتراجع تدريجياً يا بقي يحبس اللسان الذي استمر 
عاجزاً عن النطق لأن الغضب على الأرجح قد نقل إليه كل قوى العجوز في 
اللحظة التي أراد فيها توبيخ الأولاد. 

أثار هذا الحادث في المدينة استنكاراً عاماً, إن أنه بفعل قانونء ما يزال 
مجهولاً. يوجه عواطف الجماهيرء وجّه جميع الأفكار نحى السيد كلايس, 
)١(‏ الاتنغلاف: انزلاق بشكل إصبع قفاز منقلب لقسم من الأمعاء قي القسم المجاور له لكن 


بلزاك يستخدم هذه الكلمة الطبيّة في المجال المعنوي بمعثى حدس هو ارتداد القكر على 
نقسه, 


-95اس 


فأصيح في لحظة رجلاًٌ كبيراً يثير الإعجاب وينال التقدير الذي حرم منه 
بالأمس. أصبح كل انسان يتغثى بصبرهه؛ وإرادته» وشجاعته؛ وعبقريته؛ وأراد 
القضاة أن يعاقبوا بشدة أولئك الذين اشتركوا في هذا الاعتداءء. لكن البلوى 
حادثة قضاء وقدر؛ وعائلة كلايس أول من طلب طي هذه القضية. 

أموت مرغريت بتأثيت قاعة الجلوس فغلفت جدرانها الداخلية العارية 
سريعاً بالحرير؛ وبعد عدة أيام من ذلك الحادث؛ ويعد أن استرد الأب العجوز 
وعيهء ووجد في إطار أنيق أمنت فيه جميع ضرورات الحياة السعيدة:» أنبىء أن 
ابنته مرغريت قد حضرت في اللحظة ذاتها التي دخلت فيها إلى قاعة الجلوس. 
احمرّ بلتزار وابتلّت عيناه دون أن تنهمر دموعه؛ وأمكنه أن يضغط بأصايعه 
الياردة على يد ابنته واضعاً بذلك كلّ العواطف وكل الأفكار التي لا يستطيع 
أبداً التعبير عنها. كان شيئاً قدسياً ومهيباً وداعٌ هذا المع الذي ما يزال حياً, 
وهذا القلب النابض بالعرفان بالجميل. هذا العملاق» الذي استهلكته المحاولات 
غير المثمرة» وأتعبه الصراع مع مشكلة ضخمة: وأقنطه على ما يبدى المجهول 
الذي ينتظر ذاكرته(). ستتوقف شرايين الحياة قريباً فيه؛ وأولاده من حوله 
جميعاً يحطيونه بعاطفة الاحترام؛ بحيث تستطيع عيناه أن تحيا ثانية بصور 
الرخاء والغنىء وباللوحة الموئّرة التي تتجلّى أهامه في عائلته الجميلة. كان ودوداً 
باستمرار في نظراته التي أمكنه أن يعبر فيها عن عواطفه؛ وقد اكتسبت عيناه 
فجأة تنوعاً كبيراً في التعبير أصبح لديه وكأنّه لفة أشعة يسهل فهمها. 

سدّدت مرغريت ديون والدهاء وأعادت خلال أيام لييت كلايس بهاءٌ حديثاً 
أبعد عنه كل فكرة اتحطاط. كانت دائماً قرب سرير والدها تجهد أن تخمن 
جميع أفكاره وتلبي كل رغباته. 

مرت بضعة أشهر في تناوب التحسن والتراجع التي تشير لدى الشيوخ 
إلى هذا الصراع بين الحياة والموت؛ ابناؤه يمضرون كل صباح إلى قريه, 





)١(‏ تطور جنون كلايس معاثل لرأي الأطباء الفلاسفة الذي عير عنه جورجه في كتابه الجنون 
(1480) والذي قرأه يلزاك يتمعن. 


-/اة1 - 


يقضون نهارهم في غرفته يتناولون عشاءهم أمام سريره؛ ولا يتركونه إلآ بعد أن 
يستسلم للنوم. كانت التسلية التي أعجيته؛ بين جميع تلك التي عرضت أمامه 
هي قراءة الصحف وقد كانت حافلة في تلك الأيام بالأحداث السياسية؛ وكان 
السيد كلايس يستمع بانتباه إلى صهره دي سوليس وهو يقرؤها له بصوت 
عال. 

نحى نهاية العام ١457‏ قضى بلتزار ليلة شديدة الاضطراب استدعي 
خلالها السيد بييركين طبيبه الذي راعه هذا التغيّر المفاجىء لدى المريض بحيث 
أن الطبيب قرر السهر عليه خشية أن يقضي في كل لحظة بتأثير نوية داخلية 
أخذت تأثيراتها طابع النزع. كان الشيخ يقوم بحركات ذات قوة مذهلة محاولاً 
أن يهز أربطة الشلل التي تقيده. إِنّه يرغب أن يتكلم ويحرك لسانه دون أن 
يستطيع تشكيل الأصواتء وعيناه الوهاجتان تبرقان بالأفكار» وقسماته 
المتشنجة تعبر عن الام مبرحة؛ وأصابعه تتحرك بيأسء وقطرات كبيرة من العرق 

في الصباح حضر الأولاد يقبلون والدهم بذلك الى“ الذي زادته خشية 
الموت القريب اضطراماً وشدة لكته لم يظهر لهم أبداً ذلك الرضى الذي تحدثه 
عادة لديه هذه المظاهر من اأحنان؛ وقد أنذر ايمانويل من قبل بييركين فأسرع 
في فض الصحيقة ليرى إن كان في القراءة ما ينسي بلتزار الأزمات الداخلية 
التي يعاني منها. ما أن نشر الصحيفة حتى طالعه هذا العنوان» اكتشاف 
المطلق() الذي أثرّ فيه بشدة, وقرأ على مرغريت مقالاً يتعّق بقضية بيع قام 
بها رياضي بولوني شهير للمطلق؛ ويالرغم من أن ايمانويل قد قرا الخير 
لمرغريت بصوت منخفض وطلبت منه مرغريت أن يتجاوز هذا المقال فإن بلتزار 
سمع ذلك. 
)١(‏ الخير صحيح وهو يتعأق باكتشاف الرياضي البولوني فروتسكي العائد إلى العام 1814 
لكن بلزاك يزيحه إلى العام 1475. 


موا 


فجأة انتصب المحتضر على زنديه وألقى على أولاده المرتعبين نظرة 
أصابتهم جميعاً كالبرق, كانت الشعرات التي تزين قذاله تهتز وتغضنات وجهه 
ترثن ومعناة يتالق يفكزة كالذان:وتفحة حا مرت غلى هذا المضن :ههذا 
شامخاً سامياً. رفع يدا قد تقّصت غضياً. وصاح بصوت مدو كلمة أرخميدس 
الشهيرة «أوريكا» ( لقد وجدتها) وسقط على سريره وقد أحدثت سقطته صوت 
جسم خامدء لقد مات وهى يطلق تنهدة مرعبة؛ وعيناه المتشنجتان تعبّران حتى 
اللحظة التي أطبق الطبيب عليهما الجفتين عن الأسف لأنه لم يستطع أن ينقل 
إلى العلم مفتاح هذا اللغز الذي مزقت عنه أصابع الموت المعروقة الحجاب 
متآخرة. 


باريس حزيران ‏ أيلول 4 *1/5 


-155- 


دراسة القصة 
بقلم: مادلين آمبريير 


البحث عن المطلق... إنه أحد أروع مواضيع الملهاة الإنسانية. 
ففيه اعتقد بلزاك أنّه أبدع «موضوعاً كبيراً» رائعاً')» وكان يبدى دائماً مقتنعاً 
بعظمة عمل يؤثر أولاً على القارىء بفرادته. عديدة هي بدون شك روابط 
موضوعاته مع الدارسات الفلسفية ودراسات طبائع؛ غير أنه يمثل 
الرواية الوحيدة الكبرى في الملهاة الإنسانية التي تدور حوادثها في الفلاندر 
ويكون بطلها أحد العلماء. لقد صنفت بحق بين الدراسات الفلسفية عند دخولها 
الملهاة الإنسانية في العام .١447‏ 

ظهرت رواية البحث عن المطلق في 4؟14: في سلسلة مشاهد من 
الحياة الخاصة؛ حيث يتبرر موقعها تماماً كما أنه يتبرر لو وضعت في مشاهد 
من حياة الأقاليم: هذه الواقعة وحدها تشير إلى غنى هذه الرواية القريد» 
وهي واحدة من الروايات البلزاكية المميزة في الملهاة الإنسانية: إذ يمكن أن 
يرى كل واحد فيهاء وفق ميوله؛ وواية حب سامية, أى مأساة عائلة فلمندية 
دمرها هوى عصف برئيسها نحو اأكيمياء؛ أى مغامرة خارقة لعالم عبقري بحثاً 
عن المطلق, أي تأمّل الرجل المبدع في مواجهة العلم والمجتع. 

في قلب الفلاندر» في دوي وفي منزله الفلمندي النموذجيء حي تتراكم 
منذ مئتي سنة الثروات التي جمعتها ستة أجيال؛ يعيش بلتزار كلايس وريث 
هذه الثروة حتى العام 18.9 وهى يزرع أزهار الخزامى في حديقته. والسعادة 
في عائلته: أربعة أولاد حسني الخلقة» وزوجة دميمة لكنها ممتازة هي جوزفين 
التي جمع بينه وبينها خلال خمسة عشر عاماً حب زوجي دون أيّة أكدار. في 
مساء اليوم من تلك السنة, للأسفء اتدفعت الكيمياءء التي كان قد درسها في 


)١(‏ من رسالة إلى السيدة هانسكا. 


07 1 


شبابه على يدي لافوازييه: إلى حياة كلايس بشكل مفاجىء ونهائي» بواسطة 
ضابط بولوني عابرء هو السيد دي قيرزشونياء وكقت أمسية هذا الزائر لتحؤل 
كلايس إلى عالم عبقري وأب سيء. لقد نشرء باستغراقه في البحث عن المطلق» 
أي المادة الوحيدة العامة التي تشترك بها جميع المخلوقات: الخراب والدموع 
حوله. وقد ماتت جوزفين كلايس المقهورة بهذا العلم المفترسء قهراً وحزناً؛ 
ودخلت مرغريت الابنة البكرء وهي أقوى من أمّهاء معركة جريئة تخللتها 
مجابهات مأساوية مع والدها؛ وقد نجحت؛ خلال بضع سنين: في استعادة 
الثروة العائلية: لكن حريق المطلق أتى مرة أخرى على كل شيء؛ مات كلايس 
بعد أن أفلس مجدداً. مقهوراً وقانطاً؛ إِنّما محاط بتولاده الذين استمروا على 
حبهم له. 

إن الجيل الثمن من ال كلايس قد رمّم ما خر به الجيل السابعء فمرغريت 
قد أعادت لبيت كلايس «بهاء حديثاً يبعد عنه أيّة فكرة انحطاط». وقد عاش 
أخواها وأختها أغنياء سعداءء أمينة على شعارها الذي يمكن أن يلتبس مع 
شعار هولاندة؛ «سأثبت» وستستمر عائلة كلاي... 

أجمع النقاد على تقريظ هذا العمل الذئ يثير شعور القارىء ويجذيه 
رليه؛ ومع ذلك لم يتحرزوا من توجيه بعض اللوم للمؤلف, ففي الماضي كما في 
الحاضرء ردّدت المآخذ نفسها التي سجلت منذ نشر البحث عن المطلق. فرُوا 
كارو بعد أن أبدت اعجابها الشديد يسمى هذا الكتابء تنبأت تيلزاك بطراحة 
قاسية «بأته سيلام لأنه لم يعلّق كبير أهمية على الصعربات المادية في الحياة, 
وبسيكون اللائمون على حق(')» وكان توقعها صحيحاً؛ مما دفع بلزاك ليوحى إلى 
فليكس داقن ليقوم في مقدمة دراسات طبائع., بالردٌ على الناقدين الذين 
يجدون شيئاً من المثالية في الشخصيات: مؤكداً بقوة أن «من مهمة الفنان أيضاً 
أن يخلق نماذج كبيرة وأن يرتفع بالجمال حتى المثالية»؛ وما فتىء منذ ذلك 
الحين على الترديد بأن بلتزار مفرط في العبقرية» وزوجته مفرطة في الكمال, 
)١(‏ من رسالة لزوما كارى إلى المؤلف بتاريخ ١5‏ تشرين الثاني 1854. 


كا 


وابنته مفرطة في الوفاء. والعوطف الطيبة تنتصر بسهولة بالفة؛ ومرغريت 
تستعيد ثروة آل كلايس بيسر الجنيّة المجهزة بعصا سحرية؛ باختصارء كل 
شيء فائق الجمال: وهذه الملائكة الانثويّة سواء لدى الابنة؛ أو لدى الأم؛ قد بدت 
لدى البعض طوياوية مثلها مثل علم بلزاك «الذي تبدو معرفته بالكيمياء أقل منها 
بقوانين التركات وأملاك القاصرين التي ظهر فيها مورثى العقود الذي ابتدعهم 
غير معرّضين أبداً للرسوب(). 

هل يجب إذاً مع البحث عن المطلق المديث عن الخيال العلمي, 
وبسيكولوجية قصص الساحرات؟ يوطويبا أم واقع؟ شعر أم حقيقة؟ هذا هو 
السؤال الذي تجرب هذه المقدمة أن تجيب عنه. 


1 

اختار بلزاك للرواية في طبعة شارينتيه, العام 1879ء عنوان: «بلتزار 
كلايس أو البحث عن المطلقء مركزاً بذلك على دور الشخصية الرئيسة, 
ذاك الذي أثار الفضيحة:, والدمارء والحداد؛ واكن سانت بوق أول من لح إلى 
التقارب الخادع بين كلايس والشيميائي المعروف جيداً سيلياني الذي قص في 
كراس نشره: هومس المنكشفه, في العام :١147١‏ كيف توصل بعد سئوات 
طويلة من العذاب إلى اكتشاف حجر الفلاسفة. 

لم يظهر أي دليل قاطع يدعم فرضية الباحثين المتحمسين الذين أرادوا أن 
يكتشفواء في مخيط بلزاك؛ بلتزار كلايس أصيلاً؛ وقد أكّد أحدهم أن بلزاك كان 
يفقكر بشخص حقيقي قديم يرتبط بعائلته» وهى البارون ماله دي تروميئي» الذي 
عاش بعض الوقت في دويء وعكف على ما يبد على السيمياءء بيتما أراد آخر 
أن يجد في كلايس عماً للسيدة هانسكا الذي انصرف إلى حجر الفلاسفة, 
ا 


لكل ات 


مع تاليفه لدراسة في الكيمياءء قد يكون اطلع عليها الروائي بالرغم من 
عدم ترجمتها من البولونية؛ وفي فرضية ثالثة فإن كلايس الحفيقي هى أوغوست ' 
دومرك الممون القديم للجنود والصرافء والصديق القديم لوالد بلزاك والحالم 
جسماً وروحاً. على ما يقال في السيمياء. في صحراء هذه الأبحاث غير 
المجدية, لم تكن هذه التوقّعات إلا سراباً يتلاشى عندما ينظر إليه عن قرب؛ 
والواقع أن آسماً واحداً من بين جميع الأسماء التي عرضت يستحق أن يشار 
إليه في معرض الحديث هن كيميائي دوي أىعن عبقريته الفاشلة: فى اسم 
الرياضي البولوني فرونسكي الذي أثارت قضية الفريبة مع المسمى آأرسؤن 
الذي باعه كشفه المطلق (الفلسفي) اهتمام الصحف في العام ١148١4‏ وقد من 
تلميح إلى هذه القضية الشهيرة التي أزاحها الروائي في الزمن حتى العام 
87 في كلمة «المطلق»؛ وهى كل ما يمكن معبرفته عن هذه.ااشخصية الغريبة 
التي أثارت بمغامرتهاء للحظة قصيرة بلزاك: كما يستدل من تاريخ النص(", 
ولكن لا يمكن لا بالنسبة لمصيرهاء ولا بالنسبة لطبعهاء أى شكلهاء مقارنتها مع 

لقد نقى بلزاك بشدة الرأي القائل بأته أراد أن يخلق نموذج السيميائي 
في شخص بلتزار كلايس؛ وقد كذَب ذلك الزعم الخاطىء بقلم فليكس داقن: 
«يعتقد البعض وكزّر بعدهم آخرون, بأن أبحاث بلتزار كلايس غايتها البحث عن 
حجر الفلاسفة؛ وظهر الشيء نفسه في كل مكان بتعابير أخرى. إن الثقاد لى 
قرؤوا هذا الكتاب, الذي يستحق كل تقديرء بتمعن: لأدركوا بالتاكيد؛ أن 


4.0.٠.٠١ باع قرونسكي لزميله وتلميذه أورسون كشف «المطلق قي العام /1417 بمبلغ‎ )١( 
فرنك تقسيطاً يسدّد بمعدّل ...4 ف كل عام. بعد أن التزم‎ 58.٠١ فرنك كمبيالاتى‎ 
أورسون بالعقد في العام الأول وجده باهظ الثمن قامتتع عن الدفع في العام التالي» ووجه‎ 
إليه قرونسكي رسالته الشهيرة» ايستحق ما علمتك اياه المبالغ المتفق عليها. أجب بتعم أى لا.‎ 
إن أجبت بلا رددت لك كل شيء:؛ وأن أجبت ينعم يحب أن تدفع. وقد خضع أورسون لمعلمه‎ 
.1414 وأجاب بنعم ودفع بعد تلك الرسالة المؤرخة في تمون‎ 


ع ات 


الفلمندي المثالي هو أسمى من السيميائيين القدامى أى المصدثين» بمثل سمى 
علماء الطبيعة في عصرنا عن أمثالهم في العصر الوسيط» كما عبر عن إرادته 
في أن يكون بطله خارج مجال السيمياء» بحيث لم يذكر ضمن أهداف أبماثه 
أيّا من الهدفين الرئيسين: «البحث عن إكسير الحياة الطويلة, وتحول المعادن أي 
صنع الذهب. والواقع أن السيميائيين قد تراجعوا دائماً أمام صنع الالماس» 
وكانوا يجهلون تركيبه؛ وكلايس لم يفكّر بصنع !اذهبء وهى ببحثه عن أسرار 
'اكثر أهمية من ذلك؛ كما يؤكّد المؤلف, قد فكّر بإمكان الوصول إلى صنع 
الألماس ببلورة الكربون؛ وهذا يعود إلى مجال الكيمياء. وهذه الطريقة 

يبتكرها بلزاك؛ ففي العام 21874 أي قبل ست سنوات من نشر البحث عن 
المطلق» تمت مناقشات مثيرة في أكاديمية العلوم حول تصنيع الالماس كانت 
موضمع اهتمام الجمهورء قمن أجل تهدئة الخواطر والتوفيق بين الكيميائيين 
اللذين يتنازعان أسبقىية الكشف عن ذاك بالرغم من الفرق بين الطريقتين 
المتبعتين: فإن الفيزياتي الشهير فراتسوا آراغى قد أبلغ زملاءه في الأكاديمية 
عن محاولات كيميائي آخر يعرفه. من أجل الحصول على الألماس ببلورة الكريون 
من هذا الكيميائي؛ الذي تبيّن أن اسمه تيلوريه. استمد كلايسء إلى جانب مبداً 
هذه التجربة؛ فكرة اختزال المعأدن بواسطة ماكتة مقرغة من الهواء. بينما أخن 
عن الكيميائي دولونغ اتحاد ألكلور والآزوت: وعن فوركروا وفوكلن تحليل 
الدموع؛ وهكذا نجدء أن وراء كل تجربة من تجارب بلتزار كلايس؛ اسم أحد 
العلماء. وإذا كان لا يمكن الاعتماد في مجال السيمياء على أي مصدر حقيقي 
مقنع, ففي الكيمياءء بالمقايل. تكتشف سريعاً, وكما قال بلزاك «أن الكتاب لا 
يختلقون شيئأ». إِنْ هذا لا يعني أبداً وجود «نموذج» للبطل البازاكي بين 
كيميائي ذلك العصر. إن جميع تجارب كيميائي دوي أصلية, لكنه هو بالذات 
ليس تيلوريه ولا فوركروا بل ولا آراغى الذي استمد المؤلّف بعض ملامحه. كما 
جميع شخصيات الملهاة الإنسانية:؛ فإن بلتزار كلايس كائن متخيل كلياً 


هو لكآت 


وقد قال عنه بلزاك أنه يمئل «جهود الكيمياء الحديثة»() وفي هذا القول صيغة 
معبرة, فهى يشير من جهة إلى الطابع التركيبي والتموذجي لكلايسء كما أنه 
يتضمن من ناحية أخرى معرفة حقيقية لدى المؤلّف بالكيمياءء فلماذا التشبثت 
بإنكار هذا العلم على المؤاف. وقد أعطى التاكيد والبرهان على امتلاكه؟ فقد 
كما درست الكيمياء من أجل كتابة اليحث عن المطلق». هذه البنية تؤكّد 
اعتراقاته في العام ما «إن عضوين من أكاديمية العلوم قد علماني الكيمياء 
اثنتي عشر مرّة؛ وقد وجب أن أقراً برزيليوس»؛ ووفقاً لكل احتمال لم يكن غي 
لوساك وشفرول هذين العالمين. كما ادّعي في شهادة شفهية متأخرة وواهية, 
وإِنّْما هما فرائنسوا أراغو ومساعده وصديقه إرنئست لوجيه الشاب في حينه, 
والذي لم ينتخب إلا فيما بعد عضواً في أكاديمية العلوم؛ يستدل من تاريخ 
الخص الدور الذي لعبه فرانسوا آراغى في إتشاء اليحث عن المطلق وقد كان 
مديراً للمرصد”() وجاراً لبلزاك؛ وكذلك وبصورة خاصة دور أرنست لوجيه الذي 
أهداه الروائي نسخة من مؤّلقه مع عبارة التقدمة المعبّرة «إلى السيّد لوجيه. 
دليل. على اعتراف المؤلّف» القليل الخبرة بالكبياء. بفضله / دي بلزاك» أطلع 
لوجيه إذا بإزاك على الكيمياء, ودفعه إلى أن يقراًء من(بين قراءاته» مؤلّفاً في 
ثمانية أجزاءء ثرجم حديثاً إلى الفرنسية وهى المفصل في الكيمياء ليرزيليوس, 
الذي لا يظهر اسمه في الرواية لكنه ذكر في ثلاث مناسبات في المخطوطة. 
فالمؤلف ينسب إلى العالم السويدي تجرية السيّد فيرز شفونيا المتعلقة بنبات 
القَّرّة ‏ وقد تسخها كما وردت تقريباً ‏ وكذلك تجريتين لبلتزار كلايس: وعموميات 
حول الأجسام البسيطة وألفتها الكيميائية» وحتى فرضية حول الطبيعة اليسيطة 


0( مئ رسالة إلى هيبوليت كاستل تشرت في «الاسبوع» بتاريخ ١١‏ تشرين أول .١85"‏ 
(؟) كان بلزاك صديقاً لايمانويل ابن فرنسوا آراغ'الميّال إلى الكتابات المسرحية وكان يتردد 
على المرصد .حيث يعمل والده؛ وعن طريقه عرف في السابق قضية فرونسكي. 


هوت 


أى المركبة للمعادن؛ فالقضل بلا مراء يبدو كبيراً» لكنه ليس وحيداً فالمراجع 
المكتوية والمصادر الشفهية تتواصل لتقديم الوثائق اللازمة للروائي وتوجيهه إلى 
المواضيع العلمية الأكثر حداثة كما تبرهن, مثلاً. الاشارات إلى الاختراق الذاتي 
ووجود الفوسفور فر المخ» وهما موضسوعان من المواضيع التي كانت تشغل 
الأوساط العلمية في فترة تاليف البحث عن المطلق. ١‏ 

بمثايرة» كما نرىء بتعلم بلزاك لغة العلماء» وتجاربهم؛ قبل أن يجسد في 
بلتزار كلايس تحقق تقدم الكيمياء منذ لافوازييه؛ لكننا ننخدع إن رأينا فيه 
تموذج الكيميائي التجريبيء فالتحليل لا يبدى هدقاً لتجارب كلايس؛ فهو يسعى 
باستمرار إلى التركيب؛ كما أن الروائي يؤكّد استهانة كيميائي دوي بالنتائج 
الهامة التي يمصل عليها ولا ينشرها في الوسط العلمي؛ لأنه مهتم حصراً 
بالتحقّق من فرضيته التوحيدية؛ لذلك كان استنتاج قيرزشوفينا عن تجرية القّره 
مختلفاً عن استنتاج برزيليوس نصير الثنائية؛ وبلزاك الملتزم بالحرف لا يتقيد 
دائماً في استعاراته الأدبية بنصه؛ وقد شرح ذلك بوضوح بواسطة فليكس داقن 
في مقدمة دراسة طيائع؛ وفي البحث عن المطلق يقول داقن «إن المؤلف 
يطلب من الكيمياءء ماذا فعلت, وإلى أين تسيرء لقد تعلّم لغتهاء ثم حلّق 
بضريات قويّة من جناح الشاعر؛ لتنفتح أمامه الآفاق الواسعة التي تتسلّقها 
العلوم التجريبية بصعوية؛ وقد تسلّح بإحدى هذه الفرضيات المذهلة التي ريما 
برهن على صحتها يوماً. 

هذه الفرضية هي وحدة المادة, وهي فكرة بلزاكية قديمة إذ آنه وهى 
مؤلّف الملاحظات الفلسفية اهتم في وقت مبكّر جداً بهذه القضية؛ «بالكتاب 
الروحانيين الذين اهتموا بالعلومء في علاقاتها مع اللانهائي؛ مثل سويد نبور غ. 
وسان مارتنء إلخ... «وبالعبقريات اللامعة في التاريخ الطبيمي مثل ليبنيتزء 
ويوفون. وشارل بونه» كما يذكر ذلك في تمهيده للملهاة الانسانية؛ فبازاك 
الشاب يطلب جواباً عن مشكلة الخلقء ومنذ العام ١814‏ إلى ١1874‏ يؤكّد على 
استمرارية تفكيره بوحدة المادة التي تأخذ في العام ١4818‏ شكل معادلة 


اي اا 


كيميائية؛ فمن فالثورن المعظم «لذلك الذي يرفع شراعاً من رصاص تغلّف 
قدرته الطموح محراب الأسباب الأولية» إلى البحث عن المطلقء ويعد ذلك 
بقليل اعتراف الروجيريين يبدو حلم بلزاك بالقدرة بواسطة المعرفة التي تستمد 
ينابيعها من العلم وعلوم السحر والتنجيم لدى علماء الطبيعة والروحانييين» ولهذا 
السبب فالسيد دي فيرزشوفينا يستمد اعتباراته عن مثلث التركيب من سان 
مارتن ويبدى مشرباً بالاراء التي يطرحها جوزيف دي ميتر في أمسيات سان 
بطرسبرج؛ كما أن بلتزار كلايس يعكس تصورات سويدنبرغء أى أنطوان دي 
لا زَّال أى إدوار ريشة؛ حول طبيعة الإنسان والكون وكذلك حول الطبيعة 
المشتركة لجميع العناصرء وعندما يختار الروائي كيميائياً كبطل له. قمن 
البديهي ألا يتمكّن هذا من البحث إلا عن المطلق؛ فالقضية المطروحة عندئذ هي 
في معرفة إلى أي مدى ترك المؤلف علماً أصيلاً ثابتاًء كما تدلّ على ذلك براهين 
عديدة: لينساق: كما سبق أن قيل نحى بقاع مجهولة من الخيال العلمي. 

نلاحظ أولاً أن هذه الفرضية العزيزة على بلزاك تحمل سمة عصره. ذلك 
العصر المولع بالوحدة والتحقّق, حيث في العلومء كما في الفنون والأدب» قإن 
طموح الرؤيا الشاملة للعالم ولتعبيره الكلي جعلت من جميع المبدعين يحائة عن 
المطلق. عدا عن ذلك يبدو بصورة خاصة من المهم الإشارة إلى أن السيّد دي 
فيرزشوفينا يتحدث قبل الكيميائي جرهاردت بعشرين سنة عن «الكيمياء 
الموحدة»؛ فالتيار الموحدٌ في العلوم؛ منذ بداية القرن» ظهر بحمية خاصة لدى 
الكيميائيين الفلاسفة: هؤلاء المفكرين المهتمين بالتركيب الذي تطرحه مشكلة 
الخلق بتعابير كيميائية؛ فليس من قبيل الصدقة أن نلاحظ في بداية أوهام 
ضائًعة؛ لوسيان دي رويميره ودافيد سيشار يقرأان معاً برزيليوس وداقي, 
ومن المؤكّد أن بلزاك كان يقعل مثلهما؛ فكيف لا يفتتن بميل الكيميائي الانكليزي 
الوحدوي: مؤلف عناصر الفلسفة الكيميائية: الذي يؤمن ببيساطة 
الوسائل, ويفكر أن العديد من الأجسام البسيطة تمكل أشكالاً مختلفة لدرجات 
تكهرب متغيرة للمادة نفسها؟ فنظريات ومحاكمات فيرزشوفينا, في معظمهاء 


لم 


مستمدة من دافيء الذي يبدو كالشخصية البلزاكية مقتنعاً بالفرضية الموحدة 
التي تتلاءم كلياً مع الاعتقاد بالله الخالق المبدع. 

إن بلزاك كما يبرهن تلميحه إلى الكيمياء الحديثة التي تلخص الخَلّق 
بواسطة الفاز(')» عرف انطلاقة أخرى للكيمياء الموحّدة تعود في العام 141, 
إلى تجارب العالم الانكليزي وليم بروت الذي أشار إلى أن الهيدروجين يمكن أن 
يكون القاعدة المشتركة لجميع العناصر. كما أنه تتبع دون شك عن قرب أيضاً 
أعمال أشهر الكيميائيين الموحدين في ذلك العصر وهى جان باتيست دوماء 
المعجب يداقي وصديق أراغى الصدوق المقدّر في آن واحد في المجتمع العلمي 
والمقرّظ في العام 1447/ من قبل هورتنسيوس فلامل مؤرخ السيمياء باعتبار 
«أنه الاكثر تقدماً بين كيميائينا المعاصرين». كما أن دوما قي كتابه دروس في 
الفلسفة الكيميائية في ١477‏ يخصص فصلاً عن سويدنبرغ ويلمّح عند 
ذاك إلى «سرا فيتوس سرا فيتا للسيد دي بلزاك». 

هكذا يجسيد بلتزار كلايس فعلاً دجهود الكيمياء الحديثة» ليس فقط 
نتائجهاء وإِنّما أيضاً تطلعاتهاء وفرضياتهاء التي قد تصبح يوماً حقائقها 
المبرهنة. من المؤكد أن هذه اللغة قد اعتراها القدم, وقارىء هذه الأيام يمكنه 
الابتسام بسخرية وهو يرى بلتزار يمدّد العواطف كمادة اتيرية تنطلق, أى يتكلّم 
عن حالات مختلفة من الكهريائية حيث نتكلّم نحن عن اختلافات طول الموجات؛ . 
فهذا لا يمنع أن يؤْكّد العلم كثيراً من تجارب وأفكار بلتزار كلايس» وأن يظن 
أحد الباحثين في مخير معهد البوليتكينك في العام ١11١‏ أنه قد ابتكر إحدى 
تجارب الكيميائي البلزاكي؛ وأن يعتبر المبدأً الذي أوحى إلى هذا العالم 
ب معتخدام الحرارة الشمسية بواسطة ماكنة هوائية هى نفسه الذي وجه إلى 
تحقيق الفرن, الشمسي في مون لويسء كما أن في أيامنا هذه يستعمل حقل 
مرايا قي أوديليى من أجل فرن شمسي كبير وضع في محرقه مرجلء قبل أن 
نتاكّد في الغد نجاحات الترموديناميك الشمسي؛ أليس في ذلك برهان على أن 


_. ب_0 البحث عن المطلق م4١‏ 


بلزاك كان على حق ليحامي عن القضية العلمية كما اعترف بذلك أخيراً النقد 
ماضن الى كسيف كتى في مفنيكه بالسنة مالفال العلفي ولننديه ملم 
ذلك إلى أن مثل هذه التاكيدات على وحدة المادة تتجاوب حالياً مع صدى 
حديث؛ حيث يبدى أن حدس سويدنبرغ عن حقيقة العالم غير المنظور يتثبت 
بتجارب إيجابية. 

عالم أصيلء ومؤلف تجارب هامة وشخصية نموذجية تتجسد فيه 
تجاحات الكيمياء الحديثة هو بلتزار كلايس؛ أيكون هو أيضاً نموذج المبتكر 
الذي جرب بلزاك عبثاً رسم عذاباته: منذ العام 1857/ حينما اختار له يطلا 
برنار ياليسي. من الفكرة لا تتفدّح هنا غير مظاهر «الآلام» وليس الأبتكار, 
فكلايس المنطلق قي البحث عن سر الخلق؛ هو رجل عبقريء مُنح كجميع 
الكائنات السامية في الدراسات الفلسقية: مظهراً «خارقاً» يعبر عن سموه. 

هكذا يظهر أولاً في عيني القارىء كشخصية خارقة: أخاً. في الدراسات 
الفلسفية لأولئك البحاثة عن المطلق الذين يسمون في الموسيقى غامبارا . وفي 
الرسم فرتهوقر. فَوفّع خطواته التي تسمع قبل رؤيته تسبّب قلقاً للقارىء 
يتزايد ظهوره المفاجىء في قاعة الجلوس الهادئه من البيت الفلمندي. عن هذا 
الرجل ذي الوضع المهملء والنظرة الشاردة؛ والهيئة الجامدة, والصورة الأكثر 
يعدا عن التثاس مما نعتقد يقول بلزاك: «يجب أن نفسير يبعض التفرد فى 
الوجوه اسباب :هذا الكل الغارق»: إن كلاس يقييّة بشكل غريب الرسبنام 
العبقري في التحفة المجهولة: فرنهوفرء الذي يشبه «لوحة لرامبراتدت تسير 
صامتة» يبدى لنيكولا بُوسن» كعبقري خارق يعيش في بيئة مجهولة. 

هذا الشخص الخارق يأتي من انكلتره أ من ألمانية؟ هل هو كلايس 
منفرد جديد أى ملموث جديد؟ إذا لم نتأكّد إلا من ذكرى ملموث؛ ولا ترد ذكرى 
المغامر البولوني بشكل عابر في خاطر مؤأف البحث عن المطلقء فإنْ توازياً 
بين منصير الكيميائي الدويزي() ومصير ملموث الذي فقد روحه وهى يبحث عن 


ال.أكآت 


سر الكائن لا يبد مقنعاً حقأًء فكلايس بشعره الذي يتدّلى بشكل مهمل على 
كتفيه «على الطريقة الألمانية» وفقاً لما يذكره بلزاك: يذكّر غالباً بشخصيات 
قصصى هوفمان؛ قرتوس قي «الغبطة في اللعب» والسيميائي في «مصرف 
فرعون» أو ما هى أكثر جلاء المحاميء والدناتانيل في «الرجل على المرمل» 
الذي يعتبر فيرزشوفنيا - كويليوس الباعث له. لكننا نلاحظ؛ مع ذلك.سريعاً أن 
التشابه يبقى خارجياً تقريباًء وأن البطل البلزاكي له بعد آخر لا يتمتّع به أولتك 
الشاردون أى الغريبى الأطوار الذين يعميشون في الوهم أى في الكابوس. إِنّه 
أقرب في الحقيقة لفاوست غوته منه لشخصيات هوفقمان. ففاوست في حجيرة 
السيميائي: وقد شد عليه الشوق للانهائي؛ يحلم بشجرة العلم» ويأمل أن يعيش 
حياة الآلهة وهى يسنفد قوته الخلاقة. 

إن مطلب أبطال الدراسات الفلسفية؛ قراتهوفرء أو غمامباراء أو 
لامبرء أى روجيريء أو بلتزار كلايس يتماثل مع أمل فاوست لكنه يذهب إلى أبعد 
من ذلك أيضاً. فشرود هؤلاء الرجال يتفسر بتأمّلات غامضة: غائبة عن عالم 
النتائج» وموجودة في عالم الأسباب «النتائج! النتائج؛ إِنّها الطوارىء في 
الحياة؛ وليست الحياة» فالتغلغل في سر الحياة يتطلب في رأيه الكشف عن 
خقايا الطبيعة. وهذا هى هدف تجارب كلايسء أحد المفكرين العمالقة الذين 
يعيشون في جر الاسباب التي عاش فيها عمالقة آخرون مثل كيلر ونيوتون 
ولابلاس وعلماء إبداع آخرون. لهذا السبب تتجاوز هالة هذا الخارق» القدرة 
الخارقة المنسوية خطأً إلى أمثال مَْرد وفاوست وملموث: إِنّه النتيجة التي يسمى 

كان بلزاك ذاتة يقول: «بين فاوست ويرومثيوس» أفضل بروميثوس وياحثه 
عن المطلق هى ابن يرومثيوسء وهى يريد أن «يعرف قبل أن «يقدر» وفي الدقيقة 
الأخيرة من حياته «يعرف». إن مؤلف الملهاة الإنسائية يعتقد أن رجل العبقرية, 
هذا العراف يمكنه أن «يرى» سر الخلق: وهو يعطي هذه الميزة إلى بطله, عملاق 
العلم؛ لكن الحجاب يتمزق متأخْراً جداً بحيث أن كلايس في اللحظة التي 


دااكت- 


«يعرف» فيهاء لم يعد «يقدر» أبداً بهاء وهذا ما أدركه جيداً تيوفيل غريته: «في 
الاحتضار وجد الصيفة التي بحث عنها بكل جد ولكن عبثاً. ثم يهزّه تشنج أخير 
تحت الأغطية المدعوكة في سريره. ويفقد إلى الأبد سره», 

بعد سنة من «البحث عن المطلق» يصوغ في سرافيتا الدرس ال مرير 
التالي «إن الرجل الذي يتصور اللانهائي بذكائه لا يمكنه أن يحركه بشكله 
الكامل, وإلا لأصبح إلهاً». 

يموت كلايس إذاً. مقهوراً وقانطاً. في خاتمة حياة عظيمة وبائسة؛ وفي 
النهاية خائبة: فهى مجهول من الوسط العلمي إذ لم يعلم أحداً بالتجارب 
الناجحة التي أنجزهاء والنتائج الهامة التي حصل عليها لكنه استهان بها إذ 
انصرف كليّاً إلى المطلق الذي أصبح الهدف الوحيد لأبحاثه؛ وإذا استرجع 
الرشد ووجدت عيناه لغتهما من الضوء؛ فإنه قد غرق لسنوات طويلة في الجنون؛ 
فهل يسبب العلم الجنونء وهل يدين بلزاك العبقرية؟ 

إن ارتباط فكرتي الجنون والعبقرية في الملهاة الإنسانية يبدى صريحاً, 
ولكن هل هي رابطة سبب بنتيجة؟ هذا غير مؤكّد. قي البحث عن المطلق, 
يُرد: «بالفسبة للعوام؛ تشبه العبقرية الجنون» وفكرة الجنون تتسرب بشكل 
طبيعي إلى العبقرية حتى أنها لتلتبس معها؛ وهي لأول مرة بشكل سؤال قلق: 
«هل أصبح إذاً مجنوناً؟ تساطت جوزفين بهلع وهي ترى زوجها. ثم أن بييركين 
موثق العقود رأى في تعبير تعجب بسيط لكلايس «أثر الرشد الذي يبديه منذ 
ثلاث سنوات؛ وخلال حقل العشاء الذي عاد فيه رجل مجتمع ورب عائلة؛ ققد 
ظهر الكيميائي» كما يقول يلزاك «شبيهاً بولئك المجانين الذين تمرّ عليهم 
لحظات تتالّق فيها قدراتهم ببريق نادر». إن هذا ليس إلا تشبيهاً؛ لكنه يسبق 
عن قرب التمثل الكلي» فمرغريت تعلن لأبيها أنْها ستكافح «جنونه»». ويلزاك 
يعطي من الآن وصاعداً لشخصيته «ايتسامة الجنون» وتصرّف المجنون؛ فالأمر 
يتعلّق «بمرض» حقيقي يدرس الروائي بدقة سريرية ولادته ومراحله. 

يرد في رواية البر سافاروسء بمناسبة الحديث عن البارون دى 


1 


واتفيل وهوايته في المجموعات «ان الأطباء الفلاسفة المنصرفين إلى دراسة 
الجنون يعتبرون هذا الميل إلى الجمع هو الدرجة الأولى من الخلل العقلي: 
عندما يتوجه نحى الأشياء الصغيرة». في عداد هؤلاء الأطباء الفلاسفة يجب بكل 
تأكيد اعتبار اتيين جورجه؛ وهى طبيب من تور» وقد نشر في العام 187١‏ كتابه 
الهام عن الجنون حيث يتسلّط الضوء بصورة خاصة على حالة بلتزار كلايس. 
قبل أن يتعرّض جورجه لتطور المرضء فإنه يبحث عن عوامل الجنون: ويميز من 
جهة الأسباب المهيئة» مثل العمرء والوراثة بصورة خاصة؛ ومن جهة أخرى 
الأسباب الفاعلة أى الموجبة التي تحرض المرض. دون الإصرار هنا بشكل مطول 
على التوافق الملقت للنظر الموجود بين رواية بلزاك والكتاب المفصل قي الطب» 
وهى توافق تشير إليه ملاحظات هذه الطبعة بتفصيل دقيق» ومن الهام الإشارة 
إلى أن بلتزار كلايسء؛ وهو على ما يقول بلزاك» وريث سلالة من الأسلاف لكل 
واحد منهم «هوسه». مهي بالوراثة والعمر لجنون, «سببه الفاعل» هنا هى زيارة 
فيرز شوقنيا . وتطور الداء. في كل نقطة يطابق» في عدم انتظامه؛ وصف 
الطبيب, ويسيب تتاوب أطوار الإثارة والأنحطاط ويضم عندما يصل إلى الذروة 
الأنواع الخمسة المحتملة من الخرف: العته؛ والهوسء والهوس الأحاديء والبلادة 
واختلال العقل؛ وفي المرحلة الأخيرة أعلن عن الشلل الذي أصاب بالدرجة 
الأولى عضلات اللسانء لكنه أفسح المجال أمام المريض للعيش سنة أى سنتين 
أخريين» فوضع بلتزار كلايس, كما يرىء «مثالي» من الناحية الطبية, فقد 
تعرض الكيميائي إلى «هوس أحادي علمي» وهى أحد أشكال الجنون الذي يبدو 
كأنّه نزعة عبقرية وليس نتيجة محتّمة لها. 

يقول تيوفيل غوتيه: «يلاحظ أن الفكر لدى هذا الرجل يصارع الهوس 
الأحادي وأنه يسير على الحد الضيّق الذي يفصل العبقرية عن الجنون» فليست 
العبقرية هي التي تجعله مجنوناً وإنما الكبرياء. ومؤلّف المفصّل في الجنون 
يلاحظ أن أكثر أنواع الهوس الأحادي ظهوراً يستمد مصدره من الكبرياء» في 
فكرة الاعتقاد بأنّه إلهء أى ملك أى نبي. وهكذا بلتزار «ققد أعماه هواه» كما 


1 


يحدد بدقة بلزاك» فلقد أوحى إليه الشيطان كما فكرت جوزفين كلايس عند 
رؤيته؛ إنه يريد «أن يكرر الطبيعة» وأن يكون فوق الرجال الآخرين» فوق 
الجميع». 

إن غموضى الفكرة البروميثية في الفكر البلزاكي يجد تعبيره الكامل قي 
قكرة النار وهكذا فتحت دلالة النار يضع الروائي بلتزار كلايس ومصيرهء فمنذ 
أن يظهر الكيميائي في قاعة الجلوس حيث تنتظره زوجته؛ يتحدّث الروائي عن 
«الثار السرية» التي تجفف جلد وجهه واللهب الذي يفترس روحه؛ ثم يتعرض 
بعد ذلك إلى المحرق الداخلي» لذكائه الواسع؛ ويجعل وجهه يتالّق تحت «نار 
العبقرية». هذه النار التي تؤجج أبحاث بلتزار: تحرقه بعد ذلك» بعد أن قتلت 
زوجته» واستهلكت ثروته. في بيت كلايس تمر فكرة المطلق في كل مكان «وكانها 
الحريق»؛ فهذه الناى البروميثية آتية من السماء أم من الجميم؟ في التحفة 
المجهولة يتحدث فرنهوفر عن «نار سماوية» بمتاسبة مشعل بروميثيوس الذي 
انطفا أكثر من مرة بين يدي يوربوس. وبلزاك يظهر تعاطفاً واضحاً مع كلايس, 
فيروميثيوس والجحيم يبدوان مختلطين في ذهن السيدة كلايس التي تشبه 
بالشيطان زائر المساء الغامض الذي أمكن ظهوره لمدة قصيرة أن يدمّر إلى 
الأبد طمأئنية بيت وتوازن سعادة كاملة؛ وأن ينتزع رجلاً سامياً من ؤاجباته 
كزوج وأب ومواطن «إن إبليس المغوي وحده له هذه العين الصفراء التي تخرج 
منها نار بروميثيوس» هتفت قبل أن تعلن الشيطان والهوى المسيطرين على 
زوجها: «نعم إن الشيطان وحده يمكن أن يساعدك على السير وحيداً ووسط هذه 
الهوة التي لا مخرج منهاء وهذه الظلمات التي لا تستنير فيها بإيمان علوي 
وإنما باعتقاد رهيب بقدراتك.»؛ قإغراء النار» بالنسبة إليها يأتي من الجحيم 
والشيطان هو الذي أرسل احدي جنياته لتوحي لكلايس بفكرة البحث عن المطلق 
وهي شقيقة اغواء برومييثيوس. 

هذا الفموض في فكرة اللهب يعود إلى الوجود المتزامن لدى بلزاك 
لهاتين المسلمتين المستمدتين من بودلير: «الرعب والوجد». الرعب لأن العبقرية 


#15 


غول يفترس كل شيء؛ ولكن وجد أيضساً وافتتان أمام هذه الكائنات من 
اللانهائي, هذه البطارس التي تمنعها أجنحتها العملاقة من السير. «إِنّه يمشي 
ورأسه في السماءء وقدماه على هذه الأرض, إِنّه طفلء إِنّْه عملاق هكذا عرف 
بلزاك منذ العام 167١‏ الفنان رجل العبقرية. 

هذه القكرة المضاعفة عن سمو الفكر وضعة الحياة العادية التي نجدها 
غالباً في الرسائل إلى السيّدة هانسكا تجد تعبيراً جديدأ في شخصية 
بلتزار كلايس الذي يشبه في بعض الأحيان بشكل غريب مبدعه؛ فبلزاك لا 
يكتفي بأن يعير لبطله تلك البرّة الزرقاء الجميلة ذات الأزرار الذهبية التي يبدى 
أنه كان جد فخور بها في ذلك العصر؛ ففي المرأة التي تعكس وجه كلايس 
العملاق بالفكر. الطفل في السلوك ضمن الحياة اليوميّة؛ تبدى الصورة الذاتية 
للمؤلف التي يتاملها أحياناً حتى أن الباحث عن المطلق في بعض اللحظات 
العابرة يتوحد مع المؤلف. وكما يقول فليكس دافن بالحاح: «نحن هنا بعيدون 
علناً عن الفكرة القائلة إن الانسان الذي يفكر هو حيوان قاسد». 

إذا كان يبدي نحو كلايس تعاطفاً أكيداً وإذا كان يمثله أحياناً وكأته 
ضحية لا إدراك البشرء فهل يعذر بلزاك بطله على حساب المجتمع؟ وهل يعود 
الوضع المفجع لكلايس إلى أنه يقوم بأبحاثه لوحده وعلى نفقته؟ أهو شهيد لا 
خطأ له إلا أن المجتمع قد حكم عليه؟ هل يجب إذاً إدانة «التضاد الذي لا يقهر, 
في وضع اجتماعي معينء بين مستلزمات البحث العلمي ومستلزمات الحياة في 
المجتمع» ونتصور باحثاً ككلايس سعيداً في مخبر يحيط به فريق من الباحثين, 
وقد غمر بالاعتمادات اللازمة؟ هذه قرضية سمحة يمكن أن نؤمن بها.. أى لا 
نؤمن؛ وبلزاك من ج هته لا يؤمن بها فهذا الايمان في منظور البحث عن 
المطلق يعني تبسيط الصراع العملاق بين الانسان والطبيعة وإنكار الفكرة 
الكبرى عن الكبرياء التي تجوب العمل بكامله, والامتناع عن سماع صرخة 
بلتزار «... أنا وحدي!» إن الروائي يلوم الكيميائي لأنه سمح للهوى أن يعميه؛ 
فعندما أخذ بحثه المحرض بالكبرياء, شكل الهوى؛ وعندما ضل الذكاء لديه, 


16 


وقت بالنسبة للعالم العبقري ساعة الانحطاطء ويدأت عندئذ سيرورة الفكر 
البطيئة التى تققل لأنّها أصبحت سماً. وهكذا أصيح بلتزار كلايس إشهاراً 
كاملاً للمبداً الذي توسّع كل دراية من الدراسات الفلسفية البرهنة 
الموضحة له بدقة علمية: ... إن الفكرة المدعومة بقوة عايرة ممنوحة من الهوى, 
تصبح بالضرورة بالنسبة للانسان سماً أو خنجراً(). 

إذاً فالروائي لا يدين العبقرية وإِنّما الهوى يعتّم عليها ويحرقهاء والمفهوم 
البازاكي للعبقرية يتسم بالتاكيد بسمة الرومانسية التي تربط بلا انفكاك مقولة 
الميقرية بمقولة القَدر واللعنة» لكنها تعكس خاصة:. عدا اليقين الشخصى 
بعبقرية فردية بصورة رئيسة» وجهة نظر المؤرخ والأخلاقي ومعرقته بالتاريخ 
والانسان» والطبخ الفرنسيء والطبيعة البشرية. 
التخيير ويبدى إيجابياً بشكل مضاعف, كما غي الرواية. وقي شرح إيمانويل دي 
سوليس لمرغريت «إن أباها إن كان على خطأ كرب عائلة... فهو على حقّ علمياً» 
أما إدانة كلايس يعد أن أصبح في هوس أحاديء فبلزاك يعبر عنها بصراحة 
في هذا المظهر من الشخصية الذي يغطي كثيراً على مظهر الرجل العبقري في 
مخطوطة البحث عن المطلق المتصورة في البدء كمشهد من مشاهد الحياة 
الخاصة. 


11 


أخذ كلديس يتقطع شيئاً فشيئاً عن الحياة في الدنيا بعد أن وهنت قواه 
جسدياً. وضعف فكرياًء حتى أن قلبه قد انكمشء إن صح القول؛ فبتنحيه عن 
دوره كرب عائلة وأب وزوج؛ أصبح في تصرفه تجاه عائلته بمثابة طفل جائر ولا 
مسؤولء وكجميع المصابين بالهوس الأحادي, يتصف بأتانية البخيل والقافل 
)١(‏ من لمقدمة الدراسات الفلسفيه. 





اك 


الأكالة. ومظهما يسيب النكبات البيتية؛ والروائي بوصفه الدمار الذي تحدثه 
الفكرة الثابتة» ليس فقط على صاحبها؛ وإنما أيضاً على محيطه العائلي 
والاجتماعي؛ قد سجل في البحث عن المطلق دراسة عن الطبائع بقدر ما 
هي دراسة فلسقيةء وفاجعة مالية. ومأساة حب. 

تلعب الفوائد المادية, وقضايا الثروة دوراً أساسياً في الرواية؛ لكن المال 
لم يشكّل في أيّة لحظة هدفاً رئيساً في تجارب كلايسء وقد عرفناه مستعداً أن 
يرمي في بوتقته؛ بلا مبالاة كاملة» بدانقه الأخير؛ وإذا كان قد اعتقد أنه اكتشف 
طريقة تصنع الالماس» فذلك «بتفتيشه عن كشف أسرار أهم من ذلك بكثير»؛ وإن 
كان قد تحدث إلى ابنته بأنه سيملا غرفة الجلوس الماساً؛ فإنه يؤْكّد «أن هذه . 
ترّهة» بالمقارنة بما يسعى إليه؛ وعندما يجد في مخبرهء بعد عودته من المنفى,» 
ألماسة. فإنه يحرص على أنها ليست الحلّ للقضية التي يعمل لجلائها. 

شس ازعباط كال بابعا فظوي ها 9 يكن كمنية وديس ايقكر 
الكيميائي الفلمندي أنْ كل الثروة ا مهدورة من جراء أعماله والمنتزعة من العائلة 
يجب أن تستعاد وأن التوازن الوراثي يجب أن يسترد؛ لكن المال» بصورة 
خاصة: كوسيلة يبدى مرتبطاً بشكل وثيق بحلمه في القدرة ويامله الذي لا 
يرتوي. 

كانت امرأته هي الضصية الأولى في هذه المأساة المؤلة؛ هي صورة 
جديدة لمقولة تتردد في الملهاة الإنسانية: مقولة المرأة المهجورة التي تتمئل في 
بطلات عديدات: اوغوستين دي سومرقيوء أو كلير دي بوسيانء أو هنرييت دي 
مورتسوف هؤلاء الأخوات في الشقاءء الجنذورات للصمت والدموع» يصبن بالكآبة 
من يحيط بهن؛ في اطار يتناسق مع حداد قلويهن؛ فأشعة الخريف الحزينة التي 
تنسكب على سرير موت بطلة جنة الرمان مشابهة لتلك التي تغمر صالة 
الجلوس القاتمة والحزيتة في منزل كلايس حيث تحتضر: في يوم من أيام : 
الشتاء جوزفين كلاس المنيوذة. 

هذه المخلوقات الناعمة التي تطفىء بالدموع بسمات الأطفال» والتي تبدى 


-/11ظ؟ - البحث عن المطلق م ٠١‏ 


عصية على كل عزاء توحي لبلزاك بقصائد تنفطر لها القلوب» وبلوحات مشجية, 
قلا الأمومة تنقذ السيدة ويلمسنسء ولا هنرييت دي مورتسوف. الزنبيقة في 
الوادي» ولا آغات دي بنتاسيسء التي تمكنت في عاطفة الأمومة أن تصمد ضد 
اأشقاء. ولكن ليس ضد أشدّ الأكدار تأثيراً" الهجر:». كما أنها لا تنقذ أيضاً 
جوزفين كلايس البائسة: التي لا يسبب لها أولادها أيّة رعشة أو رهبة» فهم 
تعزيتهاء لكنتهم ليسوا حياتهاء إِنها تحيا يهم, لكنها تموت من أجل بلتزار» 
فإيمانها الحارء وتقواها الاسيانية لا يسمحان لها أن تصمد وققاً أطول في 
الهجرء لأن الحب يمكّل بالنسبة لها مبداً الحياة ذاته. وقد قال بلزاك ذلك 
بوضوح تام «هذا التبادل المشترك لسعادة تتناوب متدفقة أطلقت بشكل ظاهر 
مبداً حياتها خارج تفسيها...». 

على عتبة الموت تصرح السيدة كلايس لزوجها: «... ما حييت إلا بحيك 
وقد سلبتني دون علم منك الحياة». 

إن الأمر هنا يتعلّق بظاهرة أشبه بظاهرة التنقس»: كما شرح ذلك 
بوضوح فائق موّلّف أوجيني غراندة: «في الحياة الروحية؛ كما في الحياة 
الجسمية؛ يوجد شهيق وزفير: فالروح تحتاج إلى أن تستوعب عواطف روح 
أخرى» وآن تتمثل هذه العواطف لترجعها أكثر غنى. بدون هذه الظاهرة اليشرية 
الرائعة لا حياة للقلب؛ قالهواء ينقصه عندئذء فهى يعاني ويذيل». 

يجب الاعتراف أن السيدة كلايس قد عرفت أولاً خمسة عشر عاماً من 
الحب الكاملء فقد كان بلتزار عندئذ يضع من أجل رعاية هذه السعادة الزوجية 
كل سمى روحه. وتعلّقه «الفروسي» لم يتخل أبداً عن مظاهر الهوى من أجل هذه 
المرأة الدميمة» العرجاء والحدباء. وهذا ما قد يدهش, لكنه يمثل بالنسية للروائي 
«المطلق» في الحب؛ فبعد أن فكرٌ أولاً كما يتبين من المخطوطة أن يجسيد في 
جوزفين كلايس مثال الجمال الفلمتدي؛ تراجع بلزاك عن ذلك لمصلحة فكرة كانت 
تراوده منذ سنوات عديدة, وهي «حب دميمة»؛ وهي فكرة توافق الذوق الدارج, 
بالتأكيدء لكنها بصورة خاصة: وبالنسبة إليه. موضوع مثير» تدعوه إلى التفكير 


1١م‎ 


فيه أمثلة شهيرة من التاريخ والحياة؛ فزولا كارو تقول عن نفسها «إنها دميمة 
وقصيرة وعرجاء»؛ فقي مجال الحياة الخاصة: كما في مجال الكيمياء, «لم 
يخترع المؤلف شيئاًء فإلى جوزفين كلايس تعير زولا بعض العيوب الجسمية, 
ودون شك أيضاً حلمها بحب مطلق لرجل عبقريء بينما من أجل أن يصوّر 
بلزاك وضع يطلته الحزينء في الصفحات الأولى من الرواية» لم يكن عليه إلا أن 
ينظر إلى ما تعانيه السيدة الرقيقة كاميل دي مونتى, الابنةاالوحيدة للسيدة 
الطيبة ديلانوا التي قدّم لها المؤلّف في العام ١814‏ «البحث عن المطلق», 
لاني 5 صممت السيدة دى مونتىء بعد عشر سنوات من زواج حبء 
ن تطلب فصل أموال الزوجين. إذ أنه الطريقة الوحيدة لوقف سيل تبذيرات 
زوجها ولحماية مستقيل أطقالها؛ وقد قال الروائي إن السيدة كلايس» حملت 
يطفلها الأخير وسسط تعكر صفى غامض» وكأن هذا هى الوضع الشاق لكاميل 
دي مونتى التي وضعت طفلها الرابع في مطلع صيف 8 ؟18: بينما كان بلزاك 
يكتب روايتهء والمرأة الشابة التي بدت في المحنة أشد قوة من السيدة كلايس, 
ماتت مع ذلك: فريسة الحزن:؛ بعد ثلاث سنوات ويعد أن يرهنت في وصيتهاء 
على أنها أم متالّمة وزوجة «سامية»؛ وأعطت الدليل الفائق على مدى الحب الذي 
يتوقف يوماً تجاه زوجها. 
إن السيدة كلايس ليست بالتاكيد زوما كارو ولا كاميل دي مونتى, لكن 
يلاحظء مرة أخرى؛ كم تغدّي الحقيقة الخيال؛ وكيف أن يلزاك؛ في مطلع هذا 
الصيف من العام :,١/75‏ حيث أحلامه العاطفية ملونة بالأمل» قد خلق نموذج 
النىجة اشام لرجل العبقرية؛ فجوزفين كلايس هي حب كلها ء وهي تمتلك إلى 
أعلى درجة التؤقع والتضحية «وهما قد يكونان عند المرأة قمة الحب»؛ كما إِنّها 
لا تجهل شيئًاً من أسرار فن التظرف أو علم الإسعادء وهي تقدم التوافق 
الاستثنائي بين خضوع الفلمندية ويين هذا الحماس المشوب بالتقوى الاسبانية 
التى لا تنفصل أبداً عن الايمان بالحب» ولا تفهم أبداً العاطفة بدون آلام» 
قالحب؛ بالإجمال, «هو مطلقها», وهذان الباحثان عن المطلق اللذانّ يتكامل 


519 


سموهماء لكنه لا يتمائل. يعيشان حباً زوجياً ليس مستيعدا أبدا إِنّما مثالي. 
مع ذلك انكشف هذا الحبّ قتالاً. قجوزقين كلايس البائسة. وقد هجرت من أجل 
العلم عرقت لسعة الغيرة. وجرت عبثاً أن تنافس إغراء أرهب الخصومء لكنها 
ترزح سريعاً في هذه المعركة غير المتكافئة, وتسأم الحياة» إِنّما تهتم بأن تحمي, 
حتى ما بعد الموت الرجل الذي أخلصت له الحب» وتموت دون ندم من أجل 
جلادهاء صورة فاتنة الكمال؛ فالأب دى سوليس يقول: «إنها تقريباً دون 
خطيئة». وهذا التقييد على خفته يبدو مستغرياً من القارىء. أتكون هذه 
الضحيةء وهي ملاك في رقتهاء بطريقة ماء مذنبة؟ لقد ضحت:؛ في الواقع: وهي 
الزوجة أكثر منها أماًء بأولادها من أجل الحبالزوجي؛ هذه الفكرة التي أدخلت 
في الأشهر الأخيرة من حياتها شعوراً بالندم والاستغفار؛ فقد دخلت واجبات 
الأمومة في نزاع مع الحب الزوجي»: وكما السيدة جول في تاريخ الثلاثة 
عشرء فإن السيدة كلايس» في لحظة ماء تمكّنت أن ترى في الأمومة عائقاً أمام 
الحب فقد قالت هي نفسها لبلتزار» إن على الرجال العظام ألا يكون لهم زوجة 
أق أولاد. 

هل تجسد إذا زوجة هذا العالم العبقريء في عيني الروائي كل بلوى 
الحب؟ كلا إن أنها قبل أن تكتشف كل البلوى: عرفت كل السعادة فى الحب» 
مما يعني أنَّها قد أتّمت قدرها كامرأة. «ففي فيض السعادة يكمن الشقاء 
الخارق» هذا القول للويس لاميرء يجد في السيدة كلايس إبانته الكاملة, أليس 
معيراً أن نتبين؛ بواسطة دراسة بنيوية لفظية أن مفردات الحبٌّ السعيد تزيد 
كثيراً في تواترها عن مفردات الدموع والألم والحب التعيس؟ نعم قمع البحث 
عن المطلقء كتب بلزاك نشيد حب زوجي «مطلق». 

السيدة كلايس سامية إذاً وأولادهاء كل أولادها تموذجيون وخاصة 
مرغريت؛ وهي أضعف من أن تحمي أولادها أمام العلم الأكال» فتجد نفسها 
تبعث في ابنتهاء هذا الملاك المحب والقوي» الذي أراد ااروائي أن يجسد فيه, 
في مشروعه البدائي» نموذج «تفاني الشباب»؛ فمرغريت تقاوم والدهاء فهي 


اكات 


سليلة كلايسء وفلمندية تشبه جسمياً؛ بشكل ملفت للنظرء مرسلين دبورد - 
قا مورء كما رسمها في شبابها عمها كونستان دبوردء وهي تمثّل خاصة؛ وفقاً 
لبلزاك: نموذج شابة تلك البلادء فقد كتب إلى أخته لور سورقيل التي أخذت عليه 
طبع الفتاة المبالغ في «مثاليته»: «كلاء ليست مرغريت فتاة متكثّفة, إِنّما هي 
فلمندية». 
17 

إذاً باسم حقيقة السجايا والطبائع في مقاطعة:؛ يبرّر الروائي سلوك 
مرغريت كلايس؛ فهي «فلمندية», كأسلافهاء كوالدها بياسمه الفلمتدي 
التسوتجي» فس بيت فلمتدي تموتحي: في قل انوي حيث كان عتم في 
السايق برلمان الفلاندر» وبداهةء أراد بلزاك أن يجذر تاريخ آل كلايس في واقع 
جغراقي محدد جيداً» والحال أن الصحيفة الدويزية «مذكرة السكارب(» قد 
اعترضت على صحة الموقع الممثله فقد نشرت في ١١‏ تشرين أول 1874 هذه 
الملاحظة القصيرة: «نشر السيد دي بلزاك رواية عنوانها المطلق تدور أحداثها 
في دوي. بقراءة المؤألف نشعر بالأسى لملاحظة مدى غربة المؤلف عن المنطقة, 
وأنه لم يستشر الأشخاص المؤهلين لتقديم المعلومات التي تنقصه عن الأمكنة». 

الواقع انّه إذا كان يبد من المؤكّ تقريباً أن بلزاك لم يتجول يوماً في 
شوارع دوي قبل أن يكتب البحث عن المطلقء فمن المعروف بالمقابل أن كان 
له في باريسء من بين أصدقنائه, فلمنديون أصلاء مثل س. ه. مرتى الذي يعرف 
بيته المتميز بفلمنديته؛ ومرسلين ديورد ‏ قُلمور وابن عمها التّحات الدويزي 
تيوفيل براء وقد تركت الشاعرة باريس إلى ليون في نيسان ١1/75‏ لكن بلزاك 
كان يكاتبهاء وعدا عن ذلك احتفظ بعلاقات غير منقطعة مع براء يل اته استمد 
كثيراً من هذا الفلمندي الفخور دائماً بمسقط رأسه. والمستعد دائماً للقاء أخوته 
أبناء الفلاندر في حفلات عشاء جماعة «أبناء غايان»(). 
(؟) غايان: بطل اسطوري فلمندي يقام له احتفال في دوي يتمثل بصنع تمثال له من قصب 
السوحر والسير به في شوارع المدينة. 

-1؟- 


يجب الاعتراف بأن التفاصيل الدويزية الصرفة ليست غزيرة في ا لبحث 
عن المطلق فلا يلاحظ فيها برج دار البلدية الشهيرء ولا يسمع فيها لحن 
غاناق لبان نفعة تكمة وما امن او ياكل:اللونظله الرقاكق: من اللو 
المستديرة التي لا تصنع إلا في دوى. يمكن أيضاً المناقشة في معرض وصف 
رواق مدخل كنيسة سان ييير» أو في اسم ساحة سان جاك التي أطلق عليها 
منذ العام ١4.7‏ اسم ساحة النصرء كما قد يستغرب من حديث المؤلّف عن 
ضيق شارع باريس وهى في كل حين أحد شرايين المدينة الرئيسة. لكن الأسماء 
أصلية: فنهر سكارب هناء وكذلك باب باريس» وكنيسة سان يييرء ونزهة سان 
جاك؛ وَرَيض اسكرشن. ألا يكفي سحر الأسماء التي يعبر مارسيل بروست عن 
عمق الإحساس بها لخلق الواقع الدويزي؟ مشابهة محلية؛ وواقع إقليمي: واقع 
نموذجيء هذا هى بالتاكيد هدف بلزاكء الذي لا يتطلّع أبداً إلى لقب الروائي 
الإقليمي؛ واستحضار دوى يصور بشكل تام هذ! التقصي العامء فكما في بايى 
أى ألاتسون؛ كذلك في دوي يلعب بالهويستء وتتداول أخبار المدينة» وتنتشر 
الوشوشة والغيبة بحيث أن وصف الصالونات الدويزية تشبه وصف مثيلاتها في 
الأقاليم التي تتعرض لها الملهاة الإنسانية؛ ومع ذلك فهي شيء آخر مختلف. إن 
لم توجد الدقة المحلية المتناهية, فقد وجدت في البحث عن المطلق حقيقة 
فلمندية أصلية تتجلّى أولاً في حيوية الأساطير المحلية التي تقدم للزائرين من 
يروكسل حتى غان أو تورني؛ ومن دوي حتى قفالنسيين أق ليل «نموذج» بيت 
كلايسء بينما البيوت الفلمندية الوحيدة التي أنعم النظر بها بلزاك في الحقيقة, 
قبل أن يصور بيت كلايسء قد وجدت وما تزال موجودة في إقليم تورين, 
وخاصة في قلب تور القديمة؛ في شارع بريسونة الضيقء وهى بيت تريستان 
بواجهته من الحجر والآجر وجملونه البارز. 

ما ينطبق على فلورنسة ينطبق دون شك على القلاندر؛ وقد أكّد بلزاك فى 
المقدمةالأولى لجلد الحبب: «إن الرسام الأكثر حرارة: والأكشر صمّة 
لفلورنسة:؛ لم يزر فلورنسة أبدأ» معبّراً» وهى يتطلّع بداهة إلى نفسه؛ عن قدرة 


وه 


رجل العبقرية على التجوال عبر الزمان والمكان بفضل «البصيرقو حاسة البصر 
الثانية». 

لا تستغرب ممارسة هذه «الحاسة الثانية» باندقاع خاص نسبة إلى 
الغلاندر, إذ لم يقتصر موّلّف الملهاة الإنسانية على تأمل البيوت الفلمندية 
المبنية في تورين في زمن لويس الحادي عشر من قبل معماريين أتوا من 
الفلانهير» إنماء وبصورة خاصة: أظهر منذ مطلع شبابه إيثارهء قي الرسمء 
فثّاني المدرسة الفلمندية والهولاندية أولئك الذين يمتحونه الانطباع الكامل عن 
حقيقة الطبائع. إِنّه دون شك كبطل جلد الصبب الذي تمثله البيرة وهى يتأم 
لوحات تينيه ويرتعش قرًاً أمام لوحة تساقط الثلج لمييريس؛ إِنّهِ يهيم شففاً 
بالظل والنور... الظاهرين بشدة في لوحات رامبراندت»» «وبحقيقة هذه 
القسبات ومظاهن الطياء التوضة؟ المدفتة؛ بكلمة والحدةبالتسسن عت" الهياءة 
في حقيقتها الكلية, حقيقة الأفعال وحقيقة السدّن أيضاً التي تتسجل فيها 
الطباع والأقدار؛ ففي صالات عرض لوحات الرسم في اللوقر» وحتى في 
مجموعات الرسوم التافرة والصور التي يمتلكها لم يكن يمل من التأمل بإعجاب 
في لوحاتء ناطقة بالحقيقة؛ لجيرار دو» أى ميتسوء أى تربرغ: أى مييرس» أو 
تينيه؛ فأحد أبطال جول جانن؛ بارناف يقول: «أحببت الفلاندر لكثرة رؤيتي 
اللوحات الفلمندية» أما بلزاك فيمكنه القول: «إنني رأيت الفلاندر لكثرة تأمّلي 
في اللوحات الفلمندية». 

لقد«رأى» القلاندر, وبالطبع فقد بدا في «البحث عن المطلق» رساماً 

من المؤكد أن ناحية الابتكار والتقانة التصويرية في المظاهر الجمالية 
الروائية لبلزاك لا تحتاج إلى برهان: وليست هذه حالة وحيدة لديه؛ فالروائي 
الذي أشار في مناسبات غديدة إلى تفوق الرسم على الكتابة. يستعير دون 
انقطاع ريشة الرسام ليجمل ملامح شخص أو إطاراً زخرفياًوكلمات «لوحة» و 
«صورة» و «رسم» تظهر غالباً في الملهاة الإنسانية؛ وما هى أكشر من ذلك. 
آن بلزاك قدّم بقلم فليكس دافن دراسات طبائع كرواق لوحات فنية: قد قسّم 
لحسن الحظ إلى صالات لكل منها غايته» وهو بالذات يشبه بطيبة خاطر رواياته 


5 


بلوحات. فقد أراد مثلاً أن تكون أوجيني غرانده والبورجوا زيون 
الصغارء في العام ١844‏ «لوحة جميلة من لوحات المدرسة الهولاندية مع رأس 
من إيداع رافاييل في وسطها». 

في هذه الشروط قإن وضع البحث عن المطلق في دوي, العاصمة القديمة 
للفلائدر تهيء لموهبة الرسام موقعاً مفضلاً. هذا ما يجب الاعتراف به؛ وتأثير 
القنانين الفلمنديين يتجاوز هنا الذكريات وحتى تغيرات الفن إذ يجب الحديث 
فعلاً عن تأثير «مبدع» مماثل لذلك أحدثه على الروائي لاقاتر أو كوقيه أى جوفروا 
سان هيلير: فيفضل البصيرة حاسة البصر الثانية: «رأى» بلزاك الفلاندر؛ وكان 
رسسامها الأكشر واقعية ولنقل الأكثر «فلمندية» من الجميع. 

عندما بنى ذلك المنزل الذي ما يزال يخفق فيه قلب الفلائدر القديمة, 
أنشأ فيه كما في جميع مساكن هولاندة الغنية» صالة عامة الوحات؛ ووصف في 
. منتصف الرواية تماماً غنى تلك الصالة» وهي وسط هندسي حقيقي في المكان 
والزمان: لمنزل كلايس. إذا استخدمت قاعة الجلوس إطاراً للأحاديث المأساوية, 
ولاحتضار الحبء فكانت حجرة كثيبة تتلاشى فيها أشعة النهار ويموت قيها 
الأشخاص جوزفين ثم بلتزار ‏ فإن الصالة العامة بالمقايل ذات النور الهادىء 
والموزّع بانتظام تظهر كمكان للحظً الموفق والحب الوليد» وكركن سعيد يتفتح 
فيه الغرام السماوي والمشع لمرغريت وإيمانويل. 

من الصالة العامة؛ مئتا سنة تتأمل ثروة كلايس تتدمر وتستعادء وهي في 
عودتها إلى الظهور؛ منساوية ورمزية في آن واحد» تشخّص كل مراحل المأساة, 
وكل وجود تلك العائلة الذي يبسطه المؤّف في سلسلة من لوحات التاريخ, 
والمشاهد المنزلية؛ وملامح الأشخاص: مما يحيل الرواية إلى صالة عرض 
حقيقية يكون القارىء فيها هى الزائر. 

إِنّه وهى المتشوق إلى تلخيص تاريخ الفلاندر في لوحة منذ أصولها 
الأولى؛ يلجا إلى التباين في الإضاءات:؛ وإلى تراصف الألوان؛ وإلى اختيار 
الأشياءء الزجاجيات البندقيّة, وخزف الصين أو المندواينة الاسبانية: أى أنه 


سدع لاك 


يرسم على السطح المستوي للوحته هيمنات القرون المتغيرة؛ وتاريخ تجارة 
شعب؛ بكلمة واحدة, سير الزمن؛ ويختصر على طريقة تينيه, الذي يقول عنه إنه . 
«قد صور الشعب الهولاندي يدخن التبغ ويشرب البيرة» تاريخ الطبائع في 
طبيعة صامتة مؤلفة من كأس بيرة وغليون, على أرضية قاتمة تذكرٌ بأن وحدة 
الفلاندر قائمة بفضل التبغ. 

يصور بلزاك؛ وهى رسام الملامح الحريص على الحقيقة السيدة كلايس 
كلوحة الأم المتالمة لموريوه وسرغريت كملاك من ملائكة غيدء وإيمانويل دى 
سوليس صورة من صور رفاييلء أكنه يستعير من أجل لمواكنية وبلتزار كلايس 

يشة وامبراندت: سيد الإضاءات العجيبة: بينما يمكن مصادفة الأشخاص 

الثانويين بين شيوخ البلد التي رسمها ميرقلت أو وسط عامة الشعب المتميزين 
يغنى اللون اجوردثس!") 

ألا يخيل إلينا أيضاً. عند مشاهدة منزل كلايسء أننا أمام أحد هذه 
المساكن, المزخرفة بجبة جملون ذات حَيّْد في «سوق أعشاب امستردام» الرائع, 
الذي زسمه جيراردو, أى في ساحة احدى هذه المدن الصفيرة التي استهوت . 

ريشة فان دير هايدن؟ وأننا ندخل إلى الفناء الداخلي على الانعكاسات الوردية 

أى على هرأى إحدى لوحات قرمير أو بييتو دي هووش!"). 

الحدث الأكثر تميزاً أيضاً في جميع المشاهد الداخلية لهذه القصة 
المأساة هى إمكان إعطائها عنواناً مستمداً من لوحات مييريس أو تربرغ أى 
تينيه: «عائلة فلمندية»: «شابة تقراً رسالة» «مشهد داخلي لمطبيغ»... ومجموعة 
هذه 000 الأصلية المثيرة للدهشة سوا ادر الألوان واتقان التفاصيل أى 

زن التركيب وااحقيقة اليومية للمواضيع؛ تغتني أيضاً بتحف فنّية جديدة مثل 
متك ساسك 2 8 للحي سور يزمر تتا الامنسائن 
(1714- 1789) وغيد الرسام الايطالي .)١1747 - ١997(‏ ورفاييل أشهر رسامي ايطالية 
)1١١٠١  148(‏ ورمبراندت رسام المدرسة الهولاندية الشهير )١775-١7057(‏ وجوردنس: 


الرسنام الفلمندي (17174-1655). 
(؟) رسامان هولاتديان, 


لج كا 


«عشاء فلمندي»», أى «سهرة عائلية» أى «زيارة موثق العقود». أى«وداع المخير», 
أى «القهوة» أى «موت أم» أى «خطوبات فلمندية»؛ فالمجموعة توضع إذاً تحت دلالة 
الوحدة الفلمندية المتناسقة بشكل كاملء: حيث يعتمد التنويع فيها العرض, 
فاحياناً تكتقي اللوحة بذاتهاء وأحياناً تزدوج بتأثير التناظر أى بتجسيم التباين 
بين رسمينء بينما يمكن اثلاثية» في لحظة مأساوية؛ أن تقارب الماضي والحاضر 
والمستقبل؛ وهكذا قفي حفل الذكرى السنوية للزواج؛ الصاخبة والملونة» وهي 
البقية الأخيرة من ماض سعيد يقابلها من الناحية الأخرى مشهد الفناء القاتم 
والخاوي: بينما توجد في المركز صورة الفلمندية الشاية مرغريت مثيرة للانتباه 
وموجهة القارىء إلى الدور الأساسي الذي ستضطلع به الفتاة الشابة قريباً. 
من هذه المشاهد الحميمة» وهذه الصور المقدمة؛ يكون الروائي أحداث 
مأساة من جزئين ينعكس مخططها الموجه في حركة الألوان ويخضع للصبغية 
المسيطرة لكل منها؛ فالأسود هو لون الجزء الأول والموت يتجلّى مسبقاً في 
اللوحة التي تمثل السيدة كلايس في قاعة الجلوس وكآبة خريفية تغمر تلك 
الغرفة حيث تبدى تلك المرأة المتألمة « كام تحتضر» فكل شيء دموع وحداد 
واحتضارء لا يكام يظهر على أرضيته السوداء ألق يضع وردات يتثرها الحب 
الوليد بين الشابين في نهاية هذا الجزء المخدد بوهج الاحمرار الوافد من 
الجحيم المعلن عن حريق المطلق. في الجزء الثاني من الرواية تتناوب ألوان 
السماء والجحيمء والضوء والعتمة؛ فمرغريت:؛ وقد جملها الحب الصافي 
لايمانويل الرفاييلي» تيدو كصلاك تشعٌ بحضورها نوراً سماوياً؛ فالأزرق 
اللازوردي» وهى رمز الانتصار والحب يتتازع مع الأحمر الجهنمي الذي يرمي به 
الموت؛ ولئن كان اللهب أحمرء فالتور لدى بلزاك في الغالب أزرق:؛ «إِنْ الحياة 
زرقاء كما السماء الصافية»(')» وسير قصة آل كلايس يخضعء كما هو بين» إلى 
الترميز المألوف في ألوان الملهاة الإنسائية؛ لكن صبغية المجموع تزيد من 
التأثير على القارىء؛ «وكلوحة من المدرسة الهولندية يبدو هنا كل شيء قاتماً: 


)١(‏ من رواية الدوقة دي لانجه. 


ا 


حتى الوجنوه» هذا ما قاله بلزاك في المارانا؛ وهذا تماماً ما يمكن قوله في 
اليحث عن المطلق, وإذا كانت كلّ الملهاة الانسانية تكشف لدى يلاك عن فن 
فلمندي بشكل رئيس فيجب الاعتراف بآن هذا الألق اللوني فيها لم يتللا فيها 
أبداً بمثل هذا التلألق الذي يظهره تباين النور والظللٌ الفاتن في منزل كلايس. 

في بلجيكة» وجه ناقد عبر تقريره عن البحث عن المطلق تحية مؤثّرة 
لهذه اللوحات التي يتجلى في ألقها اللوني النضارة والاتقان الرفيع وهما 
بالنسبة لناشيء وطني حقاً وفقاً لمنظور الفن». أما في فرنسة:؛ فمن بين 
التقريظات العديدة التي حيّت موهبة الرسام في هذه الرواية؛ يكفي أن نختار 
شهادة س. ه. برتىء وهى فلمندي عريق» وخبير مدهش في الرسم القلمندي: «إن 
السيد دى بلزاك ينتمي إلى ما يمكن أن نسميه في الأدب المدرسة الفلمندية, 
فهى أحياناً متاق ومتدفع كروينزء أى غامض وعجيب على طريقة رامبراندت» لكن 
يجب مقارنته خاصة مع تربرغ؛ فالواقع أنه كهذا الرسام الشهير تلذ له اللوحات 
على المسائدء يصور فيها الوجوه بأدّق تفاصيلهاء وباتقان وخلى من العيب 
يتحديان العدسات المكبرة: وهو يبرع بشكل عجيب في أن يلعب على أقمشة 
اللوحات ثنايا الطيّات والتالّقات الناعمة للانعكاسات الحزيرية» ولا يفوته شيء 
من المتمُمات. ويعرف كيف يعطي للأشياء الأكثر ابتذالاً أهمية قصوى». يجب 
أن نضيف إلى أن هذا القن الفلمندي حيث دقّة اللمسات تعبر بواقعية مدهشة 
عن حقيقة الحياةء لا تمنع عين الفنان من أن تكون في الوقت ذاته عين العرّاف 
الذي يتامل في ما وراء الزمان والمكان, وابتكارات الرجال؛ فترى حقيقة ليست 
أبداً على مستواهم. 


> 
تتحقق سريعاً أن هذا العرض,ء المأساوي والرمزي» في لوحات يشير 
تتابعها إلى سياق محتم القصة ينزع إلى أن يستبدل بالتسلسل التأريخي 
تسلسلاً منطقياً وجه المنهج الاستنتاجي فيه باستمرار خطا الزائر؛ فكلٌ لوحة 


اا 


ترس كنتيجة ‏ أى كسبب عندما يتعلق الأمر بالعودة إلى الخلف لما سبقها قلا 
يشسس بسير الزمن إلا في مدّد قصيرة لا تظهر يها الشخصيات؛ وهكذا 
فالعيارات المخصصة للدلالة على المدة ولإعطاء مؤشرٌ زمني تتميّز بقصرهاء 
فإذا تطلّهنا إلى العمل ككل نلاحظ أن بين المشهد الذي يدأت فيه الأزمة في 
شهر آب 1815 والمشهد الحادث في آب 1817 أي بعد سنة, تتسجل سبعين 
صفحة في طبعة فورن, وتكفي بعد ذلك اثنتان وتسعون صفحة لتسجيل تطور 
المأساء من 14817 إلى 1477 أي التصدي لمرحلة تقرب من عشرين سنة؛ ويؤكّد 
التقصيل الرؤية المجملة» وهكذا تتسطر مدة اليوم العصيب من شهر آب ١417‏ 
على الخمسين صفحة الأولى؛ بينما تختصر عبارة بسيطة قضاء شهرين في 
الريف. مثال آخرء لقد استلزم اليوم الذي ماتت فيه السيدة كلايس سبع 
صفحات. كما تطلّبت المقارنة بين بييركين وإيمانويل من قبل مرغريت في ذلك 
البوم حن شهر نيسان 18١‏ أربع صفحات بينما عبر ببعض كلمات بعد ذلك 
مباشرة على انقضاء عدة أشهرء ثم بيعض أسبطر على مرور سنة, ' 

سجل هذا الواقع بحق ج. يله يقوله «إن المستقبل والماضي طريقان 
منتنوحان سوية أمام الفكر الاستتتاجي()» مما يجعل المدة البلزاكية تشتمل 
على: « حركة تقهقرية تصعد في مجرى الزمن قبل أن تنبسط من جديد في حركة 
تقدمية تحى الحاضر والمستقبل» فيتم الانتقال من النتيجة إلى السببء ثم من 
السبب إلى المتتائج؛ فالأمر يتعلّق ياستمرارية متناسقة:؛ ومدّة مليكة, » وحيز مليم 
يتمكن المؤلف خلالهاء بفضل البصيرة» حاسة اليصر الثانية أن يلم بالموضوع 
من جميع الجوائب. 

أيفسر هذا الاندساس المستمر للماضي أو للمستقيل في الحاضر؟ أهي 
تقلية: إِنْها رفيا لغال جاهية فيلزاك: بإلغائه الزمان والمكان يسيطر على ما 
أبد ع مقظرة واحدة تقر تجرد و التراميل بعد لصي الدادي اينم إلا 
في انقطاعهاء وتفايرها, 

لقد سخر الثقاد من البرعة والسهولة التي جددت فيهما مرغريت كلايس 





.778٠ص‎ ا١ذه٠. ج يوله: المسافة الداخلية: يلون‎ )١( 


م15 


الثروة الوراثية التي بددها-والدها؛ وقد عدل الروائي المتأثر بالنقد ‏ لكن بطريقة 
غير كاملة ‏ تأريخ سذوات منفى بلتزار في الطبعة التالية» هل يفضح: حقيقةً, 
هذا الحدث نقض الواقع لدى مؤّلّف يعتبر رغباته حقائق؟ إِنّهِ يبدى, بالأحرى, 
كنتيجة مباشرة لرؤياه للعالم. 
ما قيمة خمس أو سبع سنوات في نظر القرون وفي تاريخ أجيال آل 
كلايس؟ الأمر الرئيس ليس في التاريخ الزمني؛ إِنّه في الوقائع؛ في التتابع 
المنطقي: أي في تعاقيات عائلة «يراها» بلزاك في لوحة تتقارب فيها مئتا سنة؛ 
ومثل هذه الرؤيا تحدد بداهة تصور الزمن الروائي: تصور المدة» كما تحدد 
الطبع المتناسق لمن يحيطون بكلايس الذين تتجسيد بهم بالإجمال قوى البقاء 
المعارضة لقوى الهدم التي أطلقها الكيميائي. ش ا 
. المقصود في الواقع رؤية «إجمالية» وإذا كانت رؤيا عالم زولا تتوافق مع ' 
مبادىء فيزياء عصره. ودورة المال أو الدم في روجون ‏ ماكار() تخضع 
انسق محرك كارنى ذي الأزمنة الثلاثة: فإن بلزاك؛ من جهته قد اعتمد على مبدأ 
لافوازيه الذي لا يقتصر تطبيقة على الكيمياء وإنما يتحقّق أيضاً؛ من وجهة 
تنظرهء في جميع أعمال الخلق: «لا شيء يفني؛ ولا شيء يخلق؛ الكل يتحول, 
' وتاريخ عائلة كلايس يقدّم نموذجاً إيضاحياً رائعاً ويرهاتاً علمياً لهذا المبدأ عن 
'حفظ الطاقة. في الذرية السابعة من آل كلايس تتجابه قوى الهدم وقوى البقاءء. 
'ولإعطاء المئساة قيمة نموذجية: فإن العبقري الهدام باحث عن المطلق» إضافة 
.رلى أنه فلمندي؛ لكن قوى البقاء تتغلب عليه وتمحو الذرية الثامنة سيّئات الذرية 
'السابعة, فإذا حلت لوحات أخرى محل اللوحات السايقة:؛ ويدل الأثاث 
والسُجفء فإن مرغريت؛ في لحظة احتضار الكيميائي, قد أعادت إلى بيت 
كلايش بهاءٌ حديثاً. حرص بلزاك على أن يوْكّد أنه «يبعد كل فكرة عن 
الاتحطاط». ْ 


)١(‏ روجون ‏ ماكار: مجموعة من ٠١‏ رواية نشرها زولا بين 141/1 ى 1847 لتشكل التاريخ 

' الطبيعي والاجتماعي لعائلة في ظل الاميراطورية الثانية وفيها يطبق الطريقة العلمية وخاصة 
تطبيق قوانين الوراثة على دراسة الظواهر الاجتماعية. من هذه الروايات نانا وجرمينال 
الخ... 


14 


الكل يتحول لكن الكل يبقى؛ والتوازن الذي يؤمن وحدة العالم لن 
يستتبع بداهة غياب حركة تعني الموت؛ لكنه يستلزم حركة معوضة تتحدد خلال 
الزمان بالتعاقب وخلال المكان بالتباين. 

هكذا يتوضح في الملهاة الانساتية تعاقب الأجيالء والتعاقب الذي 
يتفسمر بالتيار» وهى مصدر غالب لمجابهات مأساوية: فأوجيني تجابه غرانده». 
التي.تبدى فيها طباع العائلة أكثر حدة مما في طبع أبيهاء كما يعترف هذا 
صراحة: وبالطريقة ذاتها يتصارع هنا بلتزار واينتهء وطبع آل كلايس فيها أكثر 
ظهوراً منه في أبيها؛ وكما عبر كاليست دي غنيك في بياتريس عن ذلك لأمّه 
بقوله: «ألا ترين أنّك بالعفة والتقاليد الجاهلة قد هيات النار التي تتقد في 
كياني؟ وكّما كمنت هذه النار كلّما كان تفجرها أكثر عنفاً. 

إلى المبدأ ذاته, تخضع الأقدار الشخصية في نتاج بلزاك. فوجود كل 
فرد يتشكّل كما يقول الروائي في أونورين: «من حوداث متنوعة: من آلام 
ومسرات متناوية» فحياة القلب» كما الحياة المادية» وكما الحياة الجسمية: أي 
التنفس, تخضع بالتناوب إلى مد وجزر؛ فأوغفوستين دي سومرقيى في مجد 
وشقاء لم تعرف إلا سنة واحدة من السعادةء لكنها قدّرت: قبل أن تموت وهي 
في السادسة والعشرين من العمرء أن هذا الحصاد الفزير من الحب هى حياة 
كاملة لا يمكن أن يسدد ثمنها إلا بالشقاء»؛ والنساء اللواتي كن سعيدات في 
البدء يحتفظن حتى النهاية في عيونهن المنذهلة بانعكاس روعة الحبء بينما 
اللواتي خنق حبهن الوليد في الحداد والدموع مثل أورسول ميروه أو مرغريت 
كلايس يتلقين يوماً» من يدى الحبّ التاج الأكثر اشتهاءً, التاج الذي تضفره 
السعادة؛ وتحافظ المثابرة على بريقه. 1 

هذا هى التوزان في الطبيعة الذي يعاقبء وفق قوانين تعويض صارمة, 
النهار والليل؛ والصيف والشتاء, والمد والجرز؛ والإبداع الروائي لدى بلزاك 
يخضع لهذه الرؤيا الإجمالية؛ القريبة جداً من رؤية علماء الطبيعة الذين 
يتحدثون عن التغير في الوحدة» ومن رؤية الفلاسفة مثل آزاييس» ومن قبله 


عا 


خاصة: أنطوان دي لازال(') مؤلف الموازنة المطبيعية» والروائي الصانع؛ الراغب 
في أن يري القارىء ما يراه هو بالذات» أي بالإحاطة بكامل القصة: يؤكد دون 
انقطاع وجوده بواسطة إشارة تعجب, أى كلمة؛ أو عبارة؛ تشير إلى الميزة 
الرمزية للحظة. إِنّه يقود القارىء في هذا الكون حيث يسود الرمز ويحيث 
تتجاوب الألوان: وحيث تظهر الأمكنة والمشاهد؛ قفي البحث عن المطلق, 
يجاوب عشاء عائلي عشاء عائلياً آخرء إِنّما منار بطريقة مختفة؛ والاحتقال 
بالذكرى السنويّة للزواج المزيّن بالشجيرات المزهرة: يقابله الاحتفال بعقود 
الزنواج حيث تشاهد مجدداً؛ على درجات السلم ذاتها؛ الشجيرات المزهفرة 
ذاتهاء فالإضاءات تتقايل؛ والتباينات تخلق التنوع المماثل لتنوع الطبيعة» في 
هذا الكون «الواحد» حيث يمكّل التناظر عنصر التوازن المميز, 


ش هل يترك القارىء لنفسه أن تنساق مع هذه القصة؟ السؤال بمجمله هو 
في الرؤية أى عدم الرؤية؛ في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد. من البديهي أن هذه 
الرؤيا الإجمالية التي تكتنف هنا قصة جيلين من عائلة, تنطوي هناء على 
مستوى الإنسان ومحاكمته بعض «ما هو مستيعذ الوقوع» مثل هذا التنجاح 
السريع جداً لفابرييل كلايس وإيمانويل دى سوليس في دروب الحياة, أى هذه 
العمليات الماليّة الميسرة والمجزية لمرغريت؛ لكن أيضر هذا البعد عن الاحتمالء 
المعزىٌ بصورة رئيسة إلى ارتفاع الرؤية. فعلاً إلى حقيقة هذه الدراسة عن 
الطبائّع, وإلى هذه اللوحة الفلمندية. وحتى إلى هذه الصورة عن رجل العبقرية 
ذي المغناطيسية التي لا يتمكّن محيطه من مقاومتها؟. 

إن الجواب يعود إلى القارىء؛ فهو حر في قبول أو رفض الافتتان بهذا 
العمل الآسرء حيث بهاء التنفيذ يتجاوب مع قدرة التصور في رواية الحب والعلم 
هذه؛ الأكثر «تمثيلاً» على الأرجع لبلزاك؛ الملاحظ والمستيصر.ء والباحث الخالد 
عن المطلق. 
مادلين أمبير بير 


3# * * 


)١(‏ دي لازال: (1544- 531١)؛‏ قصاص فرنسي تنسب إليه «مياهج الزواج الخمسة عشر, 
ومكة قصة جديدة. 


ا 


.0 ط ١ا/‏ اثرهؤةةا 


00 





0